قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الشيخ مرتضى الانصاري .. القمة في التقوى والعلم
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *الشيخ علي ياسر العكيلي
لمعت على صفحات التاريخ أسماء لأعلام من العلماء تشرّف التاريخ بتسطير سيرتهم وافتخرت الحضارة بتكريم جهودهم المثمرة، كل ذلك يعود الى تلك المسؤولية العظمى التي حملوها على أكتافهم بأمانة وإخلاص، وقد منحهم المولى جلّ وعلا ذكراً خالداً وصيتاً ذائعاً، فقال تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" حتى أنه في الآخرة يصل مقامهم الى درجة تخولهم أن يشفعوا فيمن إتبعهم وأخذ بعلمهم.
حينما يقف الناس أمام رب العالمين يوم القيامة، وفي هذا الموقف الرهيب يأتي نداء يقول: (أين كافل أيتام آل محمد) فيقوم عنق من الناس وهم العلماء، فكما أنهم كفلوا في الدنيا من صاروا أيتاماً بسبب فقدانهم للأئمة (ع) بالعلم، وبدعوتهم الى الله فأنهم في الآخرة يأخذون من اتبعهم الى الجنة فيشفعون لهم، وهذه درجة عظيمة عند الله سبحانه، ومن هذه النجوم اللامعة في سماء الشيعة والتشيع المرجع الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) والذي يعد من كبار العلماء والمفكرين والمجددين الشيعة، و كان يلقب بالشيخ الأعظم وذلك لما حققه من قفزات علمية كبيرة وعظيمة في الحوزة العلمية وكان هذا اللقب خاصاً به ولا يكاد تتحدث عنه الأوساط الحوزوية إلا بهذا اللقب.
التقوى أولاً..
إن لشخصية الشيخ الانصاري الفذّة مميزات عظيمة في مقدمتها التقوى والورع الشديدين، فكان الشيخ الأنصاري رحمه الله تصل إليه أموال الخمس والزكاة بشكل غزير منذ بداية تزعمه للمرجعية الدينية للشيعة في العالم، ولكنه لم يكن يأخذ شيئا لحاجاته الخاصة فقال له أحد المؤمنين يوماً: (يا شيخ...! إنك تبذل جهداً عظيماً وبيدك مثل هذه الأموال وأنت لا تصرف منها شيئاً في شؤونك الشخصية)، فقال له الشيخ الأنصاري متواضعا: (أي جهد هذا؟! ليس ما أقوم به شيئاً عظيماً).
وعلى الرغم من أن عائلة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) كانت تعيش أزمة مالية فإن الشيخ الأنصاري لم يميزها عن غيرها من العوائل الفقيرة التي كفلتها المرجعية آنذاك، في وقت كانت تمر تلك العوائل بظروف صعبة، طلبت زوجة الشيخ الأنصاري من أحد المقربين أن يتكلم مع الشيخ ليزيد في مبلغ العائلة قليلاً كي تتمكن من القيام بشراء بعض الحاجيات، ولما جاء الوسيط وتكلم مع الشيخ لم يسمع جواباً منه، ولا نفياً ولا إثباتاً، وعندما عاد الشيخ الأنصاري الى المنزل قال لزوجته اغسلي ثوبي واجمعي لي ماء الغسيل في ظرف، فغسلت زوجته الثوب وأتت بما أمرها سماحة الشيخ فقال لها: اشربي هذا الماء!! فقالت وهي مندهشة: كيف لي أن أشربها ونفس كل انسان تشمئز منها، فقال الشيخ: نحن والفقراء في هذه الأموال الموجودة بيدي على حدٍ سواء، ولا ميزة لأحد على آخر، فإذا أخذنا أكثر من حقنا فكأنما شربنا من مثل هذا الماء الوسخ.
