قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الصدق و آثاره على الفرد والمجتمع
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *حيدر حسين
يُعد الصدق من اعظم الصفات الانسانية، و أرقى الفضائل الاخلاقية ومن أهم الاسس في بناء المجتمع وسعادة الامة، اذ به يرتبط كل شأن من شؤون الحياة، وتتعلق به كل مصلحة من مصالح المجتمع، وبما ان الصدق هو مطابقة القول مع الواقع الخارجي، فانه يترك آثاراً ملموسة ومباشرة في حياة الفرد والمجتمع، وهذا ما يوصينا به الله عز وجل في كتابه المجيد: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة /119)، بل ان الصدق تُعد ايضاً قيمة انسانية لا تنكر بأي حال من الاحوال، لذا نلاحظ حتى المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية كان يصف نبينا الاكرم قبل البعثة بانه (الصادق الامين). إذن؛ فهي قيمة محببة للفطرة والنفوس، وليس من انسان راشد وعاقل ينكر الصدق ويحبذ الكذب.
هذه القيمة التي جعلها الاسلام في صميم البناء الاجتماعي والحضاري، نجد لها كل الاثر في تنظيم علاقات الفرد بالمجتمع، وكذلك بين افراد الاسرة الواحدة الذين يشكلون المجتمع الصغير. ومن ثمار الصدق حالة الثقة المتبادلة التي تمكن المجتمع من العيش في ظل علاقات متواصلة ورصينة وعلى المستويات كافة، سواء في البيع والشراء او في الزواج وغيره. وبخلاف ذلك، نلاحظ – ولو في حالات معدودة- كيف يكون الكذب وانعدام الثقة على شكل معوّل هدام لأية علاقة بين البائع والمشتري او بين الجار وجاره او بين المعلم وتلميذه وحتى بين المسؤول الحكومي والمواطن وهكذا القائمة تطول... يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (الصادق على شرف منجاة وكرامة، والكاذب على شفا مهواة ومهانة).
وعلى صعيد الاسرة او المجتمع الصغير، نجد الصدق يمثل حجر الاساس في بنائه الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما بني بناء في الاسلام أعظم من الزواج)، لكن اذا نخر فيه الكذب وساد انعدام الثقة، سيفقد الدفء في العلاقات الزوجية والثمار الطيبة في العلاقات بين الابوين والاولاد، ولن هنالك مستقبل في التربية والتعليم ولا عنصر مفيد للمجتمع، إنما افراد ملئوا بطونهم من الطعام واكتسوا الثياب وحسب، أما السلوك والقيم ونظام الحياة فانهم يأخذونه من الشارع او النادي او صالات التجميل وهكذا...
من هنا نعرف ان المشاعر الصادقة والطيبة التي تخيم على العلاقات الأسرية، تنعكس بشكل مباشرعلى الواقع الاجتماعي، فتجعل العلاقات الاجتماعية متماسكة ومترابطة، وفي خطوة اخرى اكثر اهمية مما سبق، يسمو الانسان بصدقه في علاقته مع ربه وخالقه، من خلال ايمانه الصادق بالله عزوجل وبرسوله وبكتابه المجيد وبكل الثوابت والحقائق الدينية. ونجد هكذا انسان لا تمر عليه الاقاويل والاباطيل دون ان يعرفها ويتأكد من صدقها لأن جذور هذا الفرد نابعة من مجتمع يعطي للحقيقة والمصداقية الاهمية الاكبر، فهو يخشى ان يكون ممن تقول عنهم الآية الكريمة: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ" (الزمر /32).
