قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قصة قصيرة
أوراق
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة عدنان عباس سلطان
الدائرة الحمراء وصورة السيجارة المشتعلة بشكل مائل تحرّضه على التدخين كلما نظر صوب الباب الزجاجي نصف الشفاف، تشاغل عنها بالخيوط الرفيعة المتوترة وهي تخترق الستارة المخرّمة نزولاً الى الكاشان المبقع بالضياء، بقع بيضاوية هنا وهناك بين زخارف الكاشان وفوقها ثم يرفع ناظريه الى الستارة العالية يتأمل حاملها الذهبي والثقوب المتوهجة بشعاع الشمس وأيضاً يلمح المرأة المتفاعلة مع شاشة المونتير دون أن يستشف من سيمائها شيئاً عدا اهتمامها بما تنقره على الكي بورد تختلط لمساتها الناعمة مع همهمة بعيدة ومشوشة.
كان يتوقع أن تدعوه لمقابلة السيد (.........) منذ رجوعها من غرفته عبر الباب الموصول لقد عادت الى كرسيها الدوار وتشاغلت بالحاسوب دون أن تتكلم. السيد بذاته أرسل راجياً مقابلته ليقدم له الشكر وتثمين الجهود، جهود وصفها بالمميزة في رفد المسار الثقافي، قراءات نقدية.. نصوص.. سيرة ذاتية.. كونت هذه المواضيع ملزمة كبيرة تأبطها السيد باعتزاز ووعد بطبعها قال ذلك اثناء خروجهم من القاعة مع جموع الحاضرين.
تكفلت قدماه مسافة الطريق اختصرها من السفانة والرحمانية وبعدها عبر النفق ليسلك في ذات الأعمدة وعكد الخضّارة ومن ثم الشارع العريض الذي قاءه عند باب المؤسسة إنه خط ليس من اكتشافه قد رسمه الرواد الأوائل بأقدامهم المتمرسة منذ أيام الإمبراطور التركي المخلوع، إنه يختزن في ذاكرته كثيراً من الخرائط لأماكن متنوعة لا تدخل في مساراتها وسائط النقل الحديثة ولا القديمة عدا آلته الطبيعية التي تنهب الأرض نهباً يتذكر أيام عهده الأولى وهموم الكتابة سأله أحد الزملاء إن كانت له قدمان قويتان ظنها دعابة لكن تجهم الوجوه وسكونها بأنتظار الجواب اضطره أن يقول: نعم إنهما قويتان. عندها بدا الارتياح على الزملاء ولدى استفساره عن المغزى قيل له بتهكم: ذلك من شروط القاص الناجح!!
لكنه بعد لأي فهم بصورة جيدة فائدة أن تكون للأديب ساقان قويتان حصد جراء المماشي المستمرة كثيراً من الإطراءات والثناءات و (الشكرنات). قدمتها له مؤسسات حكومية وغير حكومية دون أن يدرك أحد كيف ينمو هذا الكائن (المشاي) وكيف يركب ضوء الشمس مع مادة (اليخضير) ليستمد الطاقة اللازمة لهاتين القدمين اللتين ما برحتا تطويان المسافات لقد جمع متحصلاته من الأوراق هذه في حقيبة جليية وأخفاها عن أفراد عائلته (المتخاتلين) وراء خط الفقر، أخفاها منذ أن اختفى من عيونهم الفخار واللهفة لرؤية أوراقه المتوهجة لقد دفنها كأنه يدفن عاراً عن عيون شامته في لحظة فكّر أن يسحن تلك الأوراق بماكنة خيالية كتلك التي ركّبها (عباس جوركي) بطل إحدى قصصه التي كتبها في أوقات غابرة ويحوّلها الى مسحوق ناعم راقت له هذه الفكرة فإضاف الى المسحوق صبغة حمراء ثم عبّأها بزجاجات وأخذ يدور بها في الأسواق وهو يصيح:
شكرنات للبيع.. تقديرات للبيع.. إطراءات للبيع.. أوراق مطحونة للبيع، لم يأبه له أحد فاختلطت نداءاته تلك مع محطات البث الفضائية والشتائم السياسية وحملات تعليق الملصقات على الجدران كان الناس مشغولين بالانتخابات ومشاكل النفط الأبيض والغاز الأسود والكهرباء الفاحمة فمن ذا يعرف (فطيمة بسوك الغزل) أفاق من أفكاره وتداعياته ليجد نفسه بذات الجو الهادئ الذي غاب عنه في رحلة مستيقظة فما زالت اللمسات الرقيقة متواصلة على الكي بورد والباب يرسم الظلال الغامضة كلما مرّ أحد في الرواق والدائرة الحمراء تغمزه بالسيجارة المائلة أراد أن يخرج قليلاً لإطفاء الرغبة المتأججة للسيجارة.
لكنه وكم لكز نفسه بالتريّث قطع مسافة طويلة هذا اليوم لم يخسر خلالها درهماً واحداً عدا حزمة من سجائر وحزمة مضاعفة من أحلام مستيقظة. كان وهو يعبر النفق تحت النهر يشعر بملامسة قلب المدينة ويدخل في روحها تدغدغه ثآليل الماء وهي تتساقط بقطرات متفاوتة على رأسه ورقبته. كان يراقب تلك الثآليل الملتصقة بالسقف المحدب وهي تلتمع مثل خرز كرستالية حول الأضوية المتباعدة.
النفق أنبوب طويل تتردد فيه أصوات مبهمة وارتجاجات تطغي على ايقاع خطواته الوئيدة فتمثل له نفسه كالسائر في شريان مدينة لم تنصفه في يوم من الأيام.. أيكون السيد نسي الأمر برمته...؟
فتح الجريدة وأخذ يتصفح أوراقها غير عابئ بتوحد السكرتيرة ركّز بصره بعمود كتابي أخذ يمسح بنظرات لا ترى السطور مسحه طولياً وأفقياً ثم وظب الجريدة ثانياً الوسط على المقدم وأخذ يقرأ مقدمة الجريدة ركز بصره على الخطين المتوازيين... كلمة مكررة.. مقالات.. مقالات.. مقالات.. تذكر أسماء خطرت بباله فجأة وأخذ يضعها فيما بين الخطين المتوازيين.. أحمد آدم.. لواء الفواز.. عقيل علي.. محمد يونس.. عبد اللطيف الراشد.. أراد أن يضع أسمه مع تلك الأسماء لكن ثمة نغمة قد أنبعثت من وراء الباب الموصول.
دلفت المرأة الى الغرفة الأخرى ثم عادت بعد برهة فناولته ظرفاً ترابياً وهي تقول: تفضل أستاذ.
قطب حاجبيه أكثر مما كانا عليه وبشيء من التحدي وعدم الاكتراث تناول الظرف ثم فضّه عن المظروف لم يبال بالسكرتيرة التي كانت تتأمل فيه بدهشة. كانت الورقة هزيلة تماماً مثل الأوراق التي في الحقيبة الجلدية وهي تحمل توقيع السيد، لم تصمد أمام لفحة الهواء التي أهالها الباب الزجاجي نصف الشفاف فأخذت تميل الى اليمين والى الشمال على إيقاع خطواته.
أخذت تتلوى بيده كأنها تحتضر حتى عند خروجه من باب المؤسسة. كانت الأوراق المرمية على الرصيف تتلوى أيضاً وهي تستقبل ورقة جديدة كانت ورقة ناصعة البياض.