قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
التزكية والتعليم في القرآن الكريم
سبق حضاري في وضع المنهج التعليميي الناجح
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *كريم محمد
للقرآن الحكيم هدفان أساسيان إذا عرفناهما عرفنا بعض الجوانب الغامضة منه، وهما تزكية الناس وتعليمهم، ولقد أشار الكتاب المجيد الى هدفيه هذين في قوله سبحانه: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" (الجمعة /2)
فالآيات القرآنية التي تُتلى على الاميين تهدف تزكيتهم ثم تعليمهم الكتاب والحكمة.
فما هو الفرق بين (التزكية) و (التعليم)؟ وكيف ان القرآن الكريم يجمع بينهما مرة واحدة؟
1- التزكية هي تنظيف النفس البشرية من رواسبها الجاهلية، سواء أكانت من نوع الأفكار الباطلة أم المعتقدات الفاسدة او الاخلاق السيئة. ثم ان التزكية هي تربية الانسان المتكامل الذي يفجّر طاقاته العقلية والجسدية جميعاً باتجاه الخير والحق، وكلمة التزكية مشتقة من الزكاة؛ وهي الطهارة. وأساس التزكية تقوية الارادة البشرية وتحكيم حس التحرر من الاهواء والشهوات، وتحكيمه في سلوكه.
ولا تهدف التزكية اكثر من تطهير البشر وتنظيفهم، بينما التعليم يهدف إضافة المعارف الجديدة للإنسان، لدفع عجلة التقدم الى الامام. وهو يعتمد على طاقة العقل الكامنة فيه. فالعلاقة بين التزكية والتعليم تشبه الى حد بعيد العلاقة بين تنظيف ماكنة السيارة وبين وضع الوقود فيها. إذ التنظيف يغسل المواد الضارة، والوقود يضيف مواد جديدة.
إن وقود الإنسانية في مسيرتها الحضارية هو العلم، ولكن هذا الوقود لا ينفع من دون تنظيف ماكنة الإنسان من الاخلاق الفاسدة والأفكار الباطلة. وعليه تكمِّل عملية التزكية عملية التعليم وتأتي الواحدة تتمة للأخـرى.
2- اما كيف يجمع القرآن بين التزكية والتعليم؟ فهذا يجب ان نبحث فيه عبر عدة نقاط:
أ- ان القرآن الحكيم يوجه الناس الى الحق، بالحق ذاته، فلا يجعل الباطل وسيلة لدعوة الناس الى الحق شأن سائر الكتب التربوية التي قليلاً ما تنظر الى وسيلة تحقيق الهدف التربوي. من هنا يبين القرآن الحكيم السنن الكونية والقوانين الفطرية التي تحكم الحياة وتوجه الناس الى معرفتها لكي يزكوا انفسهم بمعرفتها.
وتوجيه القرآن نحو هذه السنن والقوانين يهدف أمرين:
الاول: هداية الناس الى طريق صلاحهم والذي لا يعدو ان يكون التوفيق بين حياتهم وبين متطلبات السنن العامة.
الثاني: تعليم الناس لتلك السنن. ومن الطبيعي ان يختفي الهدف الثاني من ظاهر القرآن، إذ ان سياق الكتاب يسير باتجاه التزكية، مما ينبئ عن انها الهدف الوحيد الذي ينشده القرآن، ولكن بالرغم من ذلك فان نظرة فاحصة تهدينا الى البيانات العلمية التي تنطوي عليها الآيات. فمثلاً في سورة الرعد نجد الآية الكريمة "إِنَّ اللـه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ" (الرعد /11)
انها حقيقة تربوية يطرحها الكتاب لتثبيت المسؤولية الشخصية في نفوس الامة. وقبل هذه الآية وبعدها تذكيرات بهذه الحقيقة.
ولكن النظرة الفاحصة تهدينا الى وجود ما هو اشمل واوسع دلالة في هذه الآية، انه القانون الاجتماعي الذي يربط بين الحضارة وبين تطوير الصفات النفسية. ويقول كلما كان بناء قومٍ أكثر من هدمهم، كلما تقدمت بهم الحضارة، ولا يكثر البناء على الهدم على صعيد الواقع الا بعد وجود نفسية مناسبة على صعيد الذات. لقد جُعل هذا القانون العلمي في هذه الآية وسيلة لتزكية الانسان وتحميله مسؤوليته تجاه التطورات الخارجية.
ونلاحظ وجود منعطف صارخ في سياق بعض الآيات الهدف منه بيان حقيقة علمية ترتبط بواقع التزكية التي يهدفها ظاهر السياق. فمثلاً يقول الله سبحانه: "وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللـه الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَــزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" (الشورى /26-28).
نرى في السياق منعطفاً صارخاً عند قوله سبحانه: "وَلَوْ بَسَطَ اللـه الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ"، حيث لا يرتبط ظاهراً بما قبله من قوله تعالى: "وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" وبما بعده من قوله سبحانه: "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ"
ووضع هذا المنعطف إنما هو لبيان سُنة فطرية تجري في العباد، وهي فقدهم للتوازن إذا ثقلت عليهم النعم، باعتبار ان النعمة بحاجة الى قدر من التحمل والضبط، وربما بقدر او اكثر مما تحتاج النقمة إليها.
ان ابداع هذا المنعطف في سياق الآية الذي يبدو مستقيماً بدونه، إنما هو لهدف بيان الحقيقة العلمية في ثنايا التوجيه النفسي، ليس فقط من اجل توظيفها في خدمة التزكية، بل وأيضاً من اجل بيانها للناس.
باء: والاسلوب التربوي الذي يتبعه القرآن الحكيم في تزكية النفس أسلوب علمي بذاته، إنه اسلوب مرحلي يتابع مراحل التزكية، بما يتناسب معها من الإثارة العاطفية والتوجيه الفكري والزخم الايماني، إنه اسلوب يربط - بحكمة بالغة- بين الفكرة الموظفة والهدف المنشود.
وبكلمة؛ ان البشرية تسعى منذ قرون في سبيل وضع مناهج علمية للتربية، والقرآن سبق البشرية جميعاً في استخدام كل هذه المناهج وغيرها مما يطول بيانها تفصيلاً.
وهذا يهدينا الى حقيقتين:
1- ان بوسعنا معرفة المناهج العلمية الأصوب عن طريق تتبع المناهج القرآنية آية بآية، وموضوعاً بموضوع.
2- ان بوسعنا الانطلاق من نقطة واحدة في دراسة هذه المناهج الى قاعدة شاملة عند ملاحظتنا للقرآن الحكيم تماماً، مثل انطلاق المهندس القدير من النظر الى عمارة واحدة والى معرفة القاعدة الهندسية التي قامت وفقها هذه العمارة، ومثل تفهم الطبيب الحاذق من وصفة طبية للقاعدة العلمية التي استند إليها ذلك الذي كتبها، وهكذا..
فمعرفة المناهج قد تهدينا الى السنن الفطرية التي روعيت عند وضع هذه المناهج ومن ثم نستطيع فهم هذه السنن.