قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الشاعر السيد صالح القزويني
فارس العلم والأدب
محمد كاظم الكريطي
شاعر غرس يراعه بمداد العلم، عالم سطع نجمه في دنيا الأدب، فبلغ الغاية القصوى في نبوغه العلمي، وتضلّعه الأدبي، مثلما كان يرفد الساحة العلمية بمؤلفاته فقد كان يتحف الساحة الأدبية بما تجود به قريحته من أشعار رائقة، فكان له شأن كبير على الساحتين.
ولد السيد صالح بن السيد مهدي بن السيد رضا الحسيني القزويني في النجف الأشرف في 17/رجب/ 1208 هجرية، ونشأ في بيئة تحفها العلوم والآداب فهو من أسرة لها في مضماري العلم والأدب باع طويل وجذور عميقة فجدّه السيد رضا القزويني من كبار العلماء ومن أقران العلامة الكبير الشيخ مهدي الفتوني استاذ بحر العلوم وكاشف الغطاء فبرز في ذريته كبار العلماء والشعراء والخطباء وبقيت هذه الاسرة الكريمة تنجب أعلام العلم والتقى والأخلاق والأدب ومن أبرزهم شاعرنا السيد صالح الذي كان شعلة علمية وأدبية في أسرة القزويني وبقيت هذه الشعلة وقّادة بما أنجبته من الاعلام، فكان للجو العلمي والأدبي تأثيره المطلق على هذه الأسرة فضلاً عن الروح الاسلامية الولائية التي تغمره والتي توشحت بحب أهل البيت (ع) فقد سلك نجلا شاعرنا مسلك ابيهما وشاعرنا من كبار الشعراء في قافلة شعراء أهل البيت (ع).
نشأ شاعرنا في النجف الأشرف ولا ينكر ما لهذه المدينة من أثر كبير على العالم الاسلامي فهي مركز إشعاع علمي وادبي بارز على مدى العصور فدرس شاعرنا العلوم الدينية على جماعة من العلماء وعلى رأسهم استاذه الإمام الشيخ محمد حسن صاحب كتاب (جواهر الكلام) الذي عرف به. وقد ترك هذا الاستاذ أثراً عميقاً في نفس شاعرنا إنعكس على مؤلفاته. بدأ شاعرنا رحلته العلمية مع التأليف ومن أهم مؤلفاته: مؤلفاً ضخماً في ثلاثة مناهج وخاتمة اسمه (تارخ أحوال سيد الوصيين أمير المؤمنين (ع) ثم أقبل السيد صالح على الشعر إقبالاً شديداً غطى على مؤلفاته حتى عرف شاعراً كبيراً وقد تميّز شعره بصدق العاطفة والاخلاص في الولاء لأهل البيت (ع) وخاصة في مراثيه الحسينية التي أكدت صدق عاطفته بقدر إجادته في تقديم الأنموذج الراقي لمراثي الإمام الحسين (ع) مضيفاً لمساته الابداعية التي أكدت تفوقه في هذا الفن فلم يمدح أو يرثي لأجل الشهرة ولا غيرها بل دل شعره على إيمانه بمنهج أهل البيت (ع) واخلاصه وحبه لهم، ويؤكد شاعرنا ذلك في مقدمة (الدرر الغروية) وهي مجموعة قصائد له في مدح ورثاء أهل البيت (ع) حيث يقول: (إني مذ علقت أناملي بأهداب عيون الآداب، واجتليت من تلك الفنون لباب الالباب ووصل إليَّ ما انتهى لموالينا الأئمة الأطياب من شديد المصاب الموجب لتخليد الحزن والاكتئاب الى يوم النشر والحساب وتصفحت ما ورد من فضائلهم عن طريق السنة والكتاب وتلوت ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه وابنائه أفضل التحية والصلاة والسلام، إنه قال: (بنى الله بيتاً في الجنة لمن قال فينا بيتاً من الشعر ولو كان ملحوناً) لم أزل اتشوق لرثاء سادات البشر بقصائد أربعة عشر عدد أولئك الميامين الغرر وتشتمل كل واحدة على نشر فضائل من نسبت إليه وذكر بعض مما و قع فيه).
