قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الشعبية في الشعر الشعبي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة علي ياسين
في أواخر القرن الأول الهجري طرأت على المجتمع العربي تغييرات في أساليب الحياة كان أثرها كبيراً على طرائق تفكيرهم واتجاهاتهم وميولهم، وقد شملت هذه التغييرات الأدب العربي بعامة والشعر منه بشكل خاص فكان الشعر في ذلك العصر يعبّر عن هذا التغيير بواقعية ويصف الحياة الاجتماعية والفكرية بما هي عليه. فكان لتجديده من ناحية موضوعه وصوره صدى لهذا التغيير الذي شمل الحياة بأبعادها المختلفة كما أدى هذا التغيير الى ابتعاد الشعر عن الصورة البدوية القديمة بصحرائها وطلولها وإبلها، واتصالها بالحياة المدنية المتحررة من قيود التقليد في اللغة والموضوعات والأساليب، وكان من مظاهر هذا التغيير هو اتجاه الشعر نحو الشعبية في مادته وصوره وكانت الصفة الغالبة على هؤلاء الشعراء الذين اتجهوا في هذا الاتجاه هي أنهم من الطبقة الفقيرة وهذا ما جعلهم أقرب الناس في تصوير الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت بصورتها الحقيقية بكل ما فيها من خير وشر، فكانوا يصورون في أشعارهم انعكاس الحياة في نفوسهم وتجاربهم معاً، كما يلاحظ أن هذه التغييرات في الشعر العربي جاءت على ألسن الشعراء الذين لم يدفعوا الى مسالك القول دفعاً ولم يتكسّبوا بالمديح والتهنئة وما إليهما من أغراض الشعر التي يضطر بها الشاعر المتكسّب الى إضفاء صفات المدح والثناء لمن لا يستحقها من الخلفاء والأمراء والولاة والقادة وغيرهم من الطبقة الحاكمة بل كانوا على العكس تماماً من الشعراء الذين اتصلوا ببلاط الخلافة الذين وصفهم (ماسينيون) بقوله: (أنهم إذا تكلموا عن الحاضر كان هدفهم تصويره في صورة غير طبيعية أو بعيدة عن الواقع واجتهدوا في اعطائه صورة جامدة متحجرة)، وهذا طبيعي على هؤلاء الشعراء فلا يمكن لهم اعطاء الخليفة أو الوالي الصورة الحقيقية المزرية التي يعيشها المجتمع فالخليفة نفسه لا يريد ذلك فيسعون الى التزييف والكذب وتلفيق الأسباب لإعطاء الخليفة أو الوالي صورة في غاية الإزدهار والغنى والترف للمجتمع الذي يعيش حياة الفقر و البؤس والفاقة.
إن الشاعر عندما يعبر عن فقره و حاجته لا يحتاج الى المفردات الجزلة والتراكيب الفخمة وغيرها من الأساليب الفنية التي يعتمدها الشاعر في تزويق قصيدته وهو يلقيها أمام الممدوح بل هو يطلق صرخة معبرة عن أنّات الجياع وآهات المحرومين وقد تضمن هذا الاتجاه الى الشعبية في التعبير عن حالة الشريحة العظمى من الشعب الكثير من المعاني أولها الميل الى الواقعية في الفن فنرى الشعراء منذ بداية القرن الثاني يتجهون في شعرهم الى تسجيل أحداث عصرهم في أمانة وصدق وقد لحظ النقاد القدماء هذا التطابق بين شعر المحدثين والحياة الواقعية التي يحيونها فيقول المبّرد في الكامل في اللغة والأدب: (إن اشعار المولّدين يحتاج إليها للتمثل لأنها أشكل بالدهر) وكانت مشكلة الفقر أو مأساته في ذلك العصر هي مصدر إلهام الشعراء الذين كانوا يعانونه أو يحسون ما يعانيه الآخرون منه ولعل أبرز الشعراء الذين عرفوا بهذه المزية هو أبو الشمقمق الذي يعد شاعر الفقر دون منازع فإنه أكثرَ من تصويره والإبانة عنه في شعره حتى يصل الى حالة التهكم ونرى منه هذه الصورة الفنتازية في إحدى قصائده:
