قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قصة بني اسرائيل في الانتقال من العبودية الى التحرر
فلسفة التاريخ في القرآن الكريم والبحث عن دور الانسان
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
للتاريخ فلسفة قرآنية نابعة من ذات الفلسفة العامة، التي تشمل فيما تشمل تطورات حياة الإنسان، فما هي تلك الفلسفة؟ قبل ان نبينها لابد ان نعرف ان التاريخ شريط مجسد لسلسلة الأسباب والنتائج، والتي تعكس بوضوح سنن الحياة، وطبيعة اثرها في حياة البشر.
فالمادة الميتة قد تجري عليها عدة تجارب تعطي في النهاية رؤية واضحة عن طبيعة السنن التي تنطوي عليها هذه المادة، بينما الإنسان الحي لا يمكن ان تجري عليه هذه التجارب.. لا سيما فيما يخص نوازعه وآثارها وطبيعة التشابك بينها من جهة، وبينها وبين نوازع الآخرين من جهة اخرى، فلا نستطيع بالضبط معرفة مدى تأثير الاقتصاد الاشتراكي في تقدم او في تأخر الحضارة البشرية، وذلك باجراء تجارب مختبرية على الأمة. إلا ان تاريخ الاشتراكية هي التجربة الحية له، ذلك ان التاريـخ مدرسة عظيمة نتعلم فيها طبيعة البشر وواقع السنن التي تتحكم في حياته، بيد ان أولى مبادئ أية مدرسة الانتماء إليها بصفة التلميذ لا بصفة الاستاذ، وكذلك التاريخ لا يمكن فرض اتجاه معين عليه، والافتراض سلفاً بان الاقتصاد او الدين او السياسة او ما اشبه، هو الموجه لمسيرة التاريخ. بل من الضروري ان ندع التاريخ يتكلم ليفصح لنا عن حقائق باهرة. ان القرآن يدعونا للتوجه الى طبيعة (العبرة التاريخية) والعبرة تعني محاولة العبور من الحادثة الى جذورها، ومن الواقعة الى اسبابها، ثم تطبيق تلك الحادثة بما يتشابه وإياها في الحياة البشرية المعاصرة. يقول اللـه: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الاَْلْبَابِ" (يوسف /111)، "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الاعراف /176)، "وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ" (هود /120).
إن فلسفة القرآن في التاريخ هي في حقيقتها بعض الدروس التي يجب ان نتعلمها من التاريخ ذاته، وهي تحدّد في الحقائق التالية:
1- البشر واحد، من واحد، وتجري عليه سنن مشتركـة، يقول اللـه سبحــانــه: "هُــوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِـــدَةٍ وَجَعَــلَ مِنْهَــا زَوْجَــهَــا" (الاعراف /189).
2- ومنذ آدم وابنائه، وهم بداية سلسلة الإنسان، نجد الصفات مشتركة والأسباب والنتائج متشابهة إن لم تكن في مظهرها أيضاً فلا اقل في جوهرها الثابت لدينا. فآدم الذي ارتكب اول خطيئة بدافع الطمع والغرور، وابنه الذي ارتكب اول اعتداء في تاريخ الإنسان وقتل اخاه بدافع الحسد والرئاسة، والندم الذي ساورهما، والعقوبة التي لحقت بهما في هذه الدنيا وفي الآخرة.. لكل ذلك اسباب ونتائج مشتركة.
3- إن تطور الجنس البشري في تاريخه لم يكن بحيث يقطع علاقة القربى بينه وبين ماضيه. كما ان اختلافه مع بعضه ليس مما يؤثر في التفاعل مع بعضه، وتبادل التجارب والخيرات في اقل التقادير. لذا تعد العنصرية خرافة ساذجة في فلسفة القرآن التي تقول: "يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات /13).
4- الخط العام الذي يعكس تطورات المجتمعات البشرية يبدأ من السعي الدائب للإنسان، باتجاه غاياته المادية والروحية، إلا ان التباس الحياة يغر الامم باختيار الطرق الميسورة، فينحرفون عن الصراط المستقيم كلما زعموا بانه بعيد وشاق. فكما ان الفرد الذي اؤتمن بقنطـار ذهب تغريه هذه الثروة عن العمل الشاق في سبيل الرزق الحلال فيخون امانته، فكذلك الامم تحسب ان الاستغلال والظلم والانقضاض على الشعوب المستضعفة، هو الطريق الاقرب الى الرخاء والنعيم. بينما التعايش والتنافس الحر يبدو لهم طريقاً بعيداً وشاقاً نحو السعادة، ولهذا ينشأ الصراع وتندلع الحروب، لا بين الطبقات في امة واحدة فحسب؛ بل بين الامم ايضاً.
ومن هنا يبدأ الصراع الأبدي بين هذه الفئة وبين مثيلاتها داخل الطبقة الواحدة من جهة، وبين هذه الطبقة الُمستَغِّلة وسائر الطبقات المستغَّلة من جهة اخرى، وبين هذه الأمة المستضعِفة من جهة، وبين سائر الامم المستضعَفة من جهة اخرى. وبفعل حدة الصراع تقوم في الداخل الثورات وفي الخارج الحروب الضارية.
وبازاء هذا الخط الواضح يسير خط آخر، يمثل خط صعود الانسان، حيث تنبعث بشائر حضارته، ذلك ان الفئة المستغِلة تواجه المقاومة منذ البدء لا من قبل المستغَلين، إذ لا تكون لهؤلاء بصيرة كافية بمعرفة خلفية الأحداث، وليسوا بمستعدين للدفاع عن انفسهم، وانما ايضاً من قبل فئــة من المؤمنين باللـه؛ الذيــن يلتفـون حول نبي عظيم بعثه اللـه لانقاذ الإنسانية من شرورها.
هذه الفئة تبصر بالنور الذي انزل اللـه الى البشر... وتبصر عاقبة الظلم وتهتدي الى حقيقة السنن التي تسيّر حياة الإنسان، ثم تحاول هداية الإنسان نحو الطرق المثلى، التي رغم طولها وبعض المشقة فيها، فهي خالية من الخطورة التي تكشف طريق الضلالة. بيد انها تصطدم بتيار الزمن العنيف الذي يغذيه اغترار الناس بالطرق الأسهل والأقرب الى الرخاء. وهذه الفئة هي