قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

علي الشرقي.. الشاعر المجدد
محمد كاظم الكريطي
كان من العسير التكهن بولادة جيل من الشعراء يضاهي – أو على الأقل يساير – جيل الشعراء العمالقة في العراق في القرن الثامن عشر أمثال السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد حيدر الحلي والشيخ عبد المحسن الكاظمي وغيرهم، لكن الجيل الذي تلاه لم يكن يقل عنه – إن لم نقل أنه فاقه – في إنجاب الشعراء الكبار الذين رفعوا راية النهضة الأدبية في العراق وسعوا الى تطوير الشعر شكلاً ومضموناً وخاضوا به مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والفكرية وعالجوا به كثيراًَ من القضايا التي تستحق المعالجة لذلك تميز شعرهم بالثراء وكثرة التفاصيل وتعدد المفاصل والموضوعات وكان من أقطاب هذه النهضة الأدبية الذين تركوا بصماتهم واضحة الأثر في تطور الشعر العربي وسجلوا أسماءهم بحروف لامعة في سجله الخالد الشبيبي و الصافي والجواهري وشاعرنا علي الشرقي الذي اشتهر برباعياته التي تناول فيها بعض القضايا الفلسفية وقضايا الحياة وكثيراً من مشكلات المجتمع العراقي ومنها مشكلة الفلاح وكان يستهدف بذلك الوضع السياسي والاجتماعي بكل صراحة وجرأة.
ولد الشاعر الشيخ علي ابن الشيخ جعفر ابن الشيخ محمد حسن بن احمد بن موسى بن راشد بن نعمة بن حسين في مدينة النجف الأشرف عام 1308 هـ الموافق 1890 م وينتمي في نسبه الى عشيرة الفراغنة وهم من بني خيقان وهي تشكل جزءاً من مجموعة العشائر القحطانية التي يسكن معظمها في سوق الشيوخ في الناصرية حيث كانت عشيرة الشاعر تسكن على ضفاف الغرّاف بالقرب من قرى (حطامان) التابعة لقضاء الشطرة.
نشأ شاعرنا في بيت علم وأدب فقد كان والده الشيخ جعفر الشرقي من كبار الشعراء والعلماء آنذاك كما كان خاله الشيخ عبد الحسين بن عبد علي الجواهري – والد الشاعر الجواهري – من المراجع الكبار والعلماء الأعلام والشعراء الأفذاذ وكانت صلة شاعرنا به وثيقة كما كانت له قرابة أيضاً مع الشيخ هادي ابن الشيخ عباس آل كاشف الغطاء وقد مكنته هذه الصلات والوشائج من التحصيل الجاد ومواصلة البحث وممارسة الأدب.
يقول شاعرنا وهو يصف بواكير حياته العلمية والأدبية في النجف واصفاً الأجواء والمجالس التي نهل منها علومه وآدابه فيقول: (نشأت ورفاقي في مدينة النجف فكانت التلمذة في أقدم مدرسة للأدب العربي تلك المدرسة التي مشى إليها الموكب من جزيرة العرب الى الحيرة ومنها الى الكوفة ومنها الى النجف وهي نسيلة الكوفة أو بقيتها).
تعد النجف من أهم المدن العلمية والأدبية المحافظة على التراث العربي والاسلامي وقد درس فيها شاعرنا العلوم السائدة آنذاك كالنحو والصرف والبلاغة والمنطق والأصول والفقه كما درس الفلسفة ولكن شاعرنا لم يكتف بهذه العلوم بل أخذ يتطلع الى الآفاق الأدبية فيقبل على الشعر يقرأ ويحفظ منه الكثير.