برزتُ من المنازلِ والقبابِ فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحابِ
فأنت إذا أردت دخلت بيتي عليّ مسلّماً من غير بابِ
ولا خفت الاباق على عبيدي ولا خفت الهلاك على دوابي
ولا حاسبت يوماً قهرماني محاسبة فأغلظ في حسابي
وفي ذا راحة وفراغ بال فدأب الدهر ذا أبداً ودابي
وكثيراً ما كان أبو الشمقمق يتحدث عن فقره الى السنور الجائع الذي لا يجد عنده كسرة خبز كما في قصيدته:
ولقد قلت حين أقفر بيتي من جراب الدقيق والفخارة.... إلخ
وكانت حياة أبي الشمقمق غاية في البؤس حتى أنه كان يرى أن أفضل ما يوفره لأبنائه في كل هذه الحياة هو الخبز والخبز فقط:
ما جمع الناس لدنياهم أنفع في البيت من الخبز
يقول الدكتور طه الحاجري عن أبي الشمقمق: (إن أبا الشمقمق من أعظم شعراء عصره تعبيراً عن الفقر وتسجيلاً لصور الجماعات الدنيا وخروجاً على التقاليد الشعرية التي ظلت باسطة سلطانها في العصر الأموي في المعنى والإسلوب) ويقول أيضاً: (إن الميزة الواضحة التي يمتاز به شعر أبي الشمقمق هي شعبيته). وهناك شاعرٌ آخر يشترك مع أبي الشمقمق في تصويره الفقر والتعبير عن إحساسه إزاء هذه المشكلة الإنسانية التي يعاني منها أغلب الناس هو أبو فرعون الساسي الذي كان إحساسه بالمشكلة عميقاً لمعاناة أطفاله الصغار معه حتى لقد بلغ به الأمر أن سمى نفسه أبا الفقر وأمه في تلك المقطوعة الحزينة التي تبدو وكأنها أنشودة الجوع والفاقة:
وصبيةٍ مثل فراخ الذَرِّ سود الوجوه كسواد القدرِ
جاء الشتاء وهم بشر بغير قمص وبغير إزرِ
حتى إذا لاح عمود الفجر وجاءني الصبح عدوت أسري
وبعضهم ملتصقٌ بصدري وبعضهم منحجر بحجري
أسبقهم الى أصول الجدر هذا جميع قصتي وأمري
فأرحم عيالي وتولّ أمري كُفيتُ نفسي كنيةً في شعري
أنا أبو الفقر وأم الفقر
ولهذا الشاعر مقطوعات اخرى تدور حول مشكلة فقره وجوعه وجوع أولاده وحرمانهم من الفاكهة واللحم بل ومن الخبز ايضاً ومن الشعراء الذين كانوا يقبعون تحت ركام الفقر والحاجة الشاعر العماني الراجز الذي رأى أحد موالي الرشيد العباسي وهو يرفل بالنعمة الوفيرة وآثار الترف بادية عليه بينما هو قد أهزله الفقر والبؤس فيستثيره هذا المنظر فيسجل لنا مشاعره في أرجوزة عميقة الدلالة يقول فيها:
لا يستوي منعّمٌ بندارُ له قيانٌ وله حمارُ
مقصصّ قصصّه البيطار يطيف في السوق به التجارُ
وعربي برده أطمار يظل في الطرف له عثارُ
قد نصلت في رجله الأظفار يأوي الى حصنٍ له أوارُ
أحدب قد مال به الجدار لا درهم فيه ولا دينارُ
