قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
حضارة الأخلاق الفاضلة
وتعيها أذنٌ واعية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة •إن التنعم بنعمة السماع، يدعو الفرد ويحرضه على تطوير السماع، وتحويله إلى استماع واصغاء وانتباه وتلقّي.. بمعنى تنقية ممر الأذن وتطييبه، ثم انتخاب الرأي الصائب من بين الآراء التي يتلقّاها.
•من المهم جداً، أن يجعل الإنسان لنفسه ولسمعه مقياساً يميز به كلام الرذيلة من كلام الفضيلة.
*علي ضميري
من روائع الأخلاق الفاضلة، صفة يمثل الالتزام بها من جانب الإنسان خلاصاً له من كثير من المشاكل، وهي السيطرة على حاسة السمع، وتحويل الأذن إلى ممر لعبور الكلمات الصالحة والطيبة، فهذه الحاسة هي إحدى وسائل التلقي وارتباط الفرد بما يحيط به، ومن دونها، يحرم من شتى أنواع المعرفة والمعلومات عادة.
ومن الحري بالإنسان أن يمعن النظر في سبب تزويد الله سبحانه وتعالى له بأذنين اثنتين، بينما جعل له لساناً واحداً، كتعبير عن حكمة ربانية في خلق الإنسان عموماً، مفادها دعوته إلى مضاعفة السماع والاستماع، تبعاً لهذا التفاوت العددي المضاعف.
وكما اللسان والنطق به يعبّر عن مكنون ضمير ابن آدم، كذلك هو أمر الأذنين والإستماع بهما، حيث يمثل ميول الإنسان إلى اختيار استماع هذه الكلمة أو تلك، دون سواهما، من خلال رغبته في معرفة ما لدى الآخرين من كلام، وتلقّي الحديث الذي يختار هو ويفضّله هو.
وقد ورد عن المعصوم (عليه السلام): (من استمع إلى ناطق، فقد عبده. فإن كان ينطق عن الله، فقد عبدالله. وإن كان ينطق عن الشيطان، فقد عبد الشيطان)، وهذا النص المعصوم يترجم قوله تعالى ترجمةً حيّةً: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"، في معرض تمييز الله تعالى للمؤمنين الواعين عن غيرهم من العوام، الذين يتبعون كل ناعق.
فالله عزّ اسمه قد أجاز لبني البشر، إستعمال حاسة السمع، بشرط أن يكون استعمالاً مفيداً، ويصب في مصلحة معيشتهم الصالحة التي يرضاها الله خالقهم.
والتنعم بنعمة السماع، يدعو الفرد ويحرضه على تطوير السماع، وتحويله إلى استماع واصغاء وانتباه وتلقّي، بمعنى تنقية ممر الأذن وتطييبه، ثم انتخاب الرأي الصائب من بين الآراء التي يتلقّاها، وقال عز اسمه في موضع قرآني آخر: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً".
فالقضية ليس مجرد وجود حواس، لايختلف وجودها عما لدى سائر المخلوقات، وإنما الإنسان كائن مسؤول، يتحمل مسؤولية ما لديه من حواس ونعمات، فنعمة السمع شأنها شأن نعمة البصر والفؤاد، تتبعها مسؤولية جسيمة، لما لها من الدور والقابلية العظيمة، لأنها وسيلة مقدسة يفترض بالفرد استثمارها استثماراً صحيحاً مفيداً، ونوع هذا الاستثمار، تتحدد فوائده في دار الدنيا، ثم يعرض عليه في الدار الآخرة.
وليس متاحاً استثمار نعمة السمع إلا بعد إحراز الإنسان الورع والتقوى لدى صاحبها، أو لنقل: إن الإستثمار الطيب هذا يجسد أحد أبعاد الورع والسير في طريق التقوى والأخلاق الفاضلة نحو الجنة، وهو بكل بساطة، يكون بتجنب الباطل ولغو الكلام واستقبال الكلام الحق.
ولكن يبقى على ابن آدم التعرف على هوية الباطل وهوية الحق، وهذا بطبيعة الحال بحاجة إلى تفقه في الدين، ومستوى مقبول من التعرف إلى تفاصيل الإرشادات الدينية والأخلاقية التي حدّدها القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) بكل يسرٍ ووضوح، ولذلك من المهم جداً، أن يجعل الإنسان لنفسه ولسمعه مقياساً يميز به كلام الرذيلة من كلام الفضيلة، وهذا المقياس ليس سوى ما يوافق رؤية القرآن المجيد، وتعاليم المعصومين الأربعة عشر سلام الله عليهم أجمعين.