وكان لإلمامه الكبير بالتراث العربي القديم واطلاعه الواسع على التيارات الأدبية التي كانت تطل على العراق في أوائل القرن العشرين من خلال الصحافة العربية في مصر وسوريا أثر كبير في نبوغه وتفتح مواهبه فكتب الشعر وهو في سن مبكرة فقد ظهرت بواكير شعره في السياسة عام 1908 بما كان ينشره في الصحف آنذاك من قصائد تصور الحياة والمشكلات السياسية والاجتماعية يقول في قصيدته (مناجاة النجوم) وهي من أوائل ما كتب من الشعر:
أمالئة الأبعاد علماً وحكمةً تعاليتِ أن يحوي صفاتِكِ شاعرُ
نشدتكِ كم طالعتِ قبليَ حائراً وكم بات يستقريكِ مثليَ ساهرُ
أهيمُ إذا سابت غدائر ليلتي وما أنا ممن هيّمته الغدائرُ
ولكن لي بين النجوم سريرة سأبلى وتبقى يوم تُبلى السرائرُ
سلام على أهل القبور فإنني بُليت بموتى ما حوتها المقابرُ
تطلع الشرقي الى آفاق جديدة في مراحل شبابه وقد ساعده على هذا التطلع استعداده الفطري وسعة اطلاعه على الثقافات المعاصرة في البلاد العربية وكذلك أسفاره التي قام بها الى خارج العراق حيث زار لبنان وسوريا والحجاز والخليج العربي وقد ظهر أثر هذا في شعره الحافل بالصورة الجديدة المبتكرة والمعاني المستحدثة والعبارات الشيقة.
أما شعره السياسي فقد طفح بحسه الوطني في مقارعة الاحتلال والدعوة الى الحرية والاستقلال يقول في قصيدته تحية العلم العربي والتي قالها عام 1921:
أمدينة في إثر أخرى تستبى وطريقة في إثر أخرى تعتفى
حتى إذا رجفت ديار ربيعة وتزعزعت أرض الحجاز تخوّفا
والشام قد أودت وأودى أهلها إلا قليلاً والعراق على شفا
حسب الجزيرة حيفها وجفاؤها أو ما كفى ضيم البلاد أما كفى
كان الشرقي منذ شبابه يتحف بشعره هذا صحف العراق ولبنان على شكل قصائد و رباعيات وموشحات ومزدوجات وقد تناول فيه كبقية معاصريه من كبار شعراء النهضة الأدبية قضايا الوطن العربي في الحجاز وسوريا ولبنان ومصر وليبيا وكان شاعرنا يشارك في تلك الأحداث مشاركة واعية ظهرت بداياتها في حرب طرابلس مع ايطاليا في سنة 1911 فكان له فيها العديد من القصائد يقول في إحداها عام 1911 عندما هاجم الايطاليون طرابلس الغرب وبرقة:
ما لروما فلا استوى عرشُ روما فتلت ذيلها وعجّت نباحا
جبنت عن نضال كل قوي فأغارت على الزوايا اكتساحا
نطحت (برقة) وبرقة واحاتٌ من النخل ما عرفن النطاحا
أبني العرب لا براح عن الحرب وإلا عن الفخار براحا
ورمال الصحراء لا ترهب الاشباح إن جلن جيئة ورواحا
كما لم يغفل الشرقي جانباً كبيراً من رسالة الشاعر وهو الدعوى الى الوحدة ونبذ الخلافات فقد كان شاعرنا يمارس هذه التجربة في شعره بإسلوب هادئ ومتزن ورصين:
هل تدري صنعاءُ ونجدٌ أننا نحتاج تأريخاً جديداً للعربْ
قد طُوي الفسطاط من مصر وقد نامت بنو حمدان عنكِ يا حلبْ
وكوفة الجند اضمحلّ جندُها وقد خلا المنبر من تلك الخطبْ
لا ريشة للصقر في أندلسٍ والشام لم يبق بها إلا الزغبْ
تناست البصرة أخوان الصفا وانقطع (المربد) عن كل سببْ
فقل لصنعاء ونجد إذ أتى دورهما هل يرجعان ما ذهبْ؟
بغداد ما عاد الفرات يابساً وأرض مصر لم تهدّد بالجدبْ
بوركت يا نيل فقد أخصبتها بحاصل من أدب ومن نشبْ
أما باقي قصائده فنجد فيها شعراً رائقاً دلّ على باعه الطويل في التراث العربي واطلاعه على الثقافات المتجددة ففي قصيدته (السيف والقلم) التي عارض بها قصيدة أبي تمام:
السيفُ أصدق أنباء من الكتبِ في حده الحد بين الجد واللعبِ
فيقول شاعرنا وهو ينتصر للقلم على السيف:
هذّب يراعك وأنصر دولة القلمِ وأحمل على الدهر في جند من الكلمِ
السيف يثلم إن طال القراعُ به وفي اليراعة سيف غير منثلمِ
لم يقسم الله في الذكر المبين به وإنما شرف الأقلام بالقسمِ
لا يصلح السيف إلا للقراعِ وذا للعلم، للفضل، للأداب، للنعمِ
أن أصبحت أمةٌ بالسيف بائدةً إن اليراعة تحيي سالف الأممِ
ما علّم الله انساناً بصارمه وإنما علم الانسانَ بالقلمِ
وقد أبدع الشاعر أيّما إبداع بموشحاته حتى يكاد لمن يقرأ هذه الموشحات أن يظن أنه يقرأ لشاعر أندلسي، ويقول شاعرنا عن السبب في ميله الى هذه الموشحات (تجدني أحاول الزحزحة عن الاتجاه القديم فأخرج عن الأدب المدرسي حتى لا يكون ما أنظم وقفاً على طائفة خاصة اعتادت أن تجعل معاجم اللغة الى جنب الدواوين على أني أحرص كل الحرص على اللغة الفصحى وجمالها كما وأنحرف عن القصيدة المطولة ذات الوزن المديد الى الشرقيات والموشحات لما في ذلك من حسن الإيقاع وبراعة الاختصار فقد لطف ذوق القارئ حتى أصبح يمل الإطالة والبعثرة ويرى الجميل بالشعر أن يكون قطفاً كما يقتطف البلبل الوردة)، ويقول في (موشحته) صفير العسس:
عدنا وعادت حالنا الراكدة يسألنا التأريخ ما الفائدة؟
خُضنا شؤوناً جمة فلنقم نفحصها واحدة واحدة
شعبك عن غفلته ما أرعوى يا سمكاً في كلّ يوم يصادْ
لم يبق في تمرك غير النوى واكتست الجمرة ثوب الرمادْ
فكم دم طاح ومال شوى وصيحةٍ قد صعقت في البلادْ
وكم هتفنا وهززنا اللوا ليوم هول مثل يوم التنادْ
أما في موشحته (نشيد العراق) فيقول:
أريد لحناً إن وقّعوه يقال هذا اللحن العراقي
أريد صوتاً أن يسمعوه يقال هذا صوت العراقِ
هذا المغنّي يريد بوقاً من العراق الى العراقِ
فيا حماماً يريد طوقاً من العراق الى العراقِ
يا شعر إني أريد جوقاً من العراق الى العراقِ
أريد طبعاً أريد ذوقاً من العراق الى العراقِ
أما رباعياته التي اشتهر بها وخاصة (مطوّلته) البلبل السجين فقد اعتمد فيها على الرمزية معللاً ذلك بقوله: (أما ما يشبه الرمزية التي جاءت في نواحي الديوان فقد رغبت في أن تكون في الاتجاه الذي أريده لأنها أقرب تعبير عما في النفس من الكبت ولأنها الصورة الكاملة للحس الباطني الذي أتحسس به فهي التأدية المستطاعة في عصر لم يمارس حرية الكلام تماماً ولم يتعود الصراحة في الرأي) يقول في رباعيته (صور ونوازع):
خليليَّ ماذا يقول العراق إذا قيل بغداده والنجفْ
يموج دماً قلب هذا العقيق لسوقٍ تزاحمه بالخزفْ
أسوق الزخارف والتافهات فيك تعارض سوق التحفْ
مضى زمن التمر يا غارسين نخيلاً وجاء زمان الحشفْ
*****
أتخضع دولة العقلاء دوماً لسلطان الغرائز والطباعِ
وهل للناس أغراض بحرب تؤجج غير أغراض الضباعِ
ميول ضاريات مبهمات تحفّزنا لدنيا من صراعِ
جنون الفرد يزعجنا ويؤذي فويل من جنون الاجتماعِ
أما رباعيته الطويلة (البلبل السجين) فقد سجل فيها كل ما عاناه الشاعر في هذه الحياة القاسية وما اتصل بها من آلام وآمال وطوارئ وحوادث فضلاً عن رؤيته نحو الأحداث والانقلابات والحروب والممارسات القمعية للاقطاعيين نحو الطبقة المسحوقة يقول فيها:
أيها البلبل والمعلّق في السجن سلام لعل جالك حالي
فجناحاك مثل قلبي يا بلبل قد رفرفا لضيق المجالِ
لعب التافه الرخيص من الناس مع الدهر بالنفيس الغالي
وإذا الورد في الحوانيت والطير وراء الأبواب والأقفالِ
*****
أيها البلبل المعلّق في السجن سلام عليك في السجناءِ
ما دهتك الأعداء بالسجن يا بلبل لكن سجنت للأصدقاءِ
إنني دائماً أراك وحيداً بلبلي هل عرفت عقم الاخاءِ
لم تغرد في السجن كي تطرب القوم ولكن غرّدت للإزدراء
أما في ثنائياته أو (مزدوجاته) فقد أطلق صرخة ناقدة للوضع السياسي آنذاك كما لم تخلُ من موعظة وحكمة يقول فيها:
عازفاً فوق كومة من جماجمْ بالياتٍ من أقدم الأحقابِ
باحثاً في رفاتها المتراكْ عن رؤوس الأعيانِ والنوّابِ
*****
ليته حلّ ساعة الانعقادِ برلمان يضيّعُ الناخبينا
باحث عن مكافحات الجرادِ ونريد بليّة الزارعينا
انفرد الشرقي في شعره مظهر بارز من بين معاصريه وهو لغته واسلوبه في معالجة الشعر فقد كان يستعمل الرمز والايحاء والأمثال القديمة والحديثة والتشبيهات والاستعارات والكنايات والأخيلة المتنوعة ليبتعد عن الإسلوب التقريري المباشر ولم يبتعد في لغته عن استخدام كثير من المفردات الشائعة في بيئته ولكنه كان يستخدمها بأداء سمح طيع ينسجم مع تلك المعاني والصور والأخيلة.
ولم يقتصر الشرقي في أدبه على الشعر فقد خاض ميدان النثر وقد عدّه البعض من كبار الكتاب في الوطن العربي وقد كتب في مواضيع تأريخية واجتماعية وسياسية وأدبية وقد نشر معظمها في الصحف والمجلات ومن آثاره الأدبية فضلاً عن ديوانه:
1- ديوان السيد ابراهيم الطباطبائي – تعليق ونشر - عام 1914.
2- في ذكرى السعدون عام 1929.
3- الأحلام – مذكرات – عام 1963.
4- العرب والعراق – في التاريخ – عام 1963.
5- الألواح التاريخية – دراسات وبحوث متفرقة.
6- الكتاب الصغير – مجموعة مقالات نشرت في مجلة العرفان 1912.
7- بيت الأمة – مجموعة مقالات عامة.
8- الإمام النائيني – في ذكراه – نشرت في جريدة البلاد عام 1935.
9- عبد الحسين الأزري في ذكراه – مقالة أدبية تحليلية 1956.
وغيرها من المقالات والبحوث والدراسات الكثيرة.
هذه أهم الجوانب الأدبية في حياة شاعرنا علي الشرقي وهناك جانب آخر مشرق في حياته وهو الجانب الجهادي ضد الاحتلال الانكليزي نكتفي بمقتطفات منه خشية الإطالة فقد واكب شاعرنا مسيرة الجهاد ضد الاحتلال الانكليزي والتي قادها العلماء والعشائر من النجف الى الناصرية فالبصرة عام 1915 م وقد رافق المجاهد الشاعر السيد محمد سعيد الحبوبي خلال مسيرة الجهاد وكان مبعوثه المفضل الى عشائر الغراف بما كان لأسرته من مكانة علمية وأدبية هناك ليحثهم على محاربة الانكليز.
- رشح الى عضوية مجلس النواب عن لواء المنتفك (ذي قار) عام 1927.
- عيّن عضواً في مجلس التمييز الشرعي الجعفري عام 1927 فآثر الاستيطان في بغداد حيث مقر وظيفته.
- مارس القضاء الشرعي عام 1933 مدة ستة أشهر.
- اختير رئيساً لمجلس التمييز الشرعي الجعفري عام 1934 حتى عام 1947.
- عين عضواً في مجلس الأعيان عام 1947.
- أستوزر أكثر من مرة (وزيراً للدولة) منذ عام 1953.
- لم ينقطع شاعرنا عن نظم الشعر حتى في شيخوخته.
- توفي يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني عام 1384هـ الموافق 11/8/1964.