قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

آفاق الذكر في ضمير الإنسان
*مرتضى الموسوي
النفس الإنسانية كالجسم.. تسعد وتشقى، وتصح وتمرض، وتتسامى وتتسافل.. وهي بحاجة إلى وقاية قبل الإصابة، وبحاجة إلى علاج إذا سقطت فريسة الأوبئة التي تنتاب النفوس المظلمة التي فقدت مناعتها فخارت قواها.
وعلم النفس التربوي الإسلامي من أجلّ العلوم شأنا وأخطرها أهميّة، حيث تناول بالرعاية والعناية النفس الإنسانية، فخط لها مساراً، ووضع لها منهاجاً، يستجيب لنوازعها الخيرة وينميها ويحول بينها وبين دواعي الشروالإنحراف، بما وفرّ لها من أساليب الترويض والتهذيب الروحية والاخلاقية.
ومن تلك الوسائل (ذكرالله) تبارك وتعالى. فان حالة الذكر الدائم "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (سورة آل عمران /191)، التي تطلبها الإسلام العظيم من المسلم المؤمن، إن هي الاّحالة استنفار عام لتلك الطاقات البناءة والقوى الكامنة الرشيدة في الإنسان من أجل البناء الإجتماعي والإعمار الحضاري لصالح البشريّة وخيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة. فبالذكر الدائم تتقد جذور الحب الالهي في نفس الإنسان المؤمن ويرتقي إلى عالم الإنشراح وساحات القرب ويتوفر لديه حضور الوازع الداخلي الذي لايعقبه غياب. وبالذكر الدائم تتجلّى للإنسان المسلم فيوضات الرحمة وسعة العطاء الرباني وفي الوقت ذاته، يشهر هذا المسلم فقره بالنسبة للغني المطلق، وعجزه بالنسبة للقدرة التامة.
ولانعني بالذكر لقلقة لسانية أو حركة جسمانية، بل هو أن يترجم اللسان ما إستقر في الجنان من توحيد خالص واستسلام. فذكر الله سبحانه هو الإحساس الدائم بحضوره والشعور بوجوده تارةً والذاكرون الحافظون هم اولئك الهائمون بحب الله الممتلئة نفوسهم بحقيقة وجوده والعاكفة على طاعته، فهم بين دائم الذكر لايغفل وذاكر إذا أغفل لم يتماد بغفلته: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (سورة الأعراف /201).
أولئك الذين انساهم حبّ الله أنفسهم فتوجه كل وعي وشعور فيهم نحو الأحد المعبود، فصار هذا الحب عطاءً في نفس المحب، واستجابه في قلبه، لذا كان ضرباً من ضروب العبادة، ومنبعاً ثراً من ينابيع التوجه والشوق العميق إلى الله سبحانه.
ولايمكن للروح الإنساني أن يطفح بالحب، أو يواصل مسيرة القرب هذه إلا بعد أن تتكشف له حقائق المعرفة الربانية وتتجلى أمامه عظمة الصفات، وجمال الذات الإلهيّة، فمع هذه المعرفة فقط يبدأ وعيه بالتفتح واحساسه الروحي بالتذوّق ونفسه بالإنشراح والتلقّي. "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (سورة آل عمران /191).
فاولئك هم الذاكرون، الذين لم يكن ذكرهم لله مجرد لقلقة لسان، ولا تردد عبارات، أو تدافع الفاظ تولد على شفاههم خاوية ميّتة.. بل ذكروا الله عن معرفة وتفكر و وعي لمضامين الذكر، وتدبر لمداليل التقديس والتسبيح والثناء، فانكشفت لهم حقائق الإيمان، وتجلّت أمامهم مظاهر العظمة الربانيّة، فصار ذكرهم تعبيراً صادقاً عن وعيهم الكامل لارتباطهم وتعلّقهم بالله سبحانه واحساسهم بالافتقار والحاجة إلى عظيم صفاته وكما ل ذاته.
اذن فليس ذكر الإنسان لله سبحانه احساساً عائماً، ولا عملاً مقطوع الصلة والجذور بالسلوك والمواقف العمليّة للإنسان: بل للذكر آثاره ومردوداته الإيجابيّة البناءة على نفسية الفرد وعلاقاته ومواقفه.. فمن اولى نتائجه وآثاره الإحساس بالسعادة والطمأنينة النفسيّة. "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (سورة الرعد /28).
ومن آثار هذه العبادة والعلاقة المخلصة ايضاً وهو شعور النفس بوجود الله الدائم، وعدم نسيانها له. فالإنسان الذاكر يرى الله معه في كل عمل يقوم به ويحس وجوده في كل آن ومكان يعيش فيه، حتى يرى الله قائماً في كل شيء ومع كل شيء.
لذا كانت تجربة الحب الإلهي تجربة إنسانية رائعة لايدرك ابعادها ولايعي مضامينها إلا اولئك الذين عاشوا مشاعر الإستغراق في أبدية الحب والشوق الإلهي العميق، فانطلقت تلك المشاعر التي أخصبتها تجربة الحب الإلهي لتهدم حصون الأنانية وتنطلق بالذات الإنسانية إلى عالم السّعة والامتداد.
والإنسان في رحلة البحث عن الحب الإلهي هذه، وهو يعبر عن علاقته بالله، إنما يعبر عن حقيقة هامة تسرى في أعماق كل موجود وتطفح على وجه كل حقيقة وهي أن الله أحب خلقه، و زرع جذور هذا الحب والشوق في أعماق هذا الخلق ويتكاثف هذا الشعور وينمو في نفس الإنسان فتصبح عبوديّة تستولي على ضميره ووعيه.
وبذا يكون هذا الحب ضرباً من ضروب العبادة ومنبعاً من الخير والسلام في هذه الحياة لان هذا الحب هو بداية التنازل عن (الأنا الملفّق) ونقطة الانطلاق في مرحلة إفناء الذات والإرادة الإنسانية في إرادة الله ومشيئته.
وعندما ينمو هذا الإحساس في ضمير الإنسان وتترسخ هذه العلاقة بين الإنسان وخالقه يبدأ ذكرالله يعيش في نفس الإنسان إشراقاً لاتغيب شمسه ويستولي هذا الحب المقدس على نفوسهم ويحتل كل مساحة ومتسع في قلوبهم، فلم يعد لغير هذا المعبود متسع أو موقع في نفوسهم. والله تعالى يشير إلى هذا الحب المتبادل في كتابه الكريم: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" (سورة البقرة /152). ويقول الحديث القدسي الشريف: (أنا مع عبدي ماذكرني، وتحركت بي شفتاه). ويقول الإمام الصادق(ع): (ما من شيء إلاّ وله حد ينتهي إليه، إلا الذكر، فليس له حد ينتهي إليه، فرض الله الفرائض فمن أداهن فهو حدهن، وشهر رمضان فمن صامه فهو حده، والحج فمن حجه فهو حده، إلاّ الذكر فان الله تعالى لم يرضى منه بالقليل، ولم يجعل له حداً ينتهي إليه، ثم تلا قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا *وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا" (سورة الأحزاب /42-41).