قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

السنن الإلهية وتقدم الانسان مادياً ومعنوياً
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *جعفر ضياء الدين
المتأمل في تكوين هذا العالم، وما فيه من مخلوقات، وما يجرى فيه من أحداث وتطورات، من لحظة نشوئه والى أجل غير معلوم، يكتشف بدلالة واضحة على أن الخالق العظيم قد أبدع هذا العالم على نهج من السنن و القوانين التي لا تتبدَّل ولا تتحوَّل، وليست العلوم المكتشفة وخطوات التقدم التي طواها الانسان وتبني المفاهيم والقيم المعنوية، سوى اكتشاف لهذه السنن و وضعها في صيغة معادلات وقوانين رياضية يمكن استخدامها في تسخير الامكانات والقدرات الموجودة في الحياة .
وقد انتهى العلماء أخيراً إلى أن أعظم ما في هذا العالم وأكثر ما يدل فيه على وجود الخالق العظيم هي هذه السنن التي تنظم حركة الوجود، ونذكر من هؤلاء العلماء الفيزيائي البريطاني المعاصر (ستيفن هوكنغ) الذي يعد من أبرز علماء العصر الحاضر، فقد صرح قائلاً: لقد كشف العلم أخيراً مجموعة من القوانين التي تدلنا ضمن الحدود التي رسمها (مبدأ الارتياب) و كيف سيتطور الكون مع الزمن لو عرفنا وضعه في زمن معين، وهذه القوانين مرسومة من قبل الله الذي اختار هذه الصورة الأولية للكون لأسباب لا يمكن أن نأمل في فهمها، فذلك ولاشك، في مقدور صاحب القدرة المطلقة، أي إن الله عزَّ وجلَّ هو وحده الذي يعلم أسرار صياغة هذه القوانين، ولكن حسبنا أن ندرك وجودها ونفهم آليات عملها، لكي نتمكن من تسخيرها للقيام بأمانة الاستخلاف في هذا العالم .
وترجع أهمية البحث في سنن التاريخ إلى أن كشف هذه السنن ومعرفة شروط عملها يجعلنا أقدر على فهم مسيرة التاريخ والتعامل الإيجابي مع الأحداث، وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً عملياً من خلال قصة الفاتح العسكري الشهير (ذي القرنين) لكي ندرك من خلا ل هذه القصة كيف يمكن أن تُذلِّل معرفتنا بالسنن العقبات التي قد تعترضنا في هذا العالم، فقد استطاع ذو القرنين أن يحقِّق في حقبة قصيرة من عمر الزمان فتوحات عسكرية واسعة، في مشارق الأرض ومغاربها، لم يحققها قبله أي فاتح آخر في التاريخ، وذلك بفضل ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ من علم بالأسباب كما جاء في التعبير القرآني البليغ: "وَيَسْألونَكَ عن ذي القَرْنين قُلْ سَأَتْلو عليكُم منهُ ذِكْراً، إنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرضِ وآتيناهُ من كُلِّ شَيْء سَبَبَاً، فَأَتْبَعَ سَبَبَاً" (الكهف 83- 85)، ونستشف من قوله تعالى: "وآتيناهُ من كلِّ شيءٍ سَبَبَاً" أن من جملة هذا العطاء الرباني الكريم تفهيم ذي القرنين بعض السنن الإلهية التي أتاحت له تحقيق تلك الانتصارات العظيمة .
ونظراً لما في معرفة السنن الإلهية من دور في القيام بعمارة الأرض فإن القرآن الكريم يحضُّنا مراراً وتكراراً على السير في الأرض، والتفكر بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود، حتى يلفت عقولنا إلى النظام السنني البديع الذي ينظم حركة كل شيء فيه، لكي نعمل على كشف هذه السنن ونسخرها في عمارة الأرض، وقد هتف الكتاب المجيد في الآية الكريمة: "سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً" (الفتح/23).
