قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قصة قصيرة
الرنين
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة جاسم عاصي
كما لو أنه كان ينتظر ذلك، فقد هبّ من جلسته ما إن سمع رنين الهاتف الذي استقرّ في زاوية بعيدة عنه، غير أنه بدا مضطرباً ربما تعثر بالطاولة التي أمامه بعد أن نحّى الكتاب الذي بين يديه ووضع نظارته فوق الكتاب كان يتذكر ذلك تماماً، ولم يوعز سقوطه أو الأمر إلا بسبب هذا التعثر والحذر الذي ألحق بساقيه جرّاء ثنيهما تحته دائماً لكنه تأكد من أن تعثره هذا كان لغير هذا السبب بعدما أن حاول النهوض من كبوته كجواد رهان شاعراً بثقل جسده وبطء حركته تماماً وبصعوبة السيطرة على إداء أفعاله، ماالذي حدث...؟! سأل نفسه، ربما أقرّ بأنه لم يكن بهذا الثقل فكيف بدا جسده هكذا الى هذا الحد بحيث تعذر عليه التحامل على نفسه أو أستخدم ساقيه؟ من أجل ذلك كبّله ارتعاش مفاجئ كالبرد كأنه تعرّض لموجة مفاجئة بينما رنين الهاتف يحثه على تجاوز مثل هذا العجز وهذا البطء في الحركة والاقتراب من مصدر الرنين.
تصوّر إن ذلك كان من جرّاء خدر الجلوس المتواصل فقد كان يعمد الى تغيير جلسته في كل حين شاعراُ بالتنمّل قليلاُ ريثما تستعيد ساقاه حيويتهما بعدها يواصل كما اعتاد الاستمرار لإدراك الهاتف والرد على المكالمة التي هي بالتأكيد مهمة في هذه الساعة المتأخرة من الليل كما اعتاد أن يرد على اتصال الأصدقاء فالهاتف يشكل الصلة الوحيدة له لسد الفراغ الهائل الذي تبدو عليه حياته هكذا متوحّداً مع كتبه وكتاباته.
الرنين يتواصل ويستمر والخدر لا ينفك عن ساقيه، هل يعقل هذا..؟ ليحركها قليلاً.. يجرب يحاول، ثم حاول ثمة مسافة طويلة بينه وبين القدمين كلما اندفع بقوة لتحريك أصابعهما لا يجد استجابة لذلك، لهاثه يتسارع كما توقف توّاً عن الجري السريع ماذا في الأمر..؟!
كان سؤاله مليئاً بالقلق اضطرب له قلبه خوفاً وقلقاُ، حاول جاهدا أن يقعي على عجيزته، أخذ ساعده بالتنمّل أيضاً وثمة ارتعاش بطيء كالسلك يشدّ عضلات وجهه ماالذي يكبله هكذا..؟
اندفع زاحفاً نحو الهاتف بدت المسافة بينهما ممتدة كالبراري الزحف بطيء والرنين يزداد ويتكاثف، ويهاجم رأسه.
الهاتف قصيّ عنه سمع همساً يصاحب الرنين بعد أن انفتح خازن الصوت كان كلاماً خافتاً يأتيه فقط سمع منه صوتاً بطيئاً ضعيفاً واهناً متقطعاً... يوسف... يوسف... من يكون هذا المنادي...؟! ولأي شيء...؟ ماذا يريد في هذا الوقت من الليل..؟! الزحف بطيء ويشير الى وهم الوصول للهاتف لكنه مصرٌّ على الوصول وإدراك هذا الصوت الذي لا بد أن يكون من الأهمية بحيث حاول صاحبه الإتصال به الآن في وقت متأخر... آه... كم كان أفضل لو كان معه أحد لردَّ على الهاتف لكن ماالذي يفعله وهو الملازم لنفسه ووحدته مع الكتب، الوحدة شديدة الوحشة لأنها ضرورة له الآن فقط عرف كم هي مضرة به وخانقة لأنفاسه يتراءى له العالم صحراء وبراري وهو مقطوع وسطها لا دالة لديه كان قد جرى وجرى ترك كل شيء على حواف الأرض، لا أخضرار ولا عشب سوى دغل أصفر بأرض مترامية رمال وشحوب سدد نظرة الى الجدران ودّ لو يبكي لوحده أو يصرخ، لو يطلق آخر عباراته التي احتبست في حلقه.. أين أنتم يا صحبي..؟ هلموا لنكون سوية شتتتكم البراري..! هلموا لنموت معاً ماالذي دهاني..؟ الرنين توقف..! من يكون المهاتف سوى وحيد مثلي، نحن تبعثرنا جميعاً في أرض لا حدود لها أنقطعت عنها السبل يحاول السؤال وما عندي جواب له حجم الحصاة الصغير عيناه تصغران، تضيقان الجدران تقترب منه زحف وزحف تصور كم من الزمن يحتاج للوصول الى الهاتف..؟ هل يقل هذا..؟ هل يطفأ الانسان بهذه السرعة..؟ لم يكن ليتصور ذلك.. سرت بي مسافات ياهذا، وياذاك علمتموني الوحدة حتى أدمنت عليها تركتموني في وحشة البراري ناديت عليكم وناديت لكنكم لم تلتفتوا نحوي، فما الذي أخذكم مني على عجالة هكذا؟ تركتم كل شيء وغادرتم لا يسحبكم نحونا صوت حتى آلامنا المتواصلة في هذا الفقر حالت بينكم وبينها مسافات كلٌّ يدبر أمره في وقت الشدائد، ما هكذا تعلمنا الأمر أكثر صعوبة وإشكالاً غرقنا جميعاً ونجوتم بجلدكم... ما هذا الهذر..؟
سمع هدير، وهدير وأرجل تخب وتتخاطف الكل يسرع، السيقان ترتبك وهي تسرع وتتقاطع وهو يزحف ويدب لا بد من إدراك الهاتف لم يتصور ذلك كان الزحف بطيئاً ولا يقصر المسافة كما يبدو لأن الهاتف ما زال نائياً عنه بل قصياً ركز كل قوته ليزحف، ثقل عنده كل شيء ساقاه غدتا عبئاً عليه ودّ لو يقطعهما، هل يعقل أنهما بهذا الثقل؟ ساعده ثقل هو الآخر بينما مستوى الرؤيا أخذ بالتضاؤل، بدا مثل تائه في غابة من الضباب، خيل إليه أنه يزحف، واصل ثم واصل انعدم عنه الحساب، الزمن غلاف للتيه لا يستطيع حسابه فقط انغمر داخل جوف لا يدري معالمه بينما تصور أنه يزحف، بل يقترب ولهاثه يتواصل كالعداء ولم يبق أمامه إلا القليل، أين المتسابقون؟ أين صحبه؟ الأرض بور ليس ثمة سيقان خلفه ولامن أمامه أنه الوحيد الذي يحتوي المسافة الممتدة أمامه، يتواصل فقط مع جسده الذي امتلك الحركة وراح يندفع ويزحف الى الأمام بإتجاه الهاتف ربما تلوّى أو انقلب على نفسه ربما أخذته معجزة استطاعت أن تنهضه وترميه الى هناك، المهم أ نه كان قد أدرك المكان وراح يبحث عن جهاز التسجيل وبرؤية مضببة يكاد الإبصار في عينيه ينعدم، إنه لا يحتاجه فقط لو حصل إن وصل الى الهاتف قبل هذا الوقت واستطاع أن يستدرك الأمر ويخبر المهاتف عن أمره وحسم الموقف لكان قد هب لنجدته وحمله عن كبوته هذه.
إتسعت الوحشة وضاق المكان، أخذت كفه تدب وتتلمس ما تدركه باتجاه البحث عن المسجل وأصابعه تتشابك مع بعضها مرتعشة ترتفع وتنخفض مثل حشرة صغيرة تدب ببطء وتحدث حركة وأثراً ولحظة لامست كفه المفاتيح ضغط على الثاني وانتظر لاهثاً ومضطرباً لم يسمع أول الأمر سوى الوشيش لكنه انتظر وصبر ثمة تداخل بطيء يفسح له مجالاً في رأسه، دبيب وهسيس ينطلق من المسجل مثل هواء محتبس ثم أنفاس بطيئة بدت مثل شخير ما هذا الذي يسمعه؟! لا صوت هناك فقط شخير بطيء صادر من حنجرة مقطوعة بعدها سمع أو ربما خُيِّل له.. يو... سف.. أخ... أخي... إني.. عجِّل... اسعفني إني... أمو... ثم سقطت اللاقطة هناك سمع سقوطها جيداً هناك على البلاط لوقوعها صدى واضع سقط كل شيء فيه، ودَّ لو يعيد المكالمة لتتجلى له الأمور ربما عرف المهاتف بدا وجهه ممتقعاً أرتجف وأرتعش وضاق المكان من حوله بينما كفه استقرت مع برودة جسده وسكونه على جهاز التسجيل بدا ساكتاً وسط سكون شامل ووحشة قاتلة كوحشة البراري.