وإذا تركنا هؤلاء الشعراء الفقراء الذين يصورون مشكلة الفقر التي يعانونها وجدنا غيرهم يتحدثون عن هذه الظاهرة التي أصابت عامة الناس في العهدين الأموي والعباسي لا كونها مشكلة شخصية ولكن لأنها مشكلة يعاني منها الكثير من الناس الذين أضر بهم الفقر المدقع بينما يعيش الخليفة وبطانته حياة الترف والبذخ يقضون الليالي الحمراء بين القيان والمغنين والندماء من ذلك قصيدة أبي العتاهية التي وجهها الى الخليفة يذكر فيها بؤس الرعية وهو أن أمرها وكساد مالها وعدم قدرتها على شراء ما تحتاج إليه من الأشياء الضرورية كالمأكل والملبس يقول فيها:
من مبلغ عني الإمام نصائحاً متوالية
إني أرى الأسعار أسعار الرعية غالية
وأرى المكاسب نزوةً وأرى الضرورة فاشية
وأرى هموم الدهر رائحة تمرّ وغادية
وأرى المراضع فيه عن أولادها متجافية
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية
وكان لبعض الشعراء في ذلك الوقت مواقف إزاء الأحداث التي آلت إليها أمور الناس فكان موقف الشاعر دعبل الخزاعي منذراً الى ما ستؤول إليه أمور الناس من فوضى وما تجره أعمال السلطة من ويلات وخراب فقال وهو يرى الخليفة إبراهيم ابن المهدي جالساً على كرسي الخلافة وهو يغني لقواده:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وأرضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطون حنينيةً يرتادها الأمرد والأشمطُ
والعبديات لقوادكم لا تدخل الكيس ولا تربطُ
وهكذا يرزق قواده خليفة مصحفه البربطُ
وكان من الشعراء من لا يعنيه أمر الخلافة والى من تؤول سوى أن يعيش فقط، وهذا الشاعر هو عمرو بن عبد الملك الورّاق الذي عاش في زمن الأحداث والفتن بين الأمين وأخيه المأمون وقد رسم لنا في شعره الوقائع الدامية وتأثيرها في نفوس عامة الشعب وفي حياتهم ولم يكن يستطيع أن يهجر بغداد في فتنتها المروعة تلك لأنه كان يحس أنه فرد من الشعب لا يهمه شخص الحاكم المنتصر أو المنهزم بقدر ما يهمه أن يحصل على أسباب الحياة والعيش فيقول:
ولست بتارك بغداد يوماً ترحَّل من ترحَّل أو أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا نبالي بعد من كان الإماما
ولهذا الشاعر قصيدة في كل يوم من أيام المعارك التي دارت في الفتنة تعبر عن حال الناس وما أصابهم من ويلات وقتل وتصور مآسيهم أكثر مما تصف لنا المعارك نفسها وهو يصور لنا بإسلوبه الشعبي البسيط البعيد عن الفخامة والجزالة رمي بغداد بالمجانيق من كلا الفريقين المتحاربين دون أن يكترثا بإصابة أهداف معينة بل كانت غايتهما إيقاع الدمار والخراب بمدينة بغداد دون نظر الى ما يصيب شعبها من قتل وحرق يقول:
يا رماة المنجنيقِ كلكم غير شفيقِ
ما تبالون صديقاً كان أو غير صديقِ
ويلكم تدرون ما ترمون مرّار الطريقِ
رب خودٍ ذاتِ دلٍّ وهي كالغصن الوريقِ
أخرجت من جوف دنياهم ومن عيشٍ أنيقِ
لم تجد من ذاك بداً أبرزت يوم الحريقِ
وهذه الصورة المفجعة التي رسمها عمرو الورّاق لرماة المنجنيق وهم يرمون الناس الأبرياء رمياً عشوائياً وهم يمرون بالطريق بغض النظر من أن يكون المصاب (صديق أو غير صديق) وصورة الفتاة التي أخرجت من عيشها الرغيد (الأنيق) الى إبرازها حاسرة في يوم الحريق يرسمها شعراء البلاط من كلا الجانبين على أنها بطولات للجنود والقادة لم تكن لولا سداد رأي الخليفة وعزمه وشجاعته وحسن تدبيره في الوصول الى حقه الشرعي في الخلافة!!!
