قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

رؤى في قضايا الاستبداد والحرية (1ـ2)
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة الشيخ فوزي آل سيف
لا يزال الاستبداد في صوره المتعددة هو البلاء الأكبر الذي ابتليت به هذه الأمة، ولا تزال متوالياته السيئة تعيد إنتاج نفسها في المجال السياسي والديني والثقافي والاجتماعي..
وإذا كان الاستبداد في زمن مضى يعني سيطرة فرد على الأمة وانفراده بسياسة أمورها من دون مشورة أو مساءلة، فإنه قد (تطور) في هذا الزمان ليصبح استبداد العائلة أو الحزب أو أخيرا الدولة! وكان من متواليات الاستبداد قمع الرأي الآخر، ومنع المختلف -أيا كان دينيا أو مذهبيا أو سياسيا- من حرية التعبير بالرغم من أننا نجد أن هناك مناخاً واعداً يستفيد من الظروف القائمة في تكريس المطالبة بحرية الرأي كمفردة من مفردات الإصلاح السياسي في بلادنا المسلمة.
إننا نعتقد أنه ينبغي السعي إلى تحويل الثقافة الناقدة للاستبداد والمبينة لآثاره السيئة، وتلك المطالبة بحرية التعبير عن الرأي إلى ثقافة شعبية عامة.. فإنه قد يلاحظ المتأمل أن هذه المواضيع بقيت غالبا مواضيع النخبة تناقشها في مؤتمرات، أو دراسات، بينما كان المصطلي بآثار الاستبداد وقمع حرية الرأي بشكل مباشر عامة الناس، ولذا كان ينبغي أن تكون هذه الثقافة جزءا من التكوين الفكري الشعبي، حتى يتحصن الجمهور من آثارها السيئة ويحاربها عند حدوثها.
الاستبداد السياسي وآثاره المخربة
قال الحسين بن علي عليه السلام : ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غير ..
ثورة الحسين كانت الصرخة الأعلى في وجه الاستبداد في الأمة، وبمقدار ما يكرر الاستبداد نفسه في صورة تمجيد أصحابه تتكرر صرخة الحسين(ع) .
ماذا يعني الاستبداد ؟
تعريف الاستبداد : هو الاستئثار والاستحواذ ، والانفراد بالرأي في شؤون الجماعة فهو اغتصاب لحق مشترك، ثم اكتسب هذا اللفظ معنى سياسيا ، فأصبح يشير إلى نمط من الحكم ، فيقال حاكم مستبد ونظام استبدادي .
والاستبداد قد يقابله : المشاورة وجمع آراء الناس ، وقد يقابله الحرية في النظام والنظام الحر أو الديمقراطي أو الذي يعتمد الشورى .
من هو المستبد ؟
قد يتصور أن النظام السياسي هو الوحيد الذي يعنوَن بالاستبداد ، وهذا وإن كان أظهر وأوضح أنحاء الاستبداد ، إلا أنه لا ينحصر به ذلك أنه في كل شخص يوجد مشروع استبداد لو لم يسيطر عليه بالتهذيب والتربية، في كل شخص مشروع طغيان وتفرد ..
ـ الوالد في بيته قد يكون مستبدا : عندما يفرض الصحيح والغلط من الأمور لا لشي إلا لأنه قوله ، وأن كلمته لا تتثنى وقوله لا يراجع ، وإذا قال : لا يقال له كيف ولماذا ؟ والأم قد تكون مستبدة في حق بناتها عندما تتحكم من دون تعقل ، ولا مشاورة ، ترفض زواج ابنتها من فلان لأنها لا تشتهي أمه !
ـ و الزوج من الممكن أن يكون مستبدا عندما يتصرف على طريقة ( كيفي ) ويقسر زوجته على شيء لأن كيفه هكذا !
ـ المسؤول في الدائرة ، هذا إن صح التعبير عنه وإلا فإننا في كثير من المواقع قد نقلنا المصطلح ولم ننقل الثقافة والمعنى ، المسؤول يعني أن هناك من يحاسبه ويعرضه للمساءلة ، وهذا لا واقعية له في كثير من بلاد المسلمين ، هذا المسؤول الذي يتعامل بطريقة : (أنت تعلمني شغلي) ! والتهديد بعدم إنجاز العمل للمواطن .. إذا ناقشه في طريقة الانجاز ، أو مدته !
ـ المدرس في المدرسة مع الطلاب : حين يتحول في بعض الأحيان إلى طاغوت يسلط سيف رعب الدرجات و( الترسيب ) في الامتحان على من لا يعجبه في صفه ! ويستعذب تذلل الباقين له وتوسلهم إلى ( حضرته ) حتى يتفضل عليهم بالرضا !
ـ رجل الدين ، من الممكن أن يبتلى بالاستبداد ..وهو الذي ينبغي أن يكون مثالا لمقاومة الاستبداد بالرأي والاستبداد السياسي ، قد يتحول هو بدوره ـ في غفلة عن دوره ـ إلى مستبد باتباعه وجماعته ، فيتعامل معهم كما يتعامل المستبدون مع رعاياهم !
ـ بل الانسان العادي في المجتمع أيضا من الممكن أن يمارس استبداده في حدود قدرته..
ـ وهكذا الولد مع أخيه وأخته ، عدم القبول حتى بالاستماع ، يشير إليه : اسكت لا أريد أن أسمع نصيحة !
