قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

رحلة مع الشيخ المحدّث عباس القمي (رضوان الله عليه)
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة إعداد: ضياء العيداني
اسمه ونسبه:
هو الشيخ عباس بن محمّد رضا بن أبي القاسم القمّي.
ولد الشيخ القمّي في نحو عام 1294 هـ بمدينة قم المقدّسة، وكانت شخصيته (رضوان الله عليه) مصقولة بالعلم والورع والأخلاق والسير على منهج أهل البيت (عليه السلام)، واهتم بالدرس والتدريس والتأليف والتدوين والوعظ والإرشاد، أمضى طفولته وشبابه في قم المقدسة، ودرس فيها مرحلة المقدّمات، والفقه والأُصول، ثم سافر إلى مدينة النجف الأشرف لإكمال دراسته هناك، وكانت له رغبة شديدة بدراسة علوم الحديث، مما يعلل ملازمته العلاّمة المحدّث الشيخ حسين النوري الطبرسي، لينهل من علومه في هذا المجال، وأخذ يساعده في استنساخ كتابه المعروف (مستدرك الوسائل)، ثم عاد الى مدينة قم أيضاً بعد رحيل أستاذه النوري وتدهور وضعه الصحي، وبعد عودته انشغل بالتأليف والترجمة والوعظ والإرشاد ثم شدَّ الرِّحال إلى مدينة مشهد المقدسة، وبعد أن استقر فيها إلى جوار الروضة الرضوية المطهّرة عاد إلى التدوين والتأليف والإرشاد وتدريس علم الأخلاق، وأقام هناك مدّة اثنتي عشرة سنة، وفي عام 1341 هـ شرع، في مدينة مشهد المقدسة بإلقاء دروسه في علم الأخلاق، بمدرسة الميرزا جعفر للعلوم الدينية، استجابة للطلبات التي وجهها إليه طلاّب الحوزة العلمية هناك، وشيئاً فشيئاً ازداد عدد الطلاّب الذين يحضرون درسه حتّى بلغ تعدادهم ألف طالب، فطلب منه علماء مدينة قم المقدّسة العودة إليها، لحاجة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي إلى أمثاله، لتشييد أركان الحوزة العلمية الفتية في مدينة قم المقدّسة والتدريس بها، فاستجاب لطلبهم، وعاد إلى مدينة قم المقدَّسة.
صفاته وأخلاقه: نذكر منها ما يلي:
أوّلاً: اهتمامه بالتأليف: كان من أخص خصوصياته اهتمامه بالتدوين والتأليف والترجمة، وقد نقل عنه كثيرون هذا الاهتمام، ويقول ابنه الأكبر حول تعلّق والده بالكتابة: عندما كنت طفلاً كنت أرى والدي مشغولاً بالكتابة من الصباح وحتى المساء دون انقطاع، وحتّى عندما كنا نسافر إلى خارج المدينة، وقد نُقل عنه أيضاً أنه كان عندما يدرّس أو يؤلف فإنه يتوضأ ثم يستقبل القبلة كعادة له.
ثانياً: اهتمامه بالآخرين : كان الشيخ القمّي مراعياً لأصدقائه ورفاقه بشكل منقطع النظير، فعندما كان يرافقهم في السفر فإنّه كان يهتم بهم اهتماماً كبيراً، ويحترمهم ويعاملهم بالأخلاق الحسنة.
ثالثاً: زهده: كان زاهداً في دنياه، مبتعداً عن مظاهر الترف، غير متعلّق بالمظاهر الدنيوية الزائفة، وقد نُقلت قصص كثيرة عن زهده، ننقل واحدة منها للعبرة، في إحدى المرّات جاءته امرأتان من مدينة بومباي الهندية، وأبلغتاه عن رغبتهما بتقديم مبلغ شهري قدره خمس وسبعون روبية، فامتنع الشيخ القمّي عن قبول المبلغ، فاعترض عليه أحد أبنائه، فردَّ عليه بشدَّة قائلاً: اسكت، إنّ الأموال التي صرفتها في السابق ولحد الآن لا أعرف كيف أجيب عنها غداً عند الله عزَّ وجلَّ، وعند صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)، ولذلك امتنع عن قبول هذا المبلغ حتى لا أعرِّض نفسي إلى ثقل المسؤولية.
رابعاً: تواضعه: كان يتواضع للجميع، وعلى الأخص العلماء منهم، يحدّثهم بأخبار أهل البيت (عليهم السلام)، ويتعامل معهم بأخلاق الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وكان من عادته عدم الجلوس في صدر المجلس، فهو يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يقوم بتفضيل نفسه على الآخرين.
خامساً: نفوذ كلامه: كان لكلامه وخطاباته تأثيرٌ في نفوس سامِعِيه، لأنّه عندما كان يدعو الناس إلى الالتزام بإحدى العبادات أو خلق من الأخلاق، فكان يُلزم نفسه أوّلاً، ثمّ يدعو الناس إليه، فهو يضع على الدوام نصب عينيه الآية الشريفة: "كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" (الصف / 3).
سادساً: عبادته: كان الشيخ القمّي متقيِّداً بالعبادات المستحبّة، مثل النوافل اليومية، وتلاوة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية والأذكار عن الأئمّة (عليهم السلام)، وكذلك إحياء الليل بالعبادة وإقامة صلاة الليل، وفي خصوص ذلك قال ابنه الأكبر: لا أتذكر أنّه في ليلة ما تأخّر في النهوض للعبادة حتّى في السفر.
