قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

المتنبي والتهامي وأوجه الشبهِ بينهما
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *حسن هادي محمد حسين
في بيئة صاخبة بالاحداث والفتن وفي جو مشحون بالاضطرابات والثورات وفي مجتمع مليء بالنزاعات والاهواء وتحيط به عوامل الانحلال والانقسام والفوضى السياسية حيث الخلافة العباسية في بغداد تحت نفوذ البويهيين والحمدانيين والاتراك وغيرهم من الامراء الذين استقل كل منهم بجزء من البلاد اضافة الى فتن القرامطة وثورات الخارجين على الخلافة في مثل هذه الاجواء المضطربة كان ظهور شاعر كأبي الحسن علي بن محمد التهامي أشبه بمعجزة فقد كانت ولادة مثل هذا الشاعر خلافاً لما يراه أكثر النقاد والباحثين والمحققين من ان العصور التي تكثر فيها الاضطرابات السياسية والفتن الداخلية تشل حركة العلم والادب وتسد طريق الفكر والمعرفة وخاصة الشعر.
غير اننا نجد في بعض هذه العصور من الشعراء من لفت اليه الاهتمام أكثر من موت ملك وقيام آخر وتناقل الرواة شعره اكثر من نقلهم أخبار الفتن والثورات وغيرها من الأحداث لانهم سعوا الى النهضة بمجتمهم بعثه من جديد في ملامح تجديدية ووصله بالعصور المزدهرة وامداده بالعصور اللاحقة من خلال نتاجاتهم وابداعهم ولعلنا نجد في التهامي خير من يمثل عصره في النهضة الادبية والثورة التجديدية.
ان الغريب هو ان هؤلاء المجددين من عامة الناس بل من أدناهم في الحالة الاجتماعية ولايجد التاريخ لهم من مخفرات وعوامل ساعدت على تفتح عبقرياتهم كمالايجد المتتبع لاخبارهم موطئ قدم لآبائهم واجدادهم في مضمارهم كما هو الحال مع أبي تمام الذي بدأ حياته حائكاً بدمشق ثم صار يسقي الماء في جامع عمرو بمصر ثم صار اكبر مجدد تاريخ الشعر العربي وعلى رأس مدرسة أدبية ومذهب أدبي يعرف بمذهب الطائي وكذلك الحال مع المتنبي الذي عرف بابن عبدان السقاء فصار مالئ الدنيا وشاغل الناس واذا تتبعنا حياة التهامي نجده يأتي في المرتبة الثالثة بعدهما من حيث التشابه بين حياته وحياتيهما وخاصة المتنبي فحتى كتب التاريخ والمصادر الادبية لاتعرف شيئاً عن بداية هذا الشاعر القادم من تهامة –مكة المكرمة- فاكتفت بايحاز نقاط متفرقه عن حياته لاتغني من جوع فقد جاءت ترجمته في دمية القصر للباخرزي ص 188 ووفيات الاعيان لابن خلكان ج 3 ص 378-379 مختصرة ومفادها انه –اي التهامي– كان: (من السوقة، ولي خطابة الرملة، ثم انقطع الى بني الجراح، يمتدحهم، ويقتدحهم، وكانت له همة في معالي الامور، تسول له رئاسة الجمهور، فقصد مصر، وملك أزمة اعمالهم، قم انه غدر به بعض اصحابه، ومعه كتب من حسان بن مفرج الطائي (ايام استقلاله ببادية فلسطين) الى بني قرة، فصار ذلك سبباً للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي سنة 416هـ ، ثم قتل سراً في سجنه في تاسع جمادي الاول من السنة المذكورة).
لاشك ان القارئ يسبقنا بالاشارة الى هذا التشابه العجيب بينه وبين المتنبي فاذا تطرقنا الى المقارنة بينهما فما علينا إلا أن نبدل الاسماء والاماكن فقط اما الاحداث فهي متشابهة تماماً عند الشاعرين فالمتنبي كما ذكرنا كان من عامة الناس وتاريخه مغمور كما هو الحال مع التهامي ثم فجأة يترأس مجلساً للشعر واللغة والنحو في الكوفة والتهامي ولي خطابة الرملة وكما انقطع التهامي الى بني الجراح يمتدحهم ويقتدحهم فكذلك الحال بين المتنبي وبني حمدان كما قصد كلاهما مصر لنفس الغرض وهو الرغبة في الوصول الى الرئاسة والولاية وكما سعى الحاسدون والبغاة كيداً بالمتنبي فنبزوه بالنبوة ورموه بالبهتان حتى اودعوه السجن فقد فعل امثال هؤلاء فعلتهم مع التهامي فكان السجن حليفه أيضاً وتكتمل سلسلة هذه المقارنة العجيبة الغربية حين يقتلان للسبب نفسه وهو الرغبة في الوصول الى القيادة واذا أردنا أن نضيف الى هذه المقارنة تشابه البيئة الصاخبة الضاجة بالاحداث المتسارعة تبينت الغاية المرجوة من سلوك كل منهما وهمة الساعي الى المجد لان كل منهما كان يرى انه بما يمتلك من مؤهلات ذاتية وثقافة وادب انه اجدر وأولى من كثير ممن تولى المناصب بالثورات والأنقلابات لذلك فقد تشابها حتى في شعرهما فالمتنبي يقطع كل كلام من قبل التشنيع عليه في نسبه وتعييره بمهنة أبيه وانه على نباهة ذكره وعلو قدره جزء صغير من أبية:
أنا من بعضه يفوق أبا البا
حث والنجل بعض من نجله
اما قومه فلا يدع لأحد من الشعراء ان يفاخره بقومه بعد قوله:
واني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف ٌ ان تسكن اللحم والعظما
وعن همته وعلو نفسه فيقول انها لاترضى بغير حكم الله عليها:
تغرب لامستعظماً غير نفسه
ولاقابلاً إلا لخالقه حكما
فلا عبرت بي ساعة لاتعزني
ولاصحبتني مهجة تقبل الضيما
كما يرى انه ارفع مكانة من الملوك والكبراء:
وفؤادي من الملوك وان كا
ن لساني يرى من الشعراء
أما التهامي فهو يرى ان فخر الرجال بصنيعهم وعظيم أفعالهم وليس بحسبهم:
لاتحسبن حسب الآباء مكرمة
لمن يقصر عن غايات مجدهم
حسن الرجال بحسناهم وفخرهم
بطولهم في المعالي لا بطولهم
كما كان يرى انه ليس اقل من الممدوح فأقل قدره ان يدعى من الشعراء:
اقل قدرك ان تدعى الامير كما
اقل قدري ان ادعى من الشعراء
وكان يسعى الى طموحه مستميتاً حتى ولو لم يجد له معينا سوى سيفه:
ويسعدني سيفي على كل بقية
اذا لم أجد في العالمين مساعدا
كما حفل شعر كل منهما بالشكوى من غدر الزمان الذي حال بينهما وبين ما يصبوان اليه يقول المتنبي:
واذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الاجسام
ويقول التهامي:
زمن كأم الكلب ترأم جروها
وتصد عن ولد الهزبر الضاري
كما عانى كل منهما من كيد الحياد وغيض الاعداء من الذين كانوا دونهما شعراً فقال المتنبي:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
وقال التهامي:
تجرد مني الايام نصلاً
له في كل نائبة غرار
تظن أناتي الجهلاء وقرا
وهذا الوقر اكثره وقار
ولم يبال كلاهما بحد الحاسدين ونقمة المبغضين وسعي الوشاة عليهما بل قاتلاً بشجاعة وصبرا في سبيل تحقيق طموحهما فكانا كصلابة الجبال التي لاتزعزها العواصف والرياح يقول المتنبي وكم من جبال جبت تشهد انني الجبال وبحر شاهد انني البحر
ويقول التهامي:
واني طود اذا صارفنه
رياح الحوادث لم يقلق
كما كان هناك تشابه عجيب في بعض الابيات نم عن قريحة تنبع من سايكولوجية واحدة يقول المتنبي:
اذا رأين نيوب الليث بارزة
فلا تظنن ان الليث يبتسم
ويقول التهامي:
والليث اعبس مابدا وجها إذا
ابصرته في صورة البسام
ويقول المتنبي:
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش اخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه
مالجرح بميت ايلام
ويقول التهامي:
واذا الفتى الف الهوان فنبني
ما الفرق بين الكلب والانسان
موت الذليل كعيشه ويد الفتى
شلاء اومقطوعة سيان
ويقول ايضاً:
فموت الفتى في العز مثل حياته
وعيشته في الذل مثل حمامه
وكأنهما أبيا إلا ان يتشابها في كل شيء فقد اشتهر المتنبي بقصيدته الميمية في رثاء امه والتي ضمنها أروع ابياته ورغم ان الرثاء اخذ قسمها الاكبر إلا انها مزجت بالحكمة ومدح المرثي والثناء عليه كما اشتملت على الفخر والتعظيم للشاعر والتعريض بالخصوم والحساد والشامتين وكل هذه الخصائص حملتها قصيدة التهامي الرائية في رثاء ابنه والتي تعد حقا من عيون الشعر العربي وقد ترددت كثيرا على السنة البلغاء والخطباء والادباء ولاتزال تتردد على افواههم الى يومنا هذا أما قصيدة المتنبي فهي اشهر من نار على علم يقول فيها:
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة وجد غير ملحقها وهما
احن الى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وماضما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما انسدت الدنيا علي لضيقها
ولكن طرفا لا أراك به اعمى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو لم تكوني بنت اكرم والد
لكان اباك الضخم كونك لي اما
لئن لذ يوم الشامتين بموتها
لقد ولدت مني لانافهم رغما
ويقول التهامي من مرثيته التي جاوزت المئة بيت
قد لاح في ليل الشباب كواكب
ان امهلت آلت الى الاسفار
ياكوكبا ماكان اقصر عمره
وكذا تكون كواكب الاسحار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكأن قلبي قبره وكأنه
في طيه سر من الاسرار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابكيه ثم اقول معتذرا له
وفقت حين تركت ألأم دار
جاورت اعدائي وجاور ربه
شتان بين جواره وجواري
لقد رثى كل منهما امله الضائع وحظه العاثر في مرثيتهما بقلب محترق ملتاع ولكن ما تركا لنا تراثا ضخما يعد كنزا من كنوز العربية في تاريخها الطويل.