تميزت قصائد شاعرنا بالثراء وكثرة التفاصيل وغزارة الموضوع وتنوع المفاصل وهذا يدل على إلمام الشاعر بحياة أهل البيت (ع) وسيرتهم فضلاً عن امتلاكه نفساً طويلاً وقدرة على الانسجام في القصيدة فقد احتوى ديوانه على قصائد مطولة لم تفقد جزالتها وبلاغتها حتى آخر بيت، يقول في قصيدته اللامية التي بلغت مئتان وخمس وسبعون بيتاً في مدح النبي (ص) ورثائه:
أين من يثرب الأثير جلالا وهو نور من نورها يتلالا
قد تجلَّت ملائك الله فيه وتجلّى لها المليكُ تعالى
وإليها الاملاك تهبط منه تبتغي من مليكها الاجلالا
أو ما حلّ سيد الرسل فيها من به الرسل حازت الارسالا
كيف لم تفتخر على العرشٍ أرضٌ حوت الطهرَ أحمداً والآلا
قد تجلّت من نوره نار موسى وله خرّ يوم دكّ الجبالا
فالشاعر هنا ينهل من موارد ثقافته العلمية ليعطيها طابعاً أدبياً فلألفاظ (نور، الاملاك، المليك، العرش) لها دلالات عميقة تشير الى منزلة النبي الأكرم (ص) فالأرض هنا تفخر على العرش لأنها حوت سيد المخلوقات قاطبة وهو الرسول محمد (ص) والعرش من ضمن المخلوقات كما إن النار التي تجلت لموسى (ع) هي قبس من نور محمد (ص) الذي هو نور الله تعالى، ثم يقول الشاعر:
بشرت قومها به رسل الله وأوصت بودِّه الاجيالا
ما عليهم اعلاه إلا لعلم إنه خيرهم له أعمالا
ثم لما أراد أن يرحم الله الورى وهو راحم لن يزالا
ارسل المصطفى على فترة من رسله هادياً به الضُّلّالا
فالشاعر هنا يؤكد من خلال ذكره لبعض معاجز وفضائل الرسول الكريم محمد (ص) على مكانته العظيمة عند الله وأنه وصل الى مرتبة لم يصل إليها نبي من الأنبياء وإن الله تعالى عندما أراد أن يرحم الناس أرسل إليهم من كان بهم (رؤوفاً رحيماً) وعلى هذا النسق يسترسل الشاعر في تعداد مزايا وصفات الرسول وفضائله وعندما ينتقل الى رثاء النبي (ص) يقول:
كان غيثاً على النواحي ولمّا أن تجلّى منها النواح، أطالا
كان للدين عصمة، للمنوبين غياثاً، للمرملين ثمالا
كان لله في بريته ظلا به الله يصرف الأنكالا
أما في مدح أمير المؤمنين (ع) فتبرز لنا عينيته الطويلة والتي تبلغ مئتان وثلاثة وثمانين بيتاً، والتي يقول فيها:
سِل أهل بدرٍ من أطلَّ دماءَها ولوى لواها والأسنةُ تشرعُ
وسل ابن ودٍ من ساقه بسيفه كأسَ الردى والشوسُ عنه تتعتعوا
سل من وقى نفسَ النبي بنفسه بمبيته والمشركون تجمعوا
من سار جهراً بالفواطم مرغِماً آنافهم يقفو النبيَّ ويتبعُ
من كان يوم الفتح يحمل راية الإيمان يحطم بالسنان ويقرعُ
وسل الجحافل في حنين من رسى قدماً يذب عن النبي ويدفعُ
سل خيبراً من قدَّ مرحبها ومن لحماتها كأس الحمام مجرّعُ
والملاحظ في هذه الأبيات أن الشاعر أتى بالاستفهام المتكرر (من) للتعظيم فهو يذكر تلك الوقائع مشيراً الى بطلها وهو يؤكد جملة من الحقائق تتعلق بشجاعة ا لإمام علي (ع) الذي تحققت على يديه كل هذه الانجازات العظيمة للاسلام فيما عجز غيره عن إتيانها ثم ينتقل الشاعر الى ما جاء في حق الإمام علي في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فيقول:
سل هل أتى والعاديات وعمّ و السورات فهي بمدحه لك تصدعُ
سل من بخاتمه تصدّق راكعاً وبه الحصى للوالبية تطبعُ
سل يوم خمٍّ من بفرضِ ولائه لو تسمع الصمَّ الدعاء إذا دعوا
يا قوم إني ظاعن عنكم الى الرحمن والثقلين فيكم مُودِعُ
فاستمسكوا بهما فطوبى لإمرئِ مستمسكٌ يوم الخلائق تجمعُ
وعماد هذه الأبيات ومحورها هو أفضلية الإمام علي (ع) وأحقيته بالأمر بعد الرسول ويؤكد الشاعر هذه الأحقية بكتاب الله واحاديث النبي (ص) وخاصة حديث الغدير وحديث الثقلين فهي نصوص صريحة على خلافته بعد رسول الله (ص)، أما في حق الزهراء (ع) فلشاعرنا لامية عصماء تبلغ مئة وخمس وسبعين بيتاً، يقول فيها:
فاطم بضعتي ومن ساءها منكم فقد ساءني وساء الجليلا
أنا من فاطم وفاطم مني قالها أحمد لها تبجيلا
مكثت بعده قليلاً فقاست من عداه شجىً وحزناً طويلا
تضمّنت هذه الأبيات اشارة الى احاديث الرسول (ص) بحق ابنته الزهراء (ع) ومنزلتها عنده وقد جعل الشاعر منها فداء الى الفجيعة التي جرت عليها (ع) بعد وفاة ابيها، ثم يقول في رثائها:
إن يوم البتول أجرى عيون الآل شجواً دماً ودمعاً همولا
إن يوم البتول أورث قلب الدين والمسلمين داءً دخيلا
إن يوم البتول أبكى علياً وبنيه والرسل والتنزيلا
طالما في الظلام لله صلَّت وإليه تبتّلت تبتيلا
كم لها في الزمان آيات فضل ضاق فيها الزمان عرضاً وطولا
في الأبيات الثلاثة الأولى يتكلم الشاعر بلسان أهل البيت (ع) وخاصة على لسان الإمام علي وبنيه (ع) في اشارة الى اشتراك الآخر – المتلقي – في الحزن والفجيعة، أما البيتان الأخيران فاشارة الى عبادة الزهراء وفضلها، وقد جاء في ذلك احاديث كثيرة. ولشاعرنا في مدح الإمام الحسن (ع) وذكر نبذة من فضائله بقصيدة بائية تبلغ مئة وواحد وخمسين بيتاً، يقول فيها:
إمامٌ على الدنيا أطلَّ نواله وأخصب فيه كل أفقر أجدبِ
تجلى على الاسلام كوكب سعده فأشرق من أنواره كل كوكبِ
وقام مقام المرتضى في دفاعه عن الدين بالحرب والعوان المعطبِ
بعزمٍ كعزم المصطفى يصدع الصفا وحزمٍ كحزم المرتضى متلهِّبِ
تتجلى في هذه الأبيات المكانة الطبيعية للإمام الحسن (ع) بعد أبيه بنص حديث الرسول في تنصيب الأئمة من بعده كما تتجلى الاشارة ايضاً الى وراثته الصفات النبوية والعلوية ولكن هذه المكانة لسبط النبي (ص) لم يراعِ لها بنو أمية حق ولا حرمة، يقول شاعرنا:
وما هوّمت حتى قضى السبط نحبه ونالت به أقصى مرامٍ ومأربِ
وقد أثبتت سبعين سهماً بنعشه بتجديده عهد الحبيبِ المقرّبِ
فهل علمت أكتاف مكةَ ما جرى على الحسن الزاكي بأكتاف يثربِ
في هذه الأبيات يدير الشاعر دفة الحزن والأسى الى عملية دفن الإمام الحسن (ع) وذلك عندما أراد بنو هاشم أن يدفنوه قرب جده النبي (ص) فهو أقرب الناس إليه لكن بني أمية عارضوهم ورموا النعش بالسهام وكادت أن تنشب الحرب لولا وصية الإمام الحسن (ع) لأخيه الحسين (ع) بعدم سفك قطرة دم واحدة في دفنه وهذا دأب أهل البيت في حقن دماء المسلمين ويصور الشاعر هنا النعش وقد ثُبِّت به سبعين سهما وهذا التصوير يعطي عمقاً مأساوياً للأسى و الفجيعة.
