قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

مالك الأشتر.. سيفٌ على الباطل
*سعد مغيمش الشمّري
التاريخ يخّلد الأبطال الفاتحين والحكام المقتدرين، ويحكي لنا عن ملاحمهم ومآثرهم حتى وإن شابها الطغيان أوالظلم والتعدي على حقوق الانسان وكرامته، وحتى وإن كان عاقبة أمرهم الى سوء وضياع ودمار، فيما يغيب عن ذهن التاريخ شخصيات خبرت الحروب والمواقف الصعبة والاستثنائية وكان لها دور عظيم في تحولات انسانية كبيرة، لكن الفارق، أن هؤلاء لم يقفوا على منصة الفوز وقمةالغلبة لأن طالما كان هذا الوقوف على جماجم الأبرياء وعلى حساب مصائر الناس والشعوب.. إنما وقفوا الى جانب المستضعفين والمحرومين طلباً للعدالة وتحقيقاً لحقوق الانسان في العيش الكريم، وهو ما علّمه إيانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان من طلاب هذه المدرسة، مالك الأشتر النخعي، الذي لم ينفصل إسم مولاه ومقتداه أمير المؤمنين عن اسمه في الصفحات القلائل من التاريخ.
إنه مالك بن حارث بن عبد يغوث بن سلمة بن ربيعة بن يعرب بن قحطان ولقب بـ (الأشتر)، ويعود سبب حمله هذا اللقب هو إن إصابة إحدى عينيه في معركة اليرموك التي شارك فيها سنة 13 للهجرة، وصارت فيها حالة (الشتر)، وهو شقّ في العين، وحالة لا تشبه العمى أو العوق في العين.
* ولادته
لا توجد مصادر تاريخية تحدد ولادة مالك الأشتر بالضبط، ولكن توجد قرائن تاريخية نستطيع من خلالها معرفة ولادته تقريباً، فقد قُدرت ولادته ما بين سنة (25-30) قبل الهجرة النبوية الشريفة.
* مواقفه
كان أول حضور لمالك الأشتر في مسيرة الرسالة، مشاركته في معركة اليرموك التي دارت بين المسلمين والروم سنة 13 هجرية، أي بعد وفاة الرسول الأكرم بسنتين.
وفي عهد عثمان حيث عاش المسلمون أوضاعاً سياسية واجتماعية مضطربة بسبب سياسات عثمان الظالمة والمجحفة التي أطلقت أيدي الأميين على رقاب المسلمين، إنبرى الأشتر ليسجل دوراً جديداً ليس في جبهة الحرب ضد الكفار، وإنما في جبهة الاصلاح ومواجهة الانحراف في الداخل، ولم يسع الاشتر السكوت، فجاهد بلسانه عندما رأى الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري وقد كسر ضلعه وأخرج بالضرب من المسجد النبوي، كما سجل موقف الاعتراض والتنديد من الاعتداء على الصحابي الجليل عمار بن ياسر على يد الأمويين المقربين من عثمان.
وكان الوليد بن عقبة وهو شقيق الخليفة عثمان، والياً على الكوفة وقد عُرف بسلوكه وتصرفاته المنافية للتعاليم الاسلامية، فكان يجاهر بشرب الخمر، ويقضي وقته في مجالس الغناء واللهو ويخرج الى المسجد ويصلي وهو في حالة السكر، فكان المسلمون ينظرون الى هذا المشهد بغير قليل من الأسف والأسى على الطريق المنحرف الذي ينحدر فيه الحكام، وعندما يعجزون عن مواجهة هؤلاء، كانوا يستشيرون أهل التقوى والصلاح، فذهبوا الى مالك الاشتر الذي اصبحت له الشخصية المرموقة في الكوفة، والمعروفة بالشجاعة والحزم والانتصار للحق، فقال مالك: الافضل أن ننصح الوالي أولاً، فإذا لم يرتدع نشكوه الى الخليفة، وفعلاً ذهب مالك ومعه بعض الناس الصالحين الى قصر الوالي وعندما دخلوا عليه وجدوه على مائدة الخمر كعادته! فنصحوه لكن لم يجد نفعاً، فقرروا السفر الى المدينة مركز الخلافة، ومقابلة الخليفة عثمان الذي لم يعبأ باعتراضاتهم، بل انه رفض شهادتهم وطردهم، فتوجهوا الى منزل أمير المؤمنين (عليه السلام) وشكوا له الحال، فشعر الإمام بحزن كبير، فذهب الإمام علي (عليه السلام) الى عثمان ونصحه قائلاً: (يا عثمان إن المسلمين يشتكون من الظلم.. اني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم، وانا احذرك من عذاب الله)..
هذه المواقف الرسالية توّجت بوقوف مالك الأشتر في طليعة المؤيدين والمطالبين بعودة الحق الشرعي وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى أهلها، وعندما أجمعت الأمة على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كان مالك الأشتر احد الجنود الأوفياء المتأهبين لحكومة الحق والفضيلة، وقيل إنه أول من بايع الإمام (عليه السلام)، ومن مآثره وانجازاته في حروب الامام مع الانحراف، إنشائه جسراً على نهر الفرات خلال حرب صفين، ليتمكن جيش المسلمين من العبور عليه ومقاتلة جيش النفاق والشقاق بقيادة معاوية بن ابي سفيان.
* النهاية غيلةً..
حفلت حياة مالك الأشتر بالمآثر والبطولات في سوح الجهاد ضد الباطل والانحراف، وقد شارك الإمام علي (عليه السلام) همومه في تكالب الباطل على الأمة وتراجع الوعي والثقافة الرسالية في أوساط المسلمين رغم مرور فترة ليست بالطويلة على رحيل الرسول الأكرم.. وكان من المتعذر جداً النيل من مالك في سوح الوغى وعند اشتباك السيوف والرماح، فقد كان كراراً مقداماً، يهابه الجميع ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه، لذا فكّر معاوية بالتخلّص منه بطريقته الخاصة.
وكان الأخير يفكر بالاستيلاء على مصر بعد استيلائه على الشام واقتطاعها من جسد الدولة الاسلامية، وكانت مصر تعيش حالة الاضطراب السياسي والاجتماعي بسبب وجود بقايا من أنصار عثمان والموالين لأهل الشام، فبعد أن ولّى الإمام علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر على مصر، ازدادت الاضطرابات التي كان يؤججها معاوية وصاحبه عمرو بن العاص، حسب المصادر التاريخية، فعين مالك الأشتر محله، وهو ما أثار مخاوف وهواجس معاويه وصاحبه لما يعرفوه من الأشتر وبأسه وشجاعته، وانه لن يبقي لهم في مصر شيئاً، لذا دبّرا المكيدة الدنيئة باستخدام أقبح الطرق وهو الاغتيال بالسمّ، وفيما كان الأشتر في الطريق الى مصر كمن له جماعة وبعثوا لشخص بعسل مسموم ليضيفه الأشتر، فكانت نهايته السعيدة فيه، وكان تاريخ استشهاده في سنة 38 للهجرة ومرقده مشهوداً في مصر حتى اليوم.
وكان حزن الإمام علي (عليه السلام) كبيراً على مالك الأشتر، حتى جاء في بعض أقواله: (ومن تنجب مثل مالك...)؟!، وقال أيضاً (عليه السلام) في حقه: (كان مالك بالنسبة لي كما كنت بالنسبة لرسول الله).