قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الإمام الجواد (ع).. العلم الذي تفجر في بواكير عمره
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *ياسر الربيعي
تقلد الإمام الجواد (عليه السلام) منصب الإمامة، والزعامة الدينية بعد والده الإمام الرضا (عليه السلام) وهو بعد لم يتجاوز سن السابعة، واستطاع خلالها يُثبت أن العمر ليس مقياساً لتشخيص القدرة العلمية لأي إنسان خاصة إذا كان مسدداً بقوى إلهية، ومدعوماً بحكمة ربانية تحيطه بعنايتها، وتشمله بألطافها؛ فنهض الإمام الجواد (عليه السلام) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو لما يبلغ الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم (عليه السلام) حيث قام بالحجة وهو ابن ثلاث سنين، وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما استغلت الدولة العباسية هذا الأمر ظناً منها انها سوف تكون بمأمن بعدم وجود إمام يلتف الناس حوله؛ لكن إمامنا صاحب الذكرى (عليه السلام) استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات المعلنة والخفيّة بما اوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة.
وكان للإمام الرضا (عليه السلام) الدور الأساس في دحض هذه الشبهة، فقد هيأ الأجواء للموالين بعدم التشكيك في صغر الإمام المعصوم اذا نال الإمامة؛ فقد رُوي عن صفوان بن يحيى أنه سأل الإمام الرضا (ع) عن الخليفة بعده، فأشار الإمام إلى ابنه الجواد (عليه السلام) وكان في الثالثة من عمره فقال صفوان: جعلت فداك.. هذا ابن ثلاث سنين؟! فقال (عليه السلام): وما يضر ذلك؟ لقد قام عيسى (عليه السلام) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين، وكان الرضا (عليه السلام) يخاطب ابنه الجواد (عليه السلام) بالتعظيم وما كان يذكره إلاّ بكنيته فيقول: (كتب إليّ أبو جعفر) و (كنت أكتب إلى أبي جعفر) وكان يكرر هذا الكلام في حق ابنه رغم صغر سنه دفعاً لتعجب الناس من انتقال الخلافة إليه وهو صغير السن، كما كان يستشهد على أن البلوغ لا قيمة له في موضوع الإمامة بقوله تعالى في شأن النبي يحيى (عليه السلام): "واتيناه الحكم صبياً".
وقد حاول المغرضون ان يشككوا أيضاً من خلال ادخال الإمام في مناظرات علمية عن طريق اشخاص أمثال يحيى بن أكتم، حيث قام المأمون بإحضار قاضي القضاة يحيى بن أكثم ليمتحن الإمام (عليه السلام)، واختيارهم لقاضي القضاة وهو أعلى منصب ديني في الدولة آنذاك يدل على مدى خوفهم من الإمام واعترافهم بعظمته رغم صغر سنه. وفي مجلس حاشد واجه القاضي الإمام (عليه السلام) بالمسألة التالية: ما تقول في محرم قتل صيداً؟ وبكل بساطة واطمئنان أجاب الإمام (عليه السلام): قتله في حِل‏ٍ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أم نادماً؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج ؟ واشرأبت الأعناق إلى القاضي يحيى الذي كان أعجز من أن يتابع مسألة الإمام (عليه السلام)، فبان عليه الارتباك وظهر فشله وعجزه، فقال المأمون لهم: أعرفتم ما كنتم تجهلون؟!
الخطة الماكرة للمأمون..
بعد إن يئس المأمون من محاولته الخبيثة في التشكيك بإمامة الإمام الجواد (عليه السلام) لإبعاد الناس من الالتفاف حوله أراد احتواء الإمام (عليه السلام) وبنفس الطريقة التي عملها مع أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) في إطار الخلافة القائمة لتكثيف العيون الحكومية التابعة للسلطان حول الإمام ليحصوا عليه أنفاسه وتحركاته من ناحية ومن ناحية أخرى ليتم عزل الإمام الجواد (عليه السلام) عن القاعدة الاجتماعية الواسعة، وأيضاً نفوذه في وسط الأجهزة الحاكمة وبتحقيق هذين الهدفين سيسيطر النظام الحاكم على أكبر المنافسين له وأخطرهم عليه وسيظهر نفسه بالمقابل أنه من المحبين لآل البيت مما يكسب قلوب عامة الناس، ولكن الإمام الجواد (عليه السلام) لم يغفل عن هذه الخطة الخبيثة فكان بالمرصاد لإفشال خطط المأمون، واستمر في الثورة الثقافية والفكرية إكمالاً لدور أبيه الرضا (عليه السلام)، وبالرغم من صغر سنه استطاع أن يفحم كبار الفقهاء في عصره وبحضور المأمون العباسي نفسه وطبعاً ان هذه المناظرات سجلت للإمام الجواد نصراً علمياً وسياسياً في نفس الوقت وبالرغم من صغر سن الإمام كان ينبري في الإجابات مما يذهل الخليفة والقضاة ورجال الفكر، فتوسع الإمام جماهيرياً على طريقة الأئمة السابقين لأن العمل الاجتماعي هو الأرضية الطبيعية لصناعة التغيير والإصلاح والجهاد والثورة، أما اذا انعزل الإمام أو أي مصلح آخر عن الجماهير فانه سيموت سياسياً وجهادياً أيضاً.