أما رثاء شاعرنا للإمام الحسين (ع) فقد تعددت موضوعاته وألمّت بجزء كبير من أحداث كربلاء فقد ذكر أحداث الطف وتفاصيلها فرثى الحسين وبكى لمأساته وقلة انصاره وظمأه وصبره، كما صوّر مأساة اخته زينب بطلة كربلاء ودورها في رعاية السبايا كما وصوّر الموقف الخالد لأبي الفضل العباس مع أخيه الإمام الحسين (ع)، يقول شاعرنا في ميميته التي بلغت مئة وستة وعشرين بيتاً:
فكأنه والصحب محدقة به قمر السماء به تحفُّ نجومُها
وفوارس السمر اللدان سميرها في الروع والبيض الرقاق نديمُها
لم يثنها وقع الصوارم والقنا فكأنما زبر الحديد جسومُها
تنقضُّ بالبيض الصفاح كأنها شهب بها للماردين وجومُها
وأسودَّ من ليل العجاج نهارها واحمرَّ من فيض الدماء أديمُها
بأبي الذي وَاسا أخاه بنفسه لما عراه من الخطوب عظيمُها
يلقى الكماة الدارعين بصارم مهج الكماة به تفيضُ كلومُها
حتى هوى قمر الهدى من هاشم فوق الثرى فهوت عليه نجومُها
ليستمد الشاعر في هذه الأبيات مقومات الاشادة باصحاب الحسين وأهل بيته (ع) وخاصة بطل العلقمي ابي الفضل العباس (ع) من قول الإمام الحسين (ع) حين خاطبهم قائلاً: (إني لا أعلم اصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً خيراً) فهؤلاء الرجال الأبطال موفورو الإيمان على أتم الاستعداد لبلوغ أعلى ما يشهده المؤمن الكامل اليقين. ثم يتعرض لشجاعة الإمام الحسين (ع) التي أذهلت الأعداء وهو يواجه جيشاً بمفرده واهباً الأجيال أروع دروس الإباء والتضحية، فيقول شاعرنا:
ورأى الحياة على الهوان ذميمة وكذا به محمودها مذمومُها
يلقى الجموع بمثلها من نفسه عند الهجوم فلم يرعه هجومُها
واذا الجنود تكاثرت لم يكترث أو صممت لم يثنه تصميمُها
يثني الخيول على الخيول بعزمة علوية فأخيرها قيدومُها
فغدت جموعهم وقد ملأوا الفضا بدداً تطاير كالرؤوس جسومُها
والشاعر هنا يستذكر هذا الموقف الخالد موظّفاً المبادئ الحسينية وموضحاً إن الإمام الحسين (ع) رمز البطولة والتضحية والفداء وخلاصة الشجاعة والبأس ومعلم الثوار الأحرار جميعاً. وفي عينيته يقرن الشاعر بين منزلة الإمام الحسين (ع) العظيمة وما جرى عليه من مآس وفجائع، فيقول:
لله أقمار أفلت بكربلا ولها بيثرب والمحصّب مطلعُ
أنست بهم أرض الطفوف وأوحشت هضبات يثرب والمقام الأرفعُ
طُفْ بيَّ على فلك الطفوف وقل له مستعبراً أعلمت من بك مودعُ
فيك الإمام أبو الأئمة والذي هو للنبوة والإمامة مجمعُ
مولىً بتربته الشفاء وتحت قبته الدعاء من كل داع يسمعُ
فيك الذي فيه النبي موكّل والطهر فاطم والبطين الأنزعُ
فيك الذي اشجى البتول ونجلها وله النبي وصنوه متفجّعُ
فحياة اصحاب الكساء حياته وبيوم مصرعه جميعاً صرِّعوا
إن أهم ما يتجسد في هذه الأبيات هو الارتباط الوثيق بين الإمام الحسين وأصحاب الكساء (ع) فهو امتداد طبيعي لدعوة جده المصطفى ويؤكد ذلك الحديث الشريف: (حسين مني وأنا من حسين) وهو لذلك أبو الأئمة من ولده. ونجد قصائد شاعرنا جانباً آخر هو جانب الأخذ بالثأر من أعداء اهل البيت على يد الإمام المنتظر (عج) وغالباً ما يضمِّن الشاعر هذا الجانب في أبيات تأتي في آخر القصيدة ويعبر الشاعر من خلالها عن ولائه لأهل البيت (ع) انطلاقاً من التبرئة من أعدائهم، فيقول شاعرنا:
يوم بالثأر ينهض المرتجى للثأر بالسيف للعدى قتالا
أصيد من بني النبي يرى في وجهه نور جده يتلالا
غامداً في النحور بيضاً صقالاً راكزاً في الصدور سمراً طوالا
عاقداً راية الهدى ناشراً للأمن من بعد طيه سربالا
ثم يطلق صرخة مستغيث:
يا إمام الهدى الى م نقاسي والهدى بانتظارك والأهوالا
غللونا وقيدونا فأدركنا وفك القيود والأغلالا
كم على بعدك احتملنا الرزايا من اعاديك لا تطاق احتمالا
وهذه الأبيات لا تحتاج الى توضيح، ولنستمع إليه وهو يئن في استنهاضه الإمام المهدي ليغيث أمة جده:
فإلى متى يا ابن النبي محمد تغضي عن الشكوى وإنك تسمعُ
إن لم تغث بالسيف امته ولم تفزع عداه فمن يغيث ويفزعُ
دمكم أطلوه منبر جدكم ظلماً علوه وفيئكم قد وزعوا
أخذوا بأقطار البلاد ولم نجد إلاك معتصماً يجير ويمنعُ
وله مقاطع كثيرة على هذا النحو من الاستغاثة بالإمام المهدي كما هناك جوانب أخرى لا يسع المجال لذكرها تركناها خشية الإطالة فربما يظهر منه يخرج ديوان شاعرنا من زوايا النسيان ويشرح هذه الجوانب.
توفي شاعرنا عام 1306 للهجرة.