قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

التواصل الإجتماعي على الارض لتقوية العلاقة مع السماء
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *يونس الموسوي
هل يستطيع الإنسان الاستغناء عن الآخرين؟ وهل لديه القدرة على تحقيق الإكتفاء الذاتي لوحده؟ وهل شهدت الحياة نماذج لهذا النوع من البشر؟
ربما تنبعث مثل هذه الاستفهامات لدى أشخاص يأنفون عن طلب حاجاتهم إلى الناس خشية المنع، فتنبعث في داخلهم مشاعر الأحباط وتتولد الرغبة لديهم في الاعتماد على الذات وعدم الإشعار بالحاجة إلى الآخرين فهل يمكن الاستغناء عن الناس؟
الاستغناء عن الآخرين أمر يستحيل تحقيقه، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الحياة وهي متواصلة الأطراف متشابكة الشؤون، والناس فيها يجرون هنا وهناك لسد جوانب العجز والنقص لديهم، فالجوع هو شكل من أشكال العجز والضعف، والعطش كذلك، والمرض أيضاً، ولذلك نجد هذا الإنسان يصرف أحلى سني عمره في سبيل توفير اللقمة، أو الاستشفاء من المرض، أو لسد الحاجة إلى السكن وهكذا.
إذن... كيف سيصل هذا الإنسان إلى مراتب الكمال وهو منشغل دوماً وأبداً في حاجاته الأساسية؟ وإذا كانت الحياة لاتجد تفسيراً إلا هذا المعنى.. فلا خير فيها! ولكانت عسيرة السكنى، إذن ما معنى أن ينشغل المرء بسد النقص والعجز في جسده المادي؟
غير أن الإسلام بمبادئه أضفى معنى جديداً على هذه الحياة، وقدم تفسيرات جديدة لكل عناصر الضعف والعجز الإنساني، وجعل الكد من أجل لقمة الخبز كالجهاد في سبيل الله، وبهذا يخرج الإنسان من تصور الركض وراء لقمة الخبز بانه هرولة وراء سد العجز والنقص الإنساني، بل هو من أجل تحقيق هدف أسمى هو كسب رضا الباري عزوجل.
بهذه النية وبهذا المعنى يرتفع الإنسان إلى درجات عالية من السمو والتكامل، بل هو سيتفوق على عناصر الضعف والعجز في داخله، لذا يقترح علينا الشارع الإسلامي دوماً وأبداً إعلان نية القُربى قبل أداء أي عمل حتى وإن كان ذلك العمل ببساطة الدخول إلى الدار أو فتح الباب فإنه بإمكانك أن تقول (بسم الله الرحمن الرحيم) أو تقول (يا الله).
وهذه الكلمات العظيمة قد لاتكون ذات صلة بالعمل الذي تؤديه ولكنها بلاشك ذات تأثير على نفسك و روحك، وهي بلاريب سترفعك إلى أماكن لم تكن تحلم بها من قبل، فأنك تلاحظ أن الناس مختلفين في أداء ما كلفهم به الله عزوجل من الواجبات والمستحبات، وربما ساعدت هذه الكلمات الشريفة المرء لأن يقوم بأفضل الأعمال وأكبرها من دون شدة أو عسر.
فالنية الصادقة والكلمات العظيمة ترفع الإنسان مثلما تنزله الكلمات القبيحة إلى مرحلة دنيئة، فإذا كنت من الأشخاص الذين لاتسري على ألسنتهم الكلمات القبيحة مثل كلمات السب والشتيمة، فإذا قدحت منك مثل هذه الألفاظ في يوم من الأيام، ستشعر عندها بالصغر والضآلة، وعلى العكس من ذلك عندما تردد كلمات الله الحسنى على لسانك، سترتفع وترتفع إلى الدرجة التي لم تحسب لها أي حساب.
من هنا... فأن الانسان قادر على تحويل العمل المادي الذي يقوم به كأعمال الخبازة والزراعة والنجارة والحدادة وغيرها إلى أعمال ذات قيمة و وزن، عندما يربطها بالمفاهيم والقيم المعنوية، فالخباز يقول أنا لاأعمل من أجل سد حاجتي من المال فقط، بل أنا أعمل أيضاً في خدمة الناس وتوفير لقمة الطعام لهم، وأحقق رضا الله من خلال ذلك، والمزارع يقول: أنا أزرع القمح والشعير ليس لكي لا أموت جوعاً بل من أجل كسب رضا الله الذي دعاني لأن أنخرط في أعمال الحلال، وبشكل عام فما الضير أن يضمر الإنسان في قلبه نية القربى لله في كل حركاته وسكناته؟
وهذه الأعمال هي في الواقع ليست عديمة الفائدة والجدوى فكل عمل حلال هو عمل شريف ومقدس لأنه يرتبط بحاجات الناس، وأن تلبية ذلك يأتي منسجماً مع الأمور التي حث عليها الدين الإسلامي، فكل إنسان يحتاج إلى الآخر الذي يؤدي دوراً مختلفاً في الحياة، فالمرء بحاجة إلى الخباز لكي يشتري منه أقراص الخبز وهو بحاجة إلى الفلاح الذي يزرع الخضار والرز والقمح والشعير، والخباز هو الآخر بحاجة إلى الفلاح والفلاح بحاجة إلى التاجر الذي يستورد السلع المنزلية والالبسة وغيرها، والتاجر بحاجة إلى رجل الحكومة حتى يسهل عليه أمر التنقل عبر البلدان، ورجل الحكومة بحاجة إلى الطبيب كي يعالجه من مرضه وهكذا... وما من إنسان إلا ويكون بحاجة إلى الإنسان الآخر.