هذه كلها أمثلة على مشاريع استبدادية في أفراد متنوعين من الناس ، مما يعني أن الأمر لا يقتصر على المستبد السياسي ، وإن كان من آثار الاستبداد السياسي إعادة انتاج الاستبداد في الأمة ، وتدوير آثاره في التشكيلات الاجتماعية من أسرة وغيرها .
لكننا في البداية سنتناول الاستبداد السياسي ، و سوف نستعين هنا بكلمات اثنين من رجال الإصلاح في الأمة وعلماء الدين ، الأول : هو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي والثاني :هو الشيخ محمد حسين النائيني .
الاستبداد ـ كما قال الأول ـ : هو تصرف فرد أو جماعة في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة .
وأما النائيني فقال : هو استيلاء وتملك يتعامل فيه السلاطين مع الرعية كما يتعامل المالكون مع أموالهم الشخصية ويعدّون الناس عبيداً لهم، وربما تطاول بعضهم فقال : أنا ربكم الأعلى وأنه لا يسأل عما يفعل.
الاستبداد في تاريخ المسلمين :
يتفق المسلمون على أن المرحلة التي تلت عصر أمير المؤمنين علي(ع) كانت بداية الملك العضوض ، الاستئثاري والاستبداد السياسي ، وفُسر ما نقلوه عن النبي ? : إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلا ، اتخذوا دين الله دغلا ومال الله دولا وعباده خولا
ويمكن للمتأمل أن يلاحظ السياسة العامة في هذه الحكومة ، فيرى أنها استبدادية في أصل تولي السلطة حيث أنها لم تأت من خلال مشورة الناس ، فضلا عن النص الشرعي ، ولم يكن أولئك الحكام يمتلكون الصفات التي تؤهلهم لقيادة الناس ، كما هو واضح في سيرتهم واستبدادية في إدارتها للشأن العام، ولا ينكر أولئك الحكام استبدادهم بل يظهر ذلك من خلال أقوالهم العامة للناس :
ـ فقد ذكر المؤرخون أن معاوية بن أبي سفيان لما أراد أخذ البيعة لابنه يزيد ، قام الخطباء واحدا بعد الآخر لكن سيد الخطباء كما وصفه معاوية كان يزيد بن المقنع الكندي الذي قال : أيها الناس أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ قاد الملك ، فإذا مات فوارث الملك هذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، فمن أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ ! واستحسن معاوية ذلك منه ، وقال اجلس فأنت سيد الخطباء !!
وابنه يزيد في موقفه تجاه الامام الحسين (ع) فإنه قد بعث رسالة لواليه على المدينة الوليد بن عتبة : أن يأخذ الحسين وابن الزبير وابن عمر بالبيعة أخذا شديدا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا .. وفي نقل آخر : إن بايع الحسين وإلا فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه .
ومن ذلك أيضا ما ينقل من قول الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان : لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ، وإن الجامعة التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد لعندي، وقول الحجاج الثقفي : والله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من غيره إلا ضربت عنقه .
إننا نعتقد أن من أعظم الجرائم التي تحققت على يد النظام الأموي في تاريخ المسلمين تكريس حكم الاستبداد كما لو كان هو طريقة الإسلام في الحكم بحيث أصبح هو النموذج منذ أن كرسه معاوية بن أبي سفيان بتولية ابنه يزيد ، مع أنه غير مناسب لذلك الموقع بحسب النظرة الدينية ، وغير مؤهل بحسب الكفاءة الذاتية ، ولم يأت برأي الناس ومشورتهم .
جيء بهذا النموذج ، فتكرس في الأمة حالات الاستئثار بأموال الناس من قبل فئة قليلة هي التي تحيط بالمستبد ، وأصبح غير هؤلاء وهم عامة الناس في حالة حرمان عام ، سواء من حقوقهم الاقتصادية أو السياسية .
ولم يقتصر الأمر على زمان معاوية بحيث يكون ذلك الزمن فترة طارئة لا تلبث أن تزول ، وإنما أصبح منهجا وطريقة في الحكم ، خصوصا مع عدم تبلور منهج آخر في الحكم بعدما اختلفت طرق الحكم في أيام الخلفاء بعد وفاة رسول الله (ص) ولم تتح الفرصة لأمير المؤمنين (ع) لكي يواصل ما بدأه ..
صار الحكم الاستبدادي الوراثي غير المعتمد على الكفاءة ولا على رأي الناس وانتخابهم ، هو النموذج لحكم الإسلام ، والصورة الظاهرة له ، واستمر طيلة أيام الأمويين بل حتى الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي عُرف بحسن فعله ، إلا أن وصوله إلى الحكم كان على أساس هذا التوريث ولم يكن من خلال رأي الناس ، فضلا عن التنصيب الديني !
والعباسيون ـ والمفروض أنهم جاؤوا على خلفية معاداة الأمويين ومحاربتهم إلا أنهم لما حكموا ـ تمثلوا نفس المنهج تماما ، سواء في أصل الحكومة والوصول إليها ، أو في تفاصيل إدارة الاقتصاد والسياسة، واستمر الوضع في بلاد المسلمين هكذا حتى جاء العثمانيون بنفس الطريقة ومارسوا نفس الأساليب ، ومن النادر أن نجد فترة من فترات المسلمين قد خلت نهائيا من هذا النموذج ..