قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

المشيب في الشعر العربي
*علي حسين يوسف
لايكاد يخلو ديوان شعر عربي من هذا الموضوع، فحينما تغزو الشعرات البيض رأس الشاعر يكون ذلك إيذاناً له برحيل الشباب مما يشكل له دافعاً لهجاء الشيب او للبكاء على ربيع العمر الفائت ويعزى الشاعر السبب في قدوم هذا الضيف المزعج الى الهم والأسى والفراق وتكالب الحوادث المفجعة التي مرت عليه وأثرت في نفسه أكثر من ارجاعه الى السبب المنطقي لتقدمه في السن وأعراض الشيخوخة ولكننا نجد عند بعض الشعراء حقيقة ما ادّعوه، فمنهم من (اشتعل رأسه شيباً) وهو لم يكمل العقد الثالث من عمره كأبي تمام وابن زيدون كما نجد شعراء اكثروا في معاني الشيب وفننه كابن الرومي والمتنبي وابي تمام والبحتري وغيرهم ومنهم من جرى طويلا في هذا المضمار واكثر فيه ولعل الشريف الرضي يفوق كل هؤلاء في تعرضه الى الشيب فقد احتوى ديوانه على 463 بيتاً في هذا المعنى وقد تباينت آراء الشعراء قديماً وحديثاً حول الشيب فلا يرى عمرو بن قميئة فيه شيئا هيّناً صغيراً بل فقد فيه صحة البدن وطيب العيش فيقول متلّهفاً على فقد الشباب:
يالهف نفسي على الشباب ولم
أفقد به اذ فقدته أمما
قد كنت في ميعةٍ أسرُّ بها
امنع ضيمي وأهبطُ العصما
اما المثقب العبدي فلا يرى رأي ابن قميئة فالشباب ثوب معار ولا بد للفتى ان يخلعه يقول:
تهزأ ت عرسي واستنكرت
شيبي ففيها جنف وازوار
لاتكثري هزءاً ولا تعجبي
فليس بالشيب على المرء عار
عمرك هل تدرين ان الفتى
شبابه ثوب عليه معار
ولا يتعجب ذو الاصبع العدواني من قدوم الشيب بل يتعجب من إنكارهم عليه ذلك فهذا هو حال الدهر يقول:
اهلكنا الليل والنهار معا
والدهر يعدو مصمما جذعا
فليس فيما أصابني عجب
ان كنت شيبا انكرت او صلعا
وكنت اذ رونق الشباب به
ماء الشباب تخاله شرعا
وهناك معنى آخر في سبب الشيب عند بعض الشعراء وهو اختلاف الحوادث والفواجع التي نمر بها الشاعر من ذلك قول أعصر بن سعد:
قالت عميرة مالراسك بعدما
نفد الشباب أتى بلون منكر
اعمير ان اباك شيب راسه
مر الليالي واختلاف الاعصر
وتستمر رحلة الشاعر العربي عبر العصور بين مادح وقادح ونجد كذلك من الشعراء من يمدح الشيب في قصيدة ثم يعود نفس الشاعر فيذمه في قصيدة أخرى وربما لاتجد صورة للشيب اكثر رهبة من صورة ابي العتاهية عندما قرن الشيب بالموت وعده نذيراً له بقوله:
ومدافع للشيب يخضبه
والشيب نحو الموت يدفعه
ويرسم دعبل الخزاعي صورة رائعة عندما صوّر الشيب ضاحكاَ وهو يغزو رأس الرجل فقال:
أين الشباب؟ وأية سلكا
لا، اين يطلب؟ ضلّ، بل هلكا
لا تعجبي ياسلم من رجلٍ
ضحك المشيب برأسه فبكى
قد كان يضحك في شبيبته
فأتى المشيب فقلما ضحكا
ويصيب المشيب قلب ابي تمام في الصميم بعد ان اتّقدت شعلته في مفارقه فايقن ان روضة الشباب قد اصبحت هشيماً عصفت بها ريح الشيب يقول:
اصبحت روضة الشباب هشيماً
وغدت ريحه البليل سموما
شعلة في المفارق استودعتني
في صميم الفؤاد ثكلاً صميما
ويذرف ابو العتاهية الدموع على شبابه الراحل فيتمنى عودة الشباب:
بكيت على الشباب بدمع عيني
فلم يُغنِ البكاء ولا النحيبُ
فياليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
ويفوق المتنبي ابا العتاهية في حزنه على الشباب وحسرته على ايامه فيقول:
ولقد بكيت على الشباب ولمتّي
مسودّةُ ولماء وجهي رونقُ
حذراً عليه قبل يوم فراقه
حتى لكدتُ بماء جفني اشرقُ
ويلحق الشيب ابن زيدون وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد ان سجنه حاكم قرطبة وهو في ريعان الشباب فيتلهب اسىً وهو يبكي على ريع عمره الضائع في غياهب السجن يقول:
لم تطوِ برد شبابي كبرة وارى
برق المشيب اعتلى في عارض الشعرِ
قبل الثلاثين اذ عهد الصبا كثبٌ
وللشبيبة غصن غير مقتصر
ها انها لوعة في الصدر قادحة
نار الاسى ومشيبي طائر الشرر