فالاستغناء عن الآخرين أمر يستحيل تحقيقه، وربما إستطاع الناس تغيير نمط حياتهم واسلوبهم في التعامل والمعاشرة وغير ذلك، إلا إنهم سيبقون عاجزين على أن يستغني أحدهم عن الآخر، لأن كل واحد منهم يؤدي دوراً يعجز الآخرون عن القيام به.
وفي معظم الأحيان يلجأ الأفراد إلى الإستعانة بالآخرين من أجل قضاء حوائجهم، إذ تكن تلك الحاجيات التي يطلبونها هي من صميم مسؤولية وواجبات هؤلاء الأفراد من الناحية الوظيفية، كالجار الذي يسهم في نقل جاره المريض إلى المستشفى، فلم تكن وظيفة هذا الرجل هو القيام بهذا العمل لكنه قام بها تطوعاً من أجل تنفيذ الواجب الديني والإنساني الذي يحثه على القيام بمثل هذه الأعمال، وربما لم يكن هذا الجار مسلماً وقد يكون مسيحياً أو غيره فإنه سيؤدي ذلك العمل تنفيذاً للواجب الإنساني.
وفي أحيان يكون المرء بحاجة إلى عون مباشر وسريع من جانب المقربين إليه، أشقاء، أو جيران، أو زملاء في العمل... وغير ذلك فماذا سيكون موقفهم عندما يصبحون في موضع الطرف الذي يُستغاث به أو يطلب العون إليه؟ هل سيكون موقفهم الصد والمنع؟ أم العطاء والرحمة؟
بشكل عام فأن الناس في مثل هذه الأوضاع يكونون في حالة خشية، وإياك من أن يتم رفض طلبهم، فيشعرون نتيجة ذلك بالذل بالعار، وهي هواجس طبيعية ومشروعة ولاسبيل للخلاص منها. غير أن الإنسان بمقدوره أن يتعرف على الشخص المعطاء والكريم والمعين من خلال ما ورد من أحاديث وروايات شريفة وهي التي تشرح مواصفات هذا الإنسان والأمور التي يتميز بها وينبغي مراجعة تلك الأحاديث وهي كثيرة، وبإمكاننا هنا أن نشير إلى واحدة من تلك الصفات المذكورة وهي: أن يكون ذلك المرء من ذوي الحسب والنسب.
وبحسب ما جاء في الروايات والأحاديث الشريفة، فكأنه لامناص من الاحتياج إلى الناس، مثلما بينت ذلك إحداها: فقد وجد أحد الأئمة عليهم السلام رجلاً وهو يدعو: إلهي لاتحوجني إلى خلقك... فصحح له الإمام الدعاء وطلب منه أن يقول: (إلهي لاتحوجني إلى شرار خلقك)، وهو ما يؤكد عجز الفرد في الاكتفاء بما يحتاجه على قدراته الذاتية ومن دون أن يكون محتاجاً إلى مساعدة الآخرين.
غير أن هذا الإنسان يستطيع أن يحسن ظروفه، وأن يخرج من دوامة العجز والنقص ويلجأ إلى كهف حصين، حيث لاملجأ إلا إليه، فمنه يستمد المرء عناصر القوة، ويحمي نفسه من دواهي الأيام والسنين، فخير من يلتجئ إليه الإنسان في مثل هذه الظروف هو صاحب القدرة اللامتناهية، وصاحب العطاء الكبير، وصاحب المنن السابغة، الذي يعطي على العمل القليل، والذي تشمل رحمته ويوسع عطاءه الفاجر والمؤمن.
من الحكمة أن يلجأ المرء في حاجته إلى صاحب العطاء الأكبر، ولايتذلل لبني البشر، فأن الله سبحانه وتعالى خير معين وخير كفيل، ونحن نقرأ كل يوم في صلاتنا: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينٍُ" وهذا القول الذي نكرره كل يوم وعند كل صلاة يجب أن يصدق في أعمالنا وفي مسيرتنا الحياتية، بأن نتوجه إليه سبحانه بالطلب والدعاء وأن يوفقنا إلى سبيل الخير لقضاء حاجاتنا.
لقد نسي يوسف عليه السلام ذكر الله لحظة واحدة فكان عقابه المكث في سجن العزيز سنين طويلة فهو قال لصاحبه: "إذكرني عند ربك" فعسى يكون ذلك سبباً لخلاصه، ونسي أن المخلص هو الله سبحانه وتعالى وأنه هو المستعان على كل شيء ولايصح الطلب والاستعانة بغيره.
فخير للإنسان أن يستعين على أموره كلها بقوة الجبار، غير أنه لايجوز أن يدعي الاستعانة وهو ماكث على الذنب، ومصر على الموبقات، فأن هذه الذنوب تقطع الرجاء وتمنع الدعاء وإذا رأى العبد أنه يدعو الله ويستعين به على أموره كلها وهي غير منقادة إليه فليعرف أن هناك حاجزاً يمنع الدعاء من أن يصل إلى السماء وهذا الحاجز هو الذنب.