وقد حقق البشر من خلال كشفهم لبعض السنن الكونية فتوحات علمية عظيمة كان لها تأثير كبير في تطوير الحياة البشرية، نذكر منها على سبيل المثال تلك السنة التي تنبه لها العالم الرياضي الإنكليزي إسحق نيوتن (1642 - 1727) وصاغها في (قانون الفعل ورد الفعل) فقد تمكن الإنسان بعد أن يسَّر الله له الظروف والإمكانيات المواتية أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عديدة، من أبرزها اختراع المحركات النفاثة التي تعتمد هذه القانون في عملها والتي أسهمت إسهاماً أساسياً بتقدم علوم الطيران وصناعة الطائرات والصواريخ، وأوصلت الإنسان آخر المطاف إلى سطح القمر عام 1969 بعد أن ظل لأحقاب طويلة يتغزل به عن بعد... وهكذا نرى أن المعرفة الصحيحة بسنن الله في هذا العالم تمنحنا قدرات باهرة تعيننا على عمارة الأرض وتحقيق أهدافنا القريبة والبعيدة
شمولية السنن الإلهية
تدل الشواهد والوقائع على مر التاريخ بأن السنن الإلهية لا تحكم العالم المادي وحده، بل تحكم كل ما في الوجود، سواء أ كانت مادية كالذرة أو الكهرباء أو الحرارة أو الضوء أو غيرها، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية والسلوك الاجتماعي وقيام الحضارات واندثارها، ومصداق ذلك قوله تعالى: "أَفَغَيْرَ دينِ اللهِ يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وإليهِ يُرْجَعون" (آل عمران/ 83)، فإن كل ما في هذا الوجود خاضع لسنن الله دون استثناء، وكما أن الماء يطفئ النار، والحديد يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة، ورَمْيَ الحَجَر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض بفعل الجاذبية، والتقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين و.... وكل هذه سنن مادية معروفة، أيضاً هنالك ما تشمله السنن الإلهية مثل انفعالات النفس البشرية، وحياة المجتمعات، ومسيرة الحضارات، وتاريخ الوجود، وغيرها من الظواهر المحكومة بسنن إلهية دون استثناء، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تشير إلى بعض السنن التي تحكم تفاعلات النفس البشرية، منها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد/ 7)، فالسنّة تقتضي جزماً أن يكون نصر الله وعونه مقابل نصر الانسان الله تعالى، وقد أسهب المفسرون في كيفية أن ننصر الباري عزوجلّ، وأن يكون عملنا خالصاً لوجه تعالى، حينها تنزل الرحمة والنصرة، كما وردت العديد من القصص والحكايات عن الأقوام والحضارات التي سبقتنا وهي تشير بوضوح الى السنن الألهية الثابتة، التي تحكم مسيرة المجتمعات وقيام الحضارات واندثارها،
يقول تعالى: "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ" (الأنفال/ 38). ويبدي البعض شكوكهم تجاه شمولية السنن، إذ يعتقدون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة يمكن أن تصاغ صياغة علمية دقيقة، أما لواعج النفس البشرية وسلوك الأفراد وحياة المجتمعات والأمم وقيام الحضارات وسقوطها فلا يخضع ـ في ظن هؤلاء الباحثين ـ لمثل هذه الصرامة، بل يذهب بعضهم إلى ما هو أغرب فيزعمون أن التغيرات النفسية والاجتماعية والتاريخية تجري في حياة البشر بطريقة غيبية غامضة الأسباب !
وقد عمَّق هذا الظنَّ الخاطئ في الأذهان ما هو حاصل من فارق كبير بين تقدم العلوم المادية والطبيعية وتخلف العلوم الانسانية، فقد قطعت العلوم المادية حتى الآن شوطاً بعيد المدى، وقدمت إنجازات علمية هائلة، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال، وطردت إلى غير رجعة كل الأساطير والأوهام والخيالات التي كان الناس يظنونها من العلم وهي في الحقيقة ليست من العلم في شيء، أما علم النفس وعلم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية فمازالت تعاني من بعض هذه الآفات، ومازالت دراساتها العلمية عند البدايات، ولم يعطها الانسان الاهتمام الكافي الذي أعطاه للعلوم المادية، وهذا ما جعل معظم العلوم الإنسانية متخلفة بمراحل عن العلوم المادية، وهذا بحد ذاته يفسر لنا الظن الخاطئ بأن النفس والمجتمع والتاريخ والحضارات لا تخضع للسنن الإلهية الصارمة كما تخضع المادة .
ونورد فيما يلي مثالاً نظرياً لتوضيح هذه المفارقة، فلو أننا استحضرنا إلى عصرنا الراهن اثنين من عباقرة الإغريق القدامى، ولنفترض أن أحدهما هو أبو الفلسفة أفلاطون (427 ـ 347 ق.م) والآخر أبو الرياضيات فيثاغورث (582 ـ 507 ق.م )، ثم أدخلنا أفلاطون إلى كلية من كليات العلوم الإنسانية في واحدة من جامعتنا المعاصرة، وأدخلنا فيثاغورث إلى كلية من كليات العلوم الرياضية، فما الذي نتوقع أن يحدث؟ من المؤكد أن النتيجة سوف تدهشنا كثيراً لما فيها من مفارقات، لأننا سنجد أفلاطون كما عهدناه في الماضي أستاذاً متمرساً يناقش مختلف القضايا المطروحة على بساط البحث بجدارة وعمق، أما فيثاغورث فسوف يجلس في القاعة مثل (الأطرش في الزفة) غير قادر على فهم شيء مما يقال عن النظريات الرياضية الحديثة، والمصطلحات الجديدة، وأنَّى له مثلاً أن يفهم ما هي نظرية النسبية؟ أو الثقوب السوداء؟ أو نظرية الكَم؟ أو الليزر؟ أو غير ذلك من النظريات والمفاهيم العلمية الحديثة التي نسفت معظم النظريات والمفاهيم القديمة؟!