ونفس النظرة نراها عند ابن مقرب الذي عزا شيبه المبكر الى قسوة الايام وغدر الدهر يقول:
وما شبت من عدّ السنين وانما
اشاب قذالي ميلها وقلابها
وتأويل احداث اذا ما حسبتها
اتتني بأشيا قل عني حسابُها
وهذا المعنى نجده عند ابي تمام الذي يشكو من انثيال الهموم والرزايا على نفسه فيقول :
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأس إلا من فضل الفؤاد فهذا المعنى قديم عند العرب وحفلت به دواوينهم كما احتوته امثالهم فقالوا (هول يشيب له الرضيع) كما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى: (يوماً يجعل الولدان شيبا) ويخرج الينا دعبل الخزاعي بصورة رائعة أخرى في هذا المعنى بقوله:
لقد عجبت سلمى وذاك عجيبُ
رأت بي شيباً عجّلته خطوبُ
وما شيبتني كبرة غير انني
بدهر به رأس العظيم يشيبُ
كما كان هذا الباعث نفسه عند ابي تمام ايضاً بقوله:
عدل المشيب على الشباب ولم يكن
من كبرة لكنه من ياسِ
ولعل نظرة الشاعر الى الشيب تأتي احياناً تبعاً لمزاجه وطبقاًلحاله وحالته النفسية والسايكولوجية كما نرى ذلك عند ابي العلاء المعري الذي كان يرى في الشيب ضياء النهار وبريق اللؤلؤ وذلك راجع الى كونه لم يعرف لذة الشباب كما عرفها الشعراء فقد ولد أعمى فسيان عنده ذهاب الشباب وقدوم المشيب ولكنه لايرى ذنباً: خبرّيني ماذا كرهت من الشباب فلا علم لي بذنب المشيبِ
أضياء النهار ام وضح اللؤلؤأم كونه كصغر الحبيب ولا يمنع الشيب جريراً من حيويته وشبابه وقوة إرادته فيقول:
يقول العاذلات علاك شيب
اهذا الشيب يمنعني مراحي
وفيما رأينا المتنبي يبكي على الشباب بحسرة فنراه في قصيدة اخرى يمدح الشيب فيقول:
والمرء يأمل والحياة شهية
والشيب اوقر والشبيبة انزقُ
وهذا المفهوم قد لهج به كثير من الشعراء فمدحوا الشيب فهو رداء الحلم والادب كما ان الشباب ردراء اللهو واللعب كما يقول الفرزدق:
ان المشيب رداء الحلم والادبِ
كما الشباب رداء اللهو واللعب
وينفرد ابن المعتز بنظرته إلى الشباب والمشيب فهما عنده سيّان يقول:
جاء المشيب فما تعست به
ومضى الشباب فما بُكائي عليه
وينصح محمود الوراق خاضبي الشيب بقوله:
ياخاضب الشيب الذي
في كل ثالثة يعود
ان النصول اذا بدا فكأنه شيب جديد
وله بديهة لوعة
مكروهها ابداً عتيد
فدع المشيب لما اراد
فلن يعود كما تريد
وله الكثير من الاشعار في هذا المعنى من اروعها قوله:
ياخاضب الشيبة نح فقدها
فانما تدرجها في كفن
اما تراها منذ عاينتها
تزيد في الرأس بنقص البدن
ويصور الشيب بانه جسر للموت بقوله:
اغتنم غفلة المنية واعلم
انما الشيب للمنية جسرُ
كم كبير يوم القيامة يقضى
وصغيرٍله هنالك قدر
ولكن المتنبي يرى ان الشيب هو الموت بعينه بقوله:
من شاب قد مات وهو حي
يمشي على الارض مشي هالك
ويقلل الشريف الرضي من وطأة هذه الفاجعة ليجعل الشيب مصدراً لهدم الصبابة واللذات بقوله:
لا بسلني عن المشيب فمذ جلّ
رأسي كرهاًجفاني الغرامُ
ليس للهو والصبابة واللذت في أربُع المشيب مقام
كما يرى الشريف الرضي في المشيب داءً لا يداويه الطبيب بقوله:
آه من داءين عُدم ومشيب
رب سقم لا يداوى بطبيب
واشعار الشريف في معاني الشيب كثيرة لايمكن احصاؤها هنا وتحتاج الى دراسة مطوّلة ونكتفي هنا بأيراد هذين النموذجين وقد سارت معاني الشعراء القدماء على هذا المنوال في تصويرهم للشيب بقي ان نورد صورة مبتكرة جاءت في شعر أحد الشعراء المحدثين وهو الشاعر الكبير احمد الصافي فقد قرن الصافي الشيب بفتور الشاعرية واضمحلالها ورغم ان رأيه مدعاة للتمحيص الّا ان شعره في ذلك كان مدعاة للاعجاب رأينا ان نختم هذه المعاني الكثيرة جداً بالشيب بهذا الرأي يقول الصافي
لقد كان شعري في الصبا متنمّرا
فاصبح شعري اليوم شيخاً موقّرا
ارى ذاك رغم الطيش عندي معززا
وهذا على رغم الوقار محقّرا
ومن اين في شعر المشيب وبرده
لظىً كان في شعر الصبا متسعّرا
اذا رُمت في شعر المشيب تغزلاً
تضاحك مني الشيب وانحلت العرى