قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

وعد الحرّ دين
*يونس الموسوي
أرأيت الذي يسترقّ نفسه للآخرين؟!
هل تعرف من هو؟!
إنه الشخص الذي يعد الناس، ولا يفي بوعده، وهذا ما حذر منه الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم) في أحاديثهم الشريفة حيث أنهم وصفوا الوعد على انه نوع من الرقّ، قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (الوعد أحد الرقّين، إنجاز الوعد أحد العتقين).
فأنت حرٌ ما دمت لم توعد أحداً بوعد فإذا وعدت أسقطت حريتك وأصبحت أسير الوعد الذي قطعته على نفسك، وقد يظن البعض أن في هذا الكلام نوع من المبالغة، لكن عندما ستعود إلى الواقع تكتشف حقيقة هذه القيمة، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتصرف إزاءها؟ فعن أبي الحميساء قال: بايعت النبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن يبعث فواعدنيه مكاناً فنسيته يومي والغد، فأتيته يوم الثالث، فقال (صلى الله عليه وآله): يا فتى لقد شققت عليّ، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيام). (بحارالانوار/ ج16- ص235).
لقد أثبت النبي الأكرم منذ ذلك الوقت حيث لم يكن مبعوثاً بالرسالة، ومن خلال هذه المواقف والصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة، أنه النموذج الأفضل للبشرية، ويعني أن النبي الأكرم كان قد تحرر من الوعد بحضوره في الموعد المحدد والمكان المعين، لكن صاحبه لم يفعل ذلك.
المشكلة قد تكون في قلة التوعية والتثقيف في مثل هذه المسألة الهامة التي قد يظن المسلمون أنها من المستحبات التي لايتوجب على الأفراد الإلتزام بها، فالمرء يقول في داخل نفسه أنني ألزمت نفسي بهذا الأمر ومن حقي أن أتحرر منه في أي وقت من الأوقات!!
والإنسان حر ما دام لم يعد بشيء، فإذا وعد أحداً سقطت حريته، بمعنى أنه أصبح ملزماً شرعاً وعقلاً بالوفاء بالتزامه، ولاينفك من هذا الإلتزام أبداً حتى يوم القيامة، وهو بمعنى إذا كان الرجل يستطيع فكاك نفسه من نقض الإيمان والعهود والنذور بالكفارة، فإن عدم الوفاء بالوعد لا كفارة عليه إلى يوم القيامة، والإنسان سيحاسب على ذلك الوعد، فهو هنا أشد من بقية الذنوب الأخرى التي يرتكبها الإنسان، وجاء في الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن رسول الله واعد رجلاً إلى الصخرة فقال أنا لك هنا حتى تأتي، قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله لو أنك تحوّلت إلى الظل، قال وعدته ههنا وإن لم يجئ كان منه الحشر). (مكارم الاخلاق، ص24)
وقد امتدح القرآن الكريم إسماعيل عليه السلام حيث وصفه الله إنه كان (صادق الوعد) وقد سأل الإمام الرضا (عليه السلام) أحد أصحابه قال: تدري لم سُمّي إسماعيل (صادق الوعد)؟ قال: لا أدري فقال له الإمام: وعد رجلاً فجلس له حولاً ينتظره. (بحارالانوار/ ج75، ص94)
ولكن هناك أشخاص وأمم ذكرهم القرآن الكريم أيضاً وكانوا المثل السيء لنكث العهد والوعد، فلماذا ينكثون العهود والوعود؟
إنهم يظنون الوعود والعهود مجرد كلمات ينطق بها الرجل وقتما شاء، وحين اقتضاء المصلحة، يستطيع التنصّل منها، أما لو افترض هذا الرجل بأن الوعد هو دينٌ عليه هل كان سيعد الناس على أشياء لايستطيع الوفاء بها؟
إن من يعد رجلاً بشيء، كأنما يقول له: لك دينٌ عليّ بمقدار مليون دينار!! فهل تظن أن هذا التشبيه صحيح؟
نعم؛ هذا التشبيه صحيح لأنه جاء على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى لسان أهل بيته (صلوات الله عليهم): (العدّة دين) (كنزالعمال/ خ6866) وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (إنا أهل بيت نرى ما وعدنا علينا ديناً كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله)، (بحارالانوار/ ج75، ص97)، بل وأشد من ذلك حيث يعد الإمام علي (عليه السلام) الوعد نقد وتعجيل كما ذكر عليه السلام (وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم تسويف وتعطيل).
وللأسف فقد يعرف بعض الأفراد بالتسويف والتعطيل، وهذا يسيء إلى رزقه وعمله، لكنه يظن بأن وعد الناس سيزيد في رزقه، فأنت تأتي إليه بعمل ينجزه أو يصلحه كأن تكون بذلة للملابس أو سيارة أو أحد الأجهزة المنزلية، فتعطيها للتصليح، فيقول لك أنه سينجزها خلال ثلاثة أيام، وتمضي الثلاثة أيام وتعود إليه فتجد أنه لم يصلحها بعد، فيأتي لك بشتى المعاذير والحجج حتى يبرر عدم إصلاحها في الوقت المناسب، فيوعدك وعداً آخراً ثمّ مرة أخرى ينكث وعده وهكذا..
وقد يظن الناس أن أمور الدين كلها للآخرة وهم لايعرفون بأن الإلتزام بها في الدنيا هو أنفع لهم في الدنيا قبل الآخرة، ومن ذلك هو الالتزام بالوعد، ولو أردنا حساب الوقت والجهد والثروة التي تضيع على أثر نكث الوعود والعهود لوجدنا أنها تبلغ الكثير، فالشخص الذي يعتمد على سبيل المثال على جهاز الحاسوب أو (الكمبيوتر) كأن يكون كاتباً أو إعلامياً أو غير ذلك فإن العطل الذي يصيب هذا الجهاز سيؤخر الكثير من الأعمال التي يمكن أن ينجزها هذا الشخص ولوضاع وقت طويل في تصليح هذا الجهاز لدى شركات الصيانة والتعمير، فإن هذا الكاتب سيعجز عن القيام بالكثير من أعماله، ولو حسبنا التأخير الذي يحدث لدى الشخص وبقية أشخاص المجتمع نتيجة لنكث وعود الشركات والمسؤولين عن صيانه وتصليح الأجهزة والمعدات فإن ذلك سيبلغ الكثير.
والسؤال هنا: إذا كنت تعرف بأنك لن تستطيع الوفاء فلماذا توعد الناس؟
أتظن بأن الوعد سيزيد من رزقك وعملك؟
إذا كنت تظن ذلك فاقرأ معي هذه الرواية: (عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرّض وذلك قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف/2-3).
ومن نافلة القول فان الوفاء بالوعد لا يقتصر على الناس العاديين والخائضين غمار الحياة في السوق والمدرسة والدائرة الحكومية، إنما تشمل أيضاً علية القوم من المسؤولين الحكوميين لاسيما المنتخبين منهم سواء على صعيد مجالس المحافظات أو على صعيد مجلس النواب، عليهم المزيد من الانتباه والحذر من مغبة الالتفاف على الوعود التي أطلقوها في حملاتهم الانتخابية والتي من خلالها أصبح يطلق على كل واحد منهم لقب (النائب) وهو مرتبة ومنزلة غاية في الاهمية سياسياً واجتماعياً على حد سواء.