يطرح الباحثون أسباب كثيرة لتخلف العلوم الانسانية في مسيرة التقدم الحضاري، لكن أبرز هذه الاسباب استناداً للواقع الذي يعيشه انسان اليوم، هو عدم خضوع العلوم الانسانية للتجربة كما هو حال العلوم الطبيعية والمادية، والسبب واضح، هو إن المادة بالأساس بيد الانسان نفسه، هو الذي يجري عليها تجاربه محمولاً بالاصرار والتحدي والتضحية، ولا ننسى هنا ملاحظة أن هذه المفاهيم المذكورة آنفاً إنما هي مقتصرة على أشخاص بعينهم ولم تكن ظاهرة انسانية عامة، والأهم من ذلك بكثير في هذا السياق إن الانسان الطامح للفتوحات العلمية، لا يسمح لنفسه بأن تجرى التجارب على نفسه هو ليتحقق من خطئها أو صوابها، كما يفعل مع الجاذبية أو المصباح الكهربائي أو ما أشبه من العلوم الاكتشافات العلمية، وهذا ما أوقع العالم برمته في إشكالات فكرية عميقة ساقت البشرية الى اتجاهات مختلفة ابتعدت عن طريق العلم الذي نجده اليوم يخدم البشرية ويوفر لها الراحة والمزيد من التطور.
ومن أولئك العلماء الذي حاولوا أن يوجدوا لأنفسهم موطئ قدم في ساحة العلوم الانسانية هو سيغموند فرويد ونظريته ذات الطابع الجنسي التي يقول فيها إن الانسان محكوماً بالغرائز ولا قدرة له أزائها، وله تفصيلات وشروحات في هذا الجانب لا مجال لذكرها، أهمها ربط العلاقة العاطفية بين الأم وابنها الذكر الى التمايز الجنسي بين الإثنين...! والعجيب ما يقال بان الكثير من فقرات علم النفس الحديث حالياً مشتقٌ من نظريات فرويد.
ولنسأل فرويد وكل اتباعه والمعجبين به؛ هل وضع هذه النظرية على محك التجربة ليجد ما إذا كانت فعلاً مصيبة ومجدية للإنسان، وإنها هي التي ستحقق له السعادة أم لا؟ إن نظرة خاطفة على السلوك الفردي والنظام الاجتماعي في الغرب الذي تسيره نظريات فرويد، تجيبنا على هذا السؤال، فقد بات الغرب حائراً عاجزاً عن حلّ المشاكل والأزمات الناجمة من التخبط الجنسي وفقدان القيم والمعايير التي تنظم العلاقة الصحيحة بين الرجل والمرأة، وبالنتيجة أضحت جميع النظريات الاجتماعية والنفسية والفلسفية عرضة للتغيير والمناقشة الحادّة وقد تراجع علماء اليوم عن كثير منها.
وما نريد التأكيد عليه هو وجود الحقيقة التالية: أن السنن الإلهية كما إنها تشمل الجوانب المادية في الحياة، وتمكّن الانسان من التوصل الى مراتب عليا في مسيرة التطور والتقدم العلمي وتجعله قادراً على تغيير نمط حياته بشكل سريع، فانها تشمل أيضاً الجوانب المعنوية أو لنقل العلوم الانسانية، ولا يصح عقلاً ولا منطقاً أن يثبت الانسان قبضة يده على التطور التكنولوجي الهائل والتقدم في مجال الطبّ والهندسة والطاقة وغيرها، ويبسط اليد الأخرى أمام السلوك الاجتماعي والنفسي وكل ما يتعلق بالجانب المعنوي للانسان، بحيث بات مسموعاً من يقول: بان الحياة فوضى، أو عبث يحكمها اللانظام، وكلها مفاهيم سلبية سوداوية تقعد الانسان عن أن يغير نفسه وسلوكه، في حين الاسلام يقول ويؤكد بان (الحياة مزرعة الآخرة)، وياله من تعبير جميل يدعو الى النشاط والحيوية والأمل، وفي غير ذلك فقد حذرنا القرآن الكريم من العاقبة والمآل السيئ، "اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً" (فاطر/43).