وتطول أيام الفتنة وتكثر ضحاياها وتزداد ويلاتها ومآسيها ويسجل عمرو الورّاق أحداثها فيكشف لنا صورة واقعية مؤثرة هي صورة الحرب بكل أهوالها وضحاياها ويقول في وقعة يوم الأحد التي كانت – كما يصفها – جسيمة في كثرة القتلى يقول:
وقعة يوم الأحدِ صارت حديث الأبدِ
كم جسدٍ أبصرته ملقىً وكم من جسدِ
وناظرٍ كانت له منيةٌ بالرّصدِ
أتاه سهم عاثر فشق جوف الكبدِ
وصائح: يا والدي وصائح: يا ولدي
بهذه الروح الشعبية الواقعية وصف لنا عمرو الورّاق تلك الوقعات التي أوردها الطبري في تاريخه وقد أظهر الشاعر فيها تفجعه على القتلى من الأبرياء الذين لم يكن لهم في الحرب (لا ناقة ولا جمل) كما سجل في قصائده الآثار الوخيمة لتلك الفتنة التي جعلت من الخامل رأساً والتي جعلت اللصوص يعيثون في المدينة نهباً وفساداً ومن آثار تلك الفتنة أيضاً غلاء الأسعار وخاصة الطعام مما جعل الناس يأكلون الميتة وإزداد الفقير فقراً ويصور لنا شاعر آخر تلك الفترة التي أعقبت الفتنة فيقول وقوله يغني عن الوصف:
بغداد دار لأهل المال عامرة وللمفاليس دار الضنك والضيقِ
فرحت أمشي وحيداً في أزقتها كأنني مصحف في بيت زنديقِ
ويصف شاعر آخر أفرده الفقر والعوز عن كل صديق فيقول:
أفردتني الأيام عن كل خدن وأنيس وصاحب وصديقِ
فلو أني مشيت في شهر آب لأبى الظل أن يكون رفيقي
وهذان البيتان يشبهان في روحيهما حب المبالغة في القصيدة في الشعر الشعبي في عصرنا الحاضر. هذا الإتجاه الى الواقعية في الشعر العربي منذ بداية القرن الثاني هو معنى من معاني الاتجاه الشعبي أو نزوع الشعر العربي الى الحياة الشعبية الواقعية ولا نقصد هنا الإسفاف والابتذال في المعاني والأساليب بل بالإبتعاد عن بلاط الخلفاء والأغراض التقليدية، وقد ظهر أثر هذه النزعة الشعبية في المضمون والشكل على سواء فإذا بنا نرى الشعراء يخوضون في التعبير عن نفوسهم وعن مجتمعهم مستجيبين لدوافع شعبية صميمة ومعبرين عن هذه الأغراض جميعاً بإسلوب شعبي واضح بعيداً عن الجزالة الضخمة التي عرفناها في الشعر العربي القديم وهذه الناحية لم تكن هبوطاً بالشعر وإنما كانت تطوراً طبيعياً يساير روح العصر وطبيعته ويخفق قلب الشاعر بمشاعر المجتمع الذي يعيش فيه.
هذا الاتجاه لم يكن فقط في العهود المتقدمة من التاريخ بل حتى عند شعرائنا المعاصرين الكبار فهذا شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري له أكثر من قصيدة منح فيها الصبغة الشعبية في استخدام الكلمات المتداولة مثل قصيدته المشهورة (طرطرا) وقصيدته (تحية الى رونتري!) وقصيدته الرائعة (تنويمة الجياع) التي كانت عبارة عن لوحة رائعة زاخرة بالصور الواقعية رغم أنه لم يعتمد فيها الجزالة والفخامة يقول فيها:
نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعامِ
نامي فإن لم تشبعي من يقظة فمن المنامِ
نامي على زبد الوعود يُداف في عَسَلِ الكلامِ
نامي تزرك عرائس الاحلام في جُنح الظلامِ
تتنوّري قرص الرغيف كدورة البدر التمامِ
وتري زرائبكِ الفساح مبلّطاتٍ بالرخامِ
كما نجد هذا الاتجاه عند الشاعر علي الشرقي في أكثر من قطعة يقول في إحداها:
رأيت شيخاً كبيراً أحناهُ ثقل السنينِ
سألتُ منه فطيراً عن اختمار العجينِ
فقال دنياي خبزٌ قد أدّموه بدَينِ
معجنة الدهر صدري وفوق رأسي طحيني
ونجد هذه اللغة عند الشاعر أحمد الصافي في الكثير من شعره يقول في إحدى قصائده:
أكافح البرد في سراج يكاد من ضعفه يموتُ
في غرفة ملؤها ثقوب أو شئت قل ملؤها بيوتُ
يسكن فيها بلا كراء فار وبق وعنكبوتُ
للفأر من مأكلي غذاء والبق جسمي لديه قوتُ
واعتزل العنكبوت أمري وفي بقاه معي رضيتُ
فهو معي مثل فيلسوف معتزل دأبه السكوتُ