قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الحر الرياحي..
يقظة الضمير والاختيار الموفق
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة كاظم ناصر السعدي
في واقعة الطف نجد شخصيات انسانية وضعها قدرها في امتحان صعب، هو أن تختار واحداً من أمرين: إما التزام نصرة الحق فتنال رضا الله سبحانه وجزاءه الاوفر في نعيم الآخرة وإما التزام نصرة الباطل فتنال رضا السلطان وعطاياه وتتمتع بالحياة المرفهة الناعمة.
والحر الرياحي مثال رائع من بين تلك الشخصيات الانسانية التي اختارت الوقوف مع الحق وهي تعلم علم اليقين بان ثمن هذا الاختيار باهظ جداً وهو التضحية بالنفس، لكنه بالرغم من ذلك لم يتخاذل ولم يتردد بل حسم قراره لصالح الحق والمبادئ السامية، فمواقف الاحرار هي نتاج ما تمليه عليهم ضمائرهم الحية النقية والتي لا يستهويها غير الحق والعدل، ولا تنحاز الا الى الشرف والفضيلة، فحين سقط الحر شهيداً قال فيه الحسين (ع) كلاما بليغا ومؤثرا هو بمنزلة وسام شرف على صدر فارس تميم ناله بجدارة واستحقاق بعد ان قاتل ببسالة معه لنصرة الحق: (انت كما سمتك أمك حرٌ في الدنيا وسعيدٌ في الاخرة).
اقول: بفضل هذا الموقف صار الحر علامة مضيئة من علامات تاريخنا الاسلامي ورمزاً روحياً من رموزه الخالدة، لقد اختار الحرية سبيلا الى الحياة الابدية الكريمة في جنة الخلد وآثرها على حياة العبودية في دنيا مصيرها الفناء والزوال.
حقا هو كما قال الامام الحسين: حرٌ اسماً وموقفاً. هذا الفارس الشجاع جره قدره الى وضع صعب للغاية، شعر فيه بالتناقض الحاد بين ما يتطلبه الواقع والحالة المفروضة عليه وبين ما يتطلبه الانتماء الى الحق، وكان عليه أن يختار بين انسانيته وبين انسجامه مع واقعه ومجاراته له وهو يعلم انه باختياره انسانيته ووضع نفسه بجانب المظلوم يجابه الموت المؤكد ومع ذلك اختار تحقيق انسانيته بمعانقة الموت.
كان الحر في بداية الامر خارج حلبة الصراع السياسي لكنه اكتشف وهو يراقب تطورات الاحداث الدرامية عن كثب انه قد أُقحم في التزام يناقض حسه بالعدالة، و وجد نفسه في حال تتناقض فيه الادعاءات والالتزامات فلم يعد بامكانه البقاء محايدا بل لا بد ان يكون مؤيدا ومناصرا لما يمليه عليه عقله، انه الحق فعندما أدرك الحر انه مطالب من ضميره وانسانيته بالعدالة وذلك بمؤازرة الحسين الذي كان قد أوكل اليه ايقاف مسيرة ركبه ومنعه من دخول الكوفة، فانه وجد نفسه امام خيار صعب ومعقد للغاية، كما وجد نفسه في موقف هزّ كيانه بعنف، وهو يخيّر نفسه بين الجنة والنار.
كان الحر الرياحي بسبب صراعه النفسي الحاد يشعر بالقلق والحيرة والحذر ازاء المهمة التي كلف بها وهي صد الامام الحسين وحصره في المكان الذي يصادفه فيه، ذلك انه كان مؤمناً ان الحسين رجل صالح ومن اهل بيت النبوة فلا يمكن ان يكون الا صاحب حق شرعي وقضية عادلة من جهة، ويرى من جهة ثانية ان عليه ان يجاري ويحابي السلطة الحاكمة وواقعها ليحافظ على مصالحه ومركزه الاجتماعي المرموق، غير ان اشتداد الصراع النفسي في داخله لحظة بعد اخرى منذ استلامه الامر جعله يحس بالتمزق والرهبة وقد تجلى احساسه هذا في هاجس ضميره الذي كان لا يفارقه ولا يدع له مجالاً إلا ويحاوره فيه تعبيرا عما كان يستبطنه الحر من التزام بقيم الخير والشرف والفضيلة وقد اتضح ما كان يخفيه الحر، كتجسيد لازمه حين سمع منادياً غير مرئي يناديه من خلفه يبشره بالجنة حينما خرج من داره متوجها نحو قتال الإمام الحسين، وفي حقيقة الامر لا يكون التبشير بالجنة الا لعبد صالح ذلك هو الحر الرياحي الحقيقي الكامن في اعماق النفس والضمير. فقال الحر: يا مولاي اني لما خرجت من الكوفة عقد لي ابن زياد رايات وأمرني على الف فارس واذا بمناد خلفي يقول: ابشر يا حر بالجنة. فقلت في نفسي: هو الشيطان يهتف بي ابشر بالجنة وانا سائر الى حرب الحسين بن بنت رسول الله. فقال الحسين (ع) : ان المنادي هو الخضر أمر ان يبشرك بالجنة لعلمه تعالى بعاقبة الامور.
وكتجسيد لحالة الحر النفسية الجديدة بعد توبته بين يدي الحسين ولشعوره بالاطمئنان جراء الاهتداء الى الحق بمناصرة الامام، كان يخشى على نفسه من نذير عاقبة المعصية الذي طرق باب ضميره بعنف وهو نائم يحلم بأبيه يكلمه بلهجة تحذير وتوبيخ، لذلك كان يستعجل الجهاد ويطلب الاذن من الحسين لخوض الحرب ضد اعدائه فجعل يستأذن للجهاد ويلحّ في الطلب، والامام يقول له: أنت وافد إلينا وضيفنا، دع حتى يبارز غيرك.
وهذه الرؤيا هي إنعكاس آخر للحالة النفسية الكامنة في اعماقه واجهه النذير في نومه قبل يوم من انضمامه الى معسكر الحسين اي قبل يوم من صراعه النفسي الذي كان يدفعه بقوة الى الحسين وهذا يعني ان الحر في اصله وجوهره حر الرأي والضمير والموقف وطيب الاخلاق والسريرة، وقد اعاده هاجسه الذي لامه وظل يحاوره ويحدثه منذ لحظة خروجه من الكوفة الى لحظة اخبار الحسين بما رآه في منامه من قصة انذارٍ اعاده إلى نور الايمان والعقيدة الذي كان في قلبه وضميره بعد ان ايقظه من غفوته، فالمبشر اخبره بالمآل والمنذر حذره من البقاء على الحال.
ما أحوجنا اليوم الى المواقف المبدئية والاخلاقية الشجاعة والى اختيار ما يمليه علينا العقل الراجح والضمير الحي في زمن تعددت فيه الاختيارات وزادت الاغراءات.