نعم؛ لايسعنا التأكيد على هذا الأمر إلا بهذه الصورة التي تبدو حديّة، لأن الأمر أساساً يتعلق بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولامناص من تعامل هذا الإنسان مع قضية الإستماع بكل قوة وجديّة، ولامجال لديه في المساومة والمداهنةن وهل غير هاتين الحالتين من يفسد على الإنسان حياته في الدنيا ومصيره في الآخرة؟
وليكن معلوماً لكل فرد، أنما يرفضه كتاب الله المجيد من الأقوال والكلمات، هي أقوال وكلمات ترفضها فطرة الإنسان وتكرهها أساساً، مثل قول واستماع الكذب، والتعرض لكرامة الناس وحرماتهم وأعراضهم، والفاحش من القول، والبذاءة، وسماع الغناء وما فيه من لهو وطرب، تبعد الإنسان وتنسيه ذكر الله تعالى، وهي ظواهر يتفق الشرع والفطرة في رفضها.
وثمة قضية مهمة للغاية، وهي ضرورة التبين والتحقق والتدقيق لدى استماع ما تعلنه وسائل الإعلام وتبثه الحكومات الظالمة - وما أكثر مرتزقتها وأبواقها مثل الإذاعات والصحف والفضائيات ووكالات الأنباء والمؤتمرات والخطابات- من أخبار وتحاليل وتلقيه من مفاهيم وثقافة ضالة.
ومن كان حريصاً على سلامة دينه وفكره ووجدانه، يجد نفسه ملزماً بالحذر كل الحذر من مسألة السمع، لأنه يراد منه تحمل مسؤولياته الشرعية والإنسانية والأخلاقية، ففي كل وقت هو مستهدف كل الاستهداف من قبل هذه الأبواق الشيطانية التي لاتريد سوى هدم دينه وكيانه كإنسان، فتجعله عبداً تابعاً لها ولما تنشر من أضاليل، مما يعني أنه مكلف بوضع صمام أمانٍ جديرٍ على أذنه، لئلا تكون ممراً ومعبراً لكل ما هبّ ودب من باطل الكلام.
وفيما يتعلق بحاسة السمع وضرورة تطهيرها من دنس الباطل والرذيلة، ثمة قضية أخرى، هي على قدر كبير من الأهمية، لما لها من تأثيرات أخلاقية ونفسانية سلبية أخرى، كونها تمثل مرضاً شائعاً، تساهم بشكل كبير في صناعة الثقافة الفاسدة، لاسيما بين شريحة الشباب، ألا وهي ثقافة الغناء وصخب الموسيقى، حتى أن من فرط انتشار هذه الثقافة، أضحى الحديث عن حرمتها والأضرار الروحية والأخلاقية الناتجة عنها، حديثاً مملاً وثقيلاًّ! وبات الكثير من الشباب المسلم - ومع بالغ الأسف- يجد صعوبة في استيعاب حرمتها الشرعية، وضررها على طبيعته العقلية والنفسية والثقافية.
فهناك من يكرّس نفسه ويغمسها في أوحال هذه الرذيلة، ويضيع عندها ساعات ثمينة من عمره، ويصغي لها بكل سمعه، وكأنها فرض مفروض عليه.
فيما هناك نصوص شرعية كثيرة، منعت مجرد سماع هذه الموبقة، فضلاً عن الاستماع - ونحن نعرف أن الاستماع هو السماع مع الانتباه وتوجّه الفكر والبال- وبيّنت أضرارها الدنيوية والأخروية، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يحشر المغني يوم القيامة أعمى وأصم وأكمه) أي أخرس، أما الإمام محمد الباقر (عليه السلام) فقد سأله رجل عن ماهية الغناء. فقال له الإمام: (إذا فصلوا بين الحق والباطل، ففي أية جهة يكون الغناء؟) فقال الرجل: في جهة الباطل. فقال له الإمام: (لقد أجبت نفسك بنفسك)، وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (البيت الذي فيه غناء لا يأمن المصيبة، ولايستجاب فيه الدعاء، ولا تدخله الملائكة)، وقال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): (من منع نفسه عن الموسيقى، جعل الله له شجرة في الجنة، يأمر الله الريح لتحرك أوراقها، ليسمع منها لحناً لم تسمعه أذُنُ بشر).
إن النفس الإنسانية ذات وقورة، بينما الموسيقى والغناء من جملة ما يجرها إلى التفاهة والخفة، حتى ينتهيان بها إلى السقوط في أوحال الرذائل والمعاصي.. لأن فيهما قوة غريبة تفقد الإنسان السيطرة على حركاته وممارساته، وحيث كان وجود الإنسان في الحياة الدنيا وجوداً حكيماً له أهدافه المفروض تحققها،فإنه ينبغي له أن يحمل وجوده هذا على محمل الجد، دون اللهو واللغو واللعب.