*البناء الثقافي
لقد توخى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحقيق عزة الاسلام والمسلمين من خلال المواقف والتحركات الحكيمة التي تضمن الوصول الى الهدف المطلوب على احسن وجه، وكان تحرك الإمام الجواد (عليه السلام) ينطلق من هذه الرؤية، فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف المعرقلة التي أحاطت تحركه لإعداد الاُمة وطلائعها إعداداً رسالياً ومن هذه الميادين، تعميق البناء الفكري، حيث كان اهتمام الإمام الجواد (عليه السلام) في بناء الجانب العقائدي في شخصية الانسان المسلم واضحاً للناظر وفي تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات اساسية تتقوم بها العقيدة، كما كان (عليه السلام) مهتما بالعلم وتعلمه ونشره فهو القائل: (عليكم بطلب العلم، فإنَّ طلبهُ فريضة والبحث عنه نافلة و هو صلةٌ بين الاخوان و دليل على المرّوة و تحفةٌ في المجالس و صاحبٌ في السفر و إنسٌ في الغربة) كشف الغمة ج2 ص347.
ومما يدل على علمه (عليه السلام) أنه روي أن والي مكة والمدينة فرج الرغجي، الذي كان من المعارضين لآل البيت قال مرة لأبي جعفر الجواد (عليه السلام) : إن شيعتك تدَّعي أنك تعلم مقدار وزن ماء دجلة، وكانا في ذلك الوقت واقفين على شاطئ دجلة، فقال (عليه السلام) : أيقدر اللـه تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا ؟ يقول الراوي : فقال فرج : نعم يقدر، فقال (عليه السلام) : أنا أكرم على اللـه تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه .
نعم.. إن الغرابة الناشئة عن الشك في قدرة اللـه لهي أوهى من الشك في ضياء الشمس، بل يبقى الريـب فـي محله إذا كان في الرجل الذي يدّعي هذا المنصب الرفيع، فلا يستطيع المرء أن يتقبله إلاّ بعد الفحص والتدقيق، أما إذا كان في أهل بيت الرسول فسوف لا يبقى للشك مجال، بعد استفاضة حديث متواتر عن النبي (ص) في أنهم قدوة الخلق وأئمتهم، وبعد معرفة أن كل إمام كان أعلم أهل زمانه في كل شيء منذ ان تنتقل إليه الخلافة الروحية، وكذلك كان النبي (ص) وأوصياؤه (ع) جميعاً .
ويكفيك في الإمام الجواد ما سبق من أنه سئل في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة، فأجاب عنها وهو ابن ثمان أو تسع، وأنه كان في زهاء السادسة عشرة من عمره إذ حضر مجلس المأمون وباحث قاضي القضاة، فأفحمه إفحاماً،
*العمل الثوري
لم يكن العمل الثوري بمعزل عن برنامج الإمام الجواد ولا بقية أئمتنا الهداة (عليهم السلام)؛ فقد قامت في زمن الإمام الجواد (عليه السلام) عدة ثورات علوية مناهضة للحكم من أبرزها ثورة محمد بن القاسم فكان الإمام يغذي هذه الثورات ويدفعها للعمل والكفاح المتواصل لتحقيق الأهداف المقدسة لذلك ما وجدت السلطة مَخلصاً من تحرك الإمام إلا بتصفيته جسدياً، وهي الوسيلة الدنيئة التي طالما يتوسل بها الحكام الطغاة على مر التاريخ ضد الهداة والثائرين في طريق الحرية والعدالة والقيم السماوية، وفي عهد إمامنا الجواد الذي تصادف هذه الأيام ذكرى استشهاده، كان المعتصم العباسي صاحب الدور الذي خلفه من آبائه في دسّ السمّ الى الإمام الجواد خلال وجوده في بغداد عاصمة الدولة العباسية، وعلى أثر انتقل هذا الإمام وهو في ريعان شبابه الى حيث آبائه وأجداده وحيث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليكون هو الآخر شهيداً وشاهداً على الظلم والطغيان والانحراف في المجتمع الاسلامي.