اذن؛ عندما يكون الفرد والمجتمع صادقين فيما بينهم سيكونون صادقين مع الله عزوجل، وذلك من خلال تصرفاتهم واعمالهم وتكون نيتهم خالصة لله عزوجل، فالذي لم يعتد الصدق بينه وبين صديقه او احد افراد اسرته او أي شخص آخر، كيف سيتمكن من الصدق مع الله تعالى، علماً ان آلية الصدق والكذب تمر عبر اللسان ، فهو الذي يصدق او يكذب، بينما العلاقة بين العبد وربه علاقة معنوية – قلبية، فهو يقول بينه وبين نفسه: (لن ارتكب المعصية) او (أتوب) ولم يسمعه سوى الله تعالى، لكن لا يلبث ان يقترفها ويكرر الخطأ والذنب، لان لا يوجد امامه حرج او مسائلة من اقرانه او افراد مجتمعه. يقول الامام الباقر عليه السلام: (ألا فاصدقوا ، فان الله مع الصدق).
وللصدق فوائد اخرى للانسان فهو مجلب للخير و للبركة وزيادة في الرزق، وليس كما يتصور البعض بانه يعرض الانسان في معظم الاحيان للخسارة والمضايقة والحرج، هو ربما يكون كذلك، لكن ليس في كل الاحوال. تكفينا هذه القصة المعبرة والطريفة – بعض الشيء- عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري – رضوان الله عليه- فقد كان الى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله لحظة محاولته الخروج خلسة من مكة لتجنب أذى المشركين، وقد توعدوا أن يقتلوه ويقضوا على الرسالة وينتصروا لأصنامهم وآلهتهم الحجرية. وعندما لم يجد النبي حيلة للخروج من مكة دون ان يلاحظه احد، بادر اليه أبو ذر وبكل عفوية وبساطة، وقال: أفرش ردائي لك يا رسول الله وانت اجلس فيه وساحملك على ظهري ونخرج من المدينة...!! وفعلاً قام هذا الصحابي البطل بهذه المغامرة، وعندما رآه عتاة المشركين في ابواب مكة، استوقفوه وسألوه عما يحمل، فقال: (محمدٌ على ظهري)....!! فما كان منهم إلا الضحك الطويل والسخرية، ثم فسحوا له الطريق وخرج، وبذلك يكون النبي قد نجح في عملية الهجرة العظيمة والمباركة من تلك اللحظة المباركة ايضاً. ومذاك كان النبي يهتف: (النجاة في الصدق).
وبالحقيقة فان الحديث عن الصدق طويل ومتشعب، لما له من اهمية وتضلّع في الحياة الفردية والاجتماعية للانسان، فهناك الصدق مع النفس والصدق مع الله تعالى والصدق بين افراد المجتمع وفي العلاقات الاسرية، ولكل حقل حديث مفصل، لكن (ما لا يدرك كله لا يترك جلّه). فالصدق بالحقيقة يشكل اليوم قيمة حضارية في العالم، لذا نسمع في الاعلام الضجيج والصخب الذي يثار على مسؤول حكومي يتبين كذبه على شعبه بوعد كاذب او قضية خيانة وغير ذلك، ثم يطرد من منصبه حتى وان كان رئيساً للجمهورية ويعاقب ويخزى امام الجميع. وقد اوصانا الاسلام منذ بزوغ فجره وتأسيس اول مجتمع اسلامي في المدينة على يد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله بصدق الحديث، حيث يقول: (الصدق مبارك والكذب مشؤوم)، ويقول امير المؤمنين عليه السلام: (الصدق صلاح كل شيء، والكذب فساد كل شيء). ويقول الامام الصادق عليه السلام: (من صدق لسانه زكى عمله)، اي صار عمله ببركة الصدق زاكيا ناميا في الثواب.
ان التزامنا بهذه التعاليم في كتاب الله والسنة الشريفة فيما يتعلق بصدق الحديث وتجنب الكذب بكل اشكاله، من شأنه ليس فقط سعادة حياتنا اليومية ، بل يضمن لنا التقدم والرقي في المسيرة السريعة التي تتسابق فيها الأمم، وحريٌ بنا ونحن نحمل كل هذا الكم الهائل من الاحكام والنصائح والعبر، ان نكون صورة نموذجية رائعة للصدق، يتعلم منها اي انسان في العالم. بحيث يكون المسلم والصدق جزءا واحدا لا يتجزأ.