هذا فضلاً عن الكثير من الأمثلة والقصص التي مرت على الشيخ الأنصاري والتي لو جمعت وطبعت على شكل كتاب أو كتب تكفي قارئها كثيراً من الدروس والعبر. منها ما ينقل عنه (رحمه الله)، إنه زوجته واجهت ذات يوم حالة العسر في الولادة، وكانت تتلوى من الألم، فقيل له: عندك أموال يمكنك استقدام طبيب أو مختص لمعالجة زوجتك وإنهاء عملية الولادة، لكنه رأى أنه بين أمرين: بين أن يمد يده على أموال المسلمين لأمر شخصي، أو أن ينصاع لعاطفته ويهتم بزوجته كما يفعل الكثير بأكثر من حجة ومبرر، لكنه في نهاية الصراع، توكل على الله وطلب منه العون والشفاء فتمّت الولادة بخير، لكن العبرة في أن أحد الصالحين رأى في المنام إنه أمام إبليس وقد تقطعت حوله حبال من مختلف العيارات، فسأله ما بالك؟! قال جربتها جميعاً ولم أتمكن من سحب الشيخ الانصاري الى بيت مال المسلمين!
الهجرة بحثاً عن العلم
أما على المستوى العلمي فقد تميز الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بالنبوغ وسرعة العطاء العلمي وغزارته فقد حل في كربلاء الحسين (ع) كطالب علم وهو في العشرين من عمره وبقي فيها أربع سنوات يتلقى العلم على يد السيد محمد المجاهد وشريف العلماء ومن ثم ذهب الى مشهد الكاظمين ثم عاد الى وطنه وبقي هناك سنتين لا يقر له قرار حرصاً على نيل حاجته في طلب العلم فقد كان عازماً على الطواف في البلاد للقاء العلماء الفطاحل لعل أحدهم يحقق قصده فخرج الى النجف الأشرف فأخذ عن الشيخ موسى الجعفري سنتين ثم خرج الى زيارة مشهد ماراً في طريقه على كاشان ليفوز بلقاء أستاذه النراقي (صاحب المناهج) فاستدعى لقائه به أن يقيم عنده ثلاث سنين مضطلعاً بالدرس والتأليف، حتى كان النراقي لا يمل من مذكراته ومباحثته وحكي عن النراقي أنه قال: (لقيت خمسين مجتهداً لم يكن أحدهم مثل الشيخ مرتضى).
واصل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) مسيرة الهجرة من بلد الى آخر بحثاً عن العلم والمعرفة الى أن انتهى به المطاف الى العراق في النجف الأشرف سنة 1249 هـ أيام رئاسة الشيخ علي بن الشيخ جعفر فاختلف الى مدرسته عدة اشهر ثم انفرد واستقل بالتدريس والتأليف واختلف إليه الطلاب و وضع أساس علم الأصول الحديث عند الشيعة وطريقته الشهيرة المعروفة الى أن انتهت إليه رئاسة الإمامية العامة في شرق الأرض وغربها، وصار على كتبه ودراستها معول أهل العلم ولم يبقى أحد لم يستفد منها.
تمتاز مصنفاته (رحمه الله) بالدقة المتناهية في العبارة وكان له من الثراء العلمي ما يمكنه أن يحيط بالمسألة من أشكالها الاصولية والفقهية والكلامية كافة مما جعل الدليل الذي يسوقه، قوياً ليس من السهل دحضه، ومن تأليفاته (رحمه الله) كتاب (المكاسب) في الفقه، وكتاب (الفرائد) في علم الأصول وكتاب أصول الفقه. وله عدة رسائل في الرضاع والتقية والعدالة والقضاء عن الميت ورسالة في حجية الظن والقطع والبراءة والاستصحاب.
واليوم يُعد (المكاسب) من أهم المناهج العلمية في الحوزات التي يعتمدون عليها في دراسة الفقه، الى جانب (شرائع الاسلام) للمحقق الحلّي و(تبصرة المتعلمين) للعلامة الحلّي و(اللمعة الدمشقية) للشهيد الأول.
ونحن نستذكر وفاته هذه الأيام، فمن الجدير بنا جميعاً لاسيما طلبة العلوم الدينية أن يقتدوا بهذا الرجل المضحي والمتفاني ويقتفوا أثره في مسيرة طلب العلم والمعرفة، حتى يصلوا الى ما يصبون اليه من المكانة والمنزلة التي من خلالها يتمكنوا أن يخدموا الدين والانسانية، ويرفعوا من شأن الاسلام وذكر أهل البيت (عليهم السلام).