سابعاً: ورعه، ويروى أنه استأجر ذات يوم حماراً ليزور أحد أصحابه وعندما تقابل مع صديقه، سلمه الصديق كتاباً قد استعاره من الشيخ فرجع الشيخ الى بيته ماشياً دون ان يركب الحمار، وعندما سأله صاحب الحمار عن السبب قال: لأني اسـتأجرته منك بمفردي ولم اتفق معك على حمل شيء آخر عليه!
ثامناً: إخلاصه: كان الشيخ عباس القمي يدرس العلوم الربانية في النجف الاشرف وعند رجوعه الى ايران في أيام العطل كان أبوه (والد الشيخ عباس) يقول له: بني تعال معي الى خطبة الشيخ الفلاني فإن مواضيعه رائعة، فيسأل الشيخ عباس: وما هي المواضيع يا أبتاه، فيبدأ الأب بسرد القصص الإسلامية الرائعة، فعلِم الشيخ عباس القمي بأن هذه القصص والعبر مصدرها أحد الكتب التي ألفها هو بنفسه وهي (منازل الآخرة) فأراد ان يقول له يا والدي هذه من كتبي وتأليفي والخطيب يقرأها عليكم، لكنه قال في نفسه (الله يعلم بأني أنا من ألف هذا الكتاب)، فقرر عدم ذكر فضيلة لنفسه وتركها لله ولم يخبر أباه بأنه هو المؤلف للكتاب.
بركات إخلاصه وإيمانه
نقل المرجع الديني الراحل السيد المرعشي النجفي (قدّس سرّه)، قصة عن الشيخ عباس القمّي (رحمة الله عليه)، فقال: ذات يوم جاء الشيخ عباس القمي إلى منزلنا، وكان يوماً حارّاً، فذهبت لأحضر له كأساً من الزنجبيل، وحينما جئته به، رأيت أنني نسيت أن أضع فيه الملعقة ليخلطه قبل شربه، وحينما ذهبت مرة ثانية، تأخّرت قليلاً، إذ قمت بغسل الملعقة التي كانت متسخة ولم يكن لدينا غيرها، وحينما عدت إليه رأيته يخلط الشراب بإصبعه، فبادرني إلى القول: لا تظنني على عجلة لشرب الكأس، ولكنني تذكّرت بأنني أكتب وأنقل روايات وأحاديث الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم)، وظننت أن تكون البركة بإصبعي فيرتفع بها ما أشعر من الحمى، وأضاف السيد المرعشي النجفي، وبعد هنيئة وضع الشيخ عباس القمّي يده على الأخرى وقال لي: لقد انقطعت الحمى!
إن الإيمان والإخلاص أمران مهمان للغاية، ولهما تأثيراتهما الكثيرة في الحياة الدنيا، فالمرحوم الشيخ عباس القمّي كانت له مؤلّفات كثيرة جداً، ولكن الأشهر من بينها كان كتابه الشهير (مفاتيح الجنان). وقد سُئل قدّس سره الشريف عن السبب وراء شهرة هذا الكتاب دون سائر الكتب، فأجاب: لقد صرفت لدى تأليفي هذا الكتاب أقلّ الوقت، ولكنني أهديت ثوابه مخلصاً إلى السيدة الصديقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).
وكان من خصوصيات المرحوم الشيخ عباس القمّي أنه عاش طيلة عمره الشريف مجاوراً لمراقد المعصومين الأربعة عشر صلوات الله وسلامه عليهم، الأمر الذي لم يتسنّ لغيره من الصالحين.
مؤلفاته: نذكر منها ما يلي:
(مفاتيح الجنان)، غني عن البيان وموجود في كل روضة من الرياض المشرّفة للأئمّة (عليهم السلام)، وفي أغلب البيوت الشيعية، وترجم من اللغة الفارسية إلى اللغتين العربية والأُردية، (منتهى الآمال في تاريخ النبي والآل)، باللغة الفارسية، (نفس المهموم في مصيبة سيّدنا الحسين المظلوم)، (اللآلي المنثورة في الأحراز والأذكار المأثورة)، (هدية الأحباب في المعروفين بالكنى والألقاب)، (نفثة المصدور فيما يتجدّد به حزن عاشور)، (الفوائد الرضوية في تراجم علماء الجعفرية)، (الفوائد الرجبية فيما يتعلّق بالشهور العربية)، (الغاية القصوى في ترجمة العروة الوثقى)، (الأنوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية)، (بيت الأحزان في مصائب سيّدة النسوان)، (ذخيرة الأبرار في منتخب أنيس التجّار)، (الدرة اليتيمة في تتمَّات الدرة الثمينة)، (مختصر الأبواب في السنن والآداب)، (سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار)، (كحل البصر في سيرة سيّد البشر)، (منازل الآخرة والمطالب الفاخرة)، (هدية الزائرين وبهجة الناظرين)، (سبيل الرشاد في أُصول الدين)، (الكنى والألقاب).
وفاته:
توفّي الشيخ القمّي (قدس سره) في الثالث والعشرين من ذي الحجّة 1359 هـ بمدينة النجف الأشرف، وصلّى عليه السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، ودفن في الصحن الحيدري للإمام علي (عليه السلام).