قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الإصلاح والمحبة في الوعي الحسيني
*أنور عز الدين
عندما نقرأ سيرة الحسين في انطلاقته الكربلائية، فإننا نجد أنّ العنوان الذي كان يحكم مسيرته هو عنوان الإصلاح في أمة جده (ص)، الإصلاح الفكري في مواجهة الانحراف الفكري، والإصلاح السياسي في مواجهة الانحراف السياسي، والإصلاح الاجتماعي في مواجهة الانحراف الاجتماعي.
ولم يتخذ الحسين (ع) وضعاً استثنائياً، والواقع الإسلامي كان يريد أن ينتفض على السلطة الحاكمة، وكان بحاجة الى رجل يمثل البصيرة والعزيمة والقوة والشرعية بمثل ما وجدت في الامام الحسين (ع).
نعم، لقد كانت الأمة رافضة لحكم يزيد، وهذا ما عبرت عنه الأمة في الانتفاضات والثورات التي توالت بعد واقعة الطف، من ثورة التوابين وحركة المختار وثورة المدينة وغيرها، بل هذا ما عبرت رسائل الكوفة نفسها للإمام الحسين (ع): (لقد أينعت الثمار واخضر الجناب... فإنما تقدم على جندٍ لك مجندة)! فإنّ المؤمنين بل معظم أهل الكوفة كانوا يرغبون بأن يؤول الأمر على الامام الحسين بعد معاوية، لكن المشكلة في الآلية والطريقة، والأهم من كل ذلك الثمن.
ونحن نؤكد أنّ الإمام الحسين (ع) لم يكن خياره في هذه المسيرة هو الحرب، عندما كره مبادرة القوم بالقتال، بل كان مصلحاً محاوراً، أراد أن يرسخ عزة الإسلام ويعيد للمسلمين كرامتهم، وهذا ما تؤكده المحاورات التي كانت تدور بين الحسين (ع) وبين عمر بن سعد حول تسوية الأمور بالطريقة التي لا توصل المسألة إلى الحرب، ولا تفرض على الإمام (ع) أن يبتعد عن خطه أو أن يخضع للحكم الأموي، وأيضاً ما دار بين عمر بن سعد والحر ابن يزيد الرياحي الذي استبعد أمر محاربة الإمام الحسين (ع)، فقال له ابن سعد: (إنّ أميرك لا يقبل إلا بأن ينزل الحسين على حكمه وحكم يزيد بن معاوية).
وفي رواية أبي مخنف والفتوح والأخبار الطوال: (بعث عمر بن سعد إلى الحسين (ع) عزرة بن قيس فقال: ائته فسله ما الذي جاء به وماذا يريد؟ وكان عزرة ممن كتب إلى الحسين فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه وكلهم أبوا ذلك! فقام إليه كثير بن عبد الله الشعبي، وقال: أنا أذهب إليه والله لئن شئت لأفتكن به!! فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن تفتك به، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به)؟
فأقبل إليه فجاء حتى سلّم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له، فقال الحسين: كتب إليّ أهل مصركم هذا أن اقدم، فأما إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم، فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله!
وتولى ابن سعد نقل كل ما قاله الإمام (ع) إلى عبيد الله بن زياد، فأجابه ابن زياد: (أعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا فيه رأينا).
فأرسل عمر بن سعد كتاب ابن زياد إلى الحسين، فقال الإمام (ع) للرسول: (لا أجيب ابن زياد بذلك، فهل هو إلا الموت فمرحباً به).
ثم أرسل الإمام (ع) إلى عمر بن سعد: (إني أريد أن أكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك)، والتقى الاثنان، ودار بينهما حديث مفصل.
إذن، كان الإمام الحسين (ع) رافضاً للحالة الجديدة التي أريد لها أن تُفرض عليه، لذلك كانت كلماته (ع) واضحة: (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد). لأنّ ما طرح عليه يؤدي به إلى سقوط الرسالة تحت تأثير الاعتراف بحكم يزيد وابن زياد.
وعندما أدرك الحسين (ع) أنّ الحوار قد انتهى إلى طريق مسدود، وجد ألا قيمة للتفاوض واستمرار الحوار ما دامت القضايا الأساسية أريد لها أن تسقط. وعلى هذا الأساس نفهم قول الإمام الحسين (ع): (ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجور طهرت من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).
إنّ الحسين (ع) يريد من هذه الكلمات الرائعة أموراً مهمة:
1ـ تحديد هوية العدو بدقة، كما مكانته وشخصيته للناس وللتاريخ، فالعدو على وجه الدقة (الدعي ابن الدعي)، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من هذا العنوان الصارخ ليصفع به الطاغية أمام جنده وقواته.
2 - ما اتخذه الحسين من رفض لا يمثل حالة شخصية. ولذا يعلن (ع) بكل وضوح موقفه من هذا الخيار الصعب: (هيهات منّا الذلة... يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت، وأنوف حمية ونفوس أبية على أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)، إنها عناوين ورسائل للأجيال والانسانية على مر التاريخ، لكل ساحة مواجهة بين الحق والباطل، أو بين الاستقامة والانحراف.
ما الذي نستفيد من هذا الموقف؟
عندما نواجه القضايا الصعبة والشائكة في المجتمع الإسلامي، علينا أن نفسح المجال في البداية لتحقيق أهدافنا بالطرق السلمية ما أمكننا ذلك، وبالاستفادة من الوسائل المتاحة، بشرط أن لا يكن ذلك على حساب العزة والكرامة والمبادئ، وإلا تحولنا إلى الجهاد والقوة.
وهذا ما حصل عندما وقعت الأمة الاسلامية في أكثر من مطب في تاريخها المعاصر، وفي أكثر من بلد وفي أكثر من قضية كبرى وعظيمة، وليس أقرب منّا القضية الفلسطينية التي ذابت قدستيها ومكانتها العظيمة في الاسلام، بفعل المفاوضات والمهادنات الدائرة في حلقة مفرغة منذ أكثر من نصف قرن من الزمن.
إن الإمام الحسين (ع) لم يكن (رجلاً انتحارياً) كما يحلو للبعض أن يعبر، إنما اراد من خلال استرخاص دمه ودماء أهل بيته واصحابه الأباة بأن يفتح نافذة الحرية والكرامة والحياة السعيدة للانسانية، وأن يتعلموا ألا يقبلوا العيش أذلاء مقهورين يظللهم حكم السلطان الجائر.