قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

أبناء الـ (دوت. كوم) يحرجون المرجعية الاجتماعية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عبد الكريم العامري*
أصبح مصطلح (العولمة) يشكل اللازمة في كل حديث عن قضايا التربية، التنمية، الاقتصاد، السياسة... ولا يقل نصيب العراق من سائر البلاد الاسلامية او لنقل النامية في العالم، حيث تتراكم الكتابات وتتوالى الندوات، تصطرع الأفكار والاتجاهات، وتتعالى الأصوات بالوعود البراقة من جانب ومتطلبات العولمة من جانب آخر، في سياق ضخ معلوماتي وافر، مما يصيب المرء بالإجهاد نتيجة التراكم، وصعوبة متابعة تلكم المعلومات، وبلورة رؤى صحيحة ومتكاملة حولها.
لكن ما هي أبرز انعكاسات هذا التحدي الحضاري على العلاقات الأسرية، وتحديداً على جيل الشباب ؟
ان رسم صور كبيرة وجذابة لتحولات كبرى في التقنيات، تترك اثرها السريع على صعيد علاقات الوالدين بالأبناء، قد يكون من أبرزها افساح المجال امام الشباب واعطاؤهم شيئاً من الاعتداد بالنفس، وايضاً تغيّر المرجعية الثقافية والاجتماعية .
أن الجيل الجديد يبدأ تكوينياً من حيث انتهى جيل آبائه، وما يستتبع ذلك من تأثيرات على الذهنية والسلوك. إلا أن العولمة حسمت أو في طريقها الى حسم مسألة الانطلاق والبداية لتكون هذه المرة من الشباب وليس من الآباء، ففي مختلف ميادين العمل الثقافي والاقتصادي، فالناشطون والتنفيذيون، في مختلف مجالات التبادل والإنتاج والاستهلاك، هم من الشباب. ومتابعة لردهات البورصة، ندرك أن معظم أبطالها هم من الشباب ذي القدرة الجسدية والنفسية العالية على التحمل ومقاومة الضغوط. كما أن قيادات العلم، وعباقرة الأنترنت والحاسوب، تشغيلا، واختراعا، وتطويرا جلهم من الشباب. تطالعنا الأنباء بفتية لم يبلغوا سن المراهقة، ينجزون اختراقات مذهلة، في مجال الشبكة العنكبوتية. يضع بعضهم برامج تتسابق عليها كبريات المؤسسات. فيما يخترق آخرون أنظمة حماية مواقع أكبر وأخطر المواقع على النت مثل البنوك العالمية والمؤسسات الامنية والدوائر السياسية، ساخرين من مباهاة الكبار بحصانة مواقعهم.
العولمة و نافذة الشاشة الصغيرة
إن تقنية الاتصالات وقواعد المعلومات هي، في الأساس، عالم الشباب. فإذا كان جيل الكبار المخضرمين يتعامل معها بدرجات متفاوتة من الكثافة والمهارة، فإن جيل الشباب يتعامل معها، باعتبارها أحد مكونات وجوده الرئيسية، فيجري هذا التعامل بسهولة وإلفة.
من هنا تشكل العولمة وحدة متكاملة مع الشباب، من خلال توجهاتها المستقبلية التي تدير الظهر للماضي وللبهوية، و تنطلق في مغامرة البحث عن الفرص وحماس الاستكشاف. وثمة ظاهرة جديدة في مجال المال والأعمال، تتمثل بتزايد عدد الشباب، من أصحاب الملايين، الذين جنوها من إنجازاتهم في تقنية المعلومات، أو من انخراطهم في أنشطة أسواق المال، بينما كانت الثروة سابقا لا تتحقق إلا بعد سنوات طويلة من الجهد لمن استطاع إليها سبيلا.
ظاهرة جديدة أن نجد العديد ممن هم في أوائل العشرينات من العمر، يتجنبون الوظيفة المستقرة، كي ينطلقوا في تأسيس الأعمال الخاصة بهم، مع ما فيها من مخاطرة ومغامرة، وهنا يجب ان نتذكر التزايد المستمر لنسبة الشباب في العالم مع ارتفاع سكان المعمورة. فاذا نسمع بعدد العاطلين عن العمل وفاقدي فرصة التعليم من الشباب، فهنالك بالمقابل نسبة لا بأس بها من المبدعين والطامحين الذين يحاولون تخطي سلّم التقدم.
ثم ان العولمة تعمل اليوم على مستوى الإعلام وثقافته الإلكترونية، فالبرامج المخصصة لهم في القنوات الفضائية. مثل الرياضة ومبارياتها، حيث يتابع الشباب الأبطال والناجحين، وكذلك الفن بمختلف اشكاله ويقف في المقدمة السينما والتلفاز، حيث يظهر شباب في أدوار مثيرة وجذابة يتابعها مشاهد من نفس العمر سواء من البنين او البنات. وهذا يدعونا للاشارة الى محتويات بعض او كثير من القنوات الفضائية التي تسعى للاثارة الرخيصة من خلال اللذة الرخيصة باثارة الغريزة الجنسية التي بالاساس في مرحلة الاثارة لدى المراهقين والشباب.
الانقلاب على المرجعيات
لقد أتيح للعولمة ان تطيح بالمرجعيات الثقافية والاجتماعية للشباب، فالتقنية والتطور العلمي وسرعة المبادرة وغيرها دفع بالكبار لان ينساقوا خلف ثقافة الشباب، او في أحسن الاحوال يستعينون بهم. في امور حياتهم.
فيما مضى من الزمن كان التقدم الحضاري يسير وفق قاعدة بداية الشباب من حيث انتهى الكبار، وكنا نشهد همّ الجيل الناشئ أن يتنافس مع الكبار، ويظهر له قدراته ومهارته ليأخذ مكانه في ساحة العهمل، بعد أن يتخذ منه نموذجاً، في مجال التلمذة او التربية الاسرية، وصولا الى بناء كيان ذاتي مستقل، يشكل تجاوزا لما سبقه. لكن مع هبوب رياح العولمة، تكاد الأدوار تنقلب بشكل كامل في العديد من مناحي الحياة، فقد أصبح الشباب هم مرجعية الكبار؛ بينما نجد أن هؤلاء الكبار بدأوا وبشكل متزايد يتخذون من الشباب الذين أنجزوا أمورا مشهودة في الفن والرياضة، والتقنية، مرجعية لهم. كأن جيل الشباب، بتوجهاته المستقبلية والإنجازية، في تسارع، لم يعد يحتاج الى خبرة الكبار!
المراهق نابغة الأسرة ومرجعيتها في مجال الحاسوب، كذلك في المدرسة. كبار المدرسين يتلقفون إنجازاته. أصبح الشباب هم المعلمين في مجال الحاسوب والأنترنت. لقد أحل الشباب، مرجعية الشبكة العنكبوتية (النت) محل مرجعية الأهل، على صعيد التعامل مع المعلومات واستكشاف العالم، الانفتاح على الدنيا وآفاقها المستقبلية. حيث أصبحوا حقاً (أبناء الدوت كوم)، بعد أن كان من سبقوهم أبناء آبائهم ومعلميهم. ومع تغير المرجعية بهذا الشكل، تتغير قواعد العلاقة بين الأجيال، حيث تكون قضية تنافس الأجيال شبه بائدة.
بالنسبة للخيارات التعليمية والمهنية المستقبلية، لم يعد الشباب يبحثون لدى الآباء والمعلمين، عن التوجيه المستقبلي، بل هم يجدون ما يحتاجون إليه في شبكة الأنترنت.
إن شباب النخبة لا يريد أن يسير على نهج السلف، يطمح الى بناء نهجه الخاص به، محققا، نجاحات متسارعة في زمن قياسي.
لقد أصبح الأبناء هم الذين يحددون كيفية قضاء الأسرة لإجازتها. لهم قول ذو وزن في المشتريات والمقتنيات، نوع السيارة، الأثاث، الملابس، المأكل. الكبار يجارون الشباب في المظهر، الأذواق، المشتريات.. تحولت القيمة من الهالة، التي كانت تحيط بالكبار وتفضيلاتهم بصفتها المثل الأعلى للأجيال الصاعدة، الى قيمة الشباب وحيويته. ما كان يعده الكبار تصابيا مذموماً، أصبح غاية مرغوبة يبذل الجهد في سبيل الوصول إليها. يبلغ الأمر حداً بالكبار ان يجهدوا للحصول على رضى الصغار !
تحولت المرتبية بين الكبار والشباب في الأسرة، من علاقة فوقية عمودية الى علاقة أفقية، من وصاية الى تكافؤ، شراكة، تشاور، تحاور..الكبار يسمعون كلام أبنائهم. دخلت العلاقة في عملية تذهب باتجاه مزيد من التبادل الأفقي والتوازن. بدلا من السابق التواصلي أحادي من الاسفل البداية والى الاعلى .
لقد أدخلتنا العولمة في حالة من الديموقراطية، مما يؤشر الى تحول اجتماعي عميق يجري بصمت تترك بصماتها في علاقة الوالدين بالأبناء، لاسيما ما يتعلق بالتأسيس والبنية التحتية.
لا تاريخ .. لامكان
من أبرز القضايا مما يجب التفاكر بشأنه، أن يستبدل بالتاريخ كتراث جماعي، بالتاريخ المستقبلي المصنوع فردياً على يد الشباب. باتت الهوية، أنت ما تصنعه بنفسك، ما تنجزه في مستقبلك. أما الجغرافيا والانتماء الى المكان، فان العولمة توجه الشباب للانتماء الى الكون الفسيح؛ المكان الافتراضي المتمثل بالأنترنت، بموازاة المكان الواقعي الذي نشأ فيه الشاب وترعرع. تحولت العلاقة بالمدينة، الى الشاشة الصغيرة؛ الحيز المكاني الزماني الذي ينتمي إليه جيل الشباب. بمعنى تحول العلاقة بالذاكرة، ذلك أن ربط جيل الشباب باللامكان، اللاتاريخ هو من مقومات مشروع العولمة.
لكن رغم ذلك فان التحول ليس عاماً، بل شبابي بامتياز، لا تطرح في حالتهم مسألة التمكن، بل يتعرضون لهدر الكفاءة والوعي، أزمة بناء كيان ذاتي، الفشل في مشروع الزواج ، البطالة.. لأن العولمة نخبوية كنظام، ليست معنية باستيعاب الكفاءات الشابة، بل تغذي مستوى معين من البطالة، و تزيد درجة التنافس في عرض قوى العمل على السوق. ومع التنافس، تنخفض التقييمات، وصولا الى تعظيم الأرباح التي تشكل المحرك الأساس لاقتصاد العولمة. ان حالة الغبن المفروض حيث يحترق الشباب بدلا من تحقيق طموحاته سيغرق في اللهو، الإدمان، الانجراف في التنظيمات المتطرفة، انها تعطيه نوعا من الخلاص. إن معاناة الأهل الصامتة لا تقل عن معاناة الشباب المتفجرة، التي تجد لها مخرجا في مختلف آليات تخدير الوعي، هنا يتوجب ايجاد وسيلة او بالاحرى نافذة نحو تحقيق الذات وتلبية المشاعر وتطوير القدرات. ان الشباب الهائل أحق بالوصول الى المخارج الملائمة مثل حسن الاستفادة من طاقاتهم وحيويتهم وتفهّم مرحلتهم العمرية التي يمرون بها وفق التركيبة والسنة الالهية.
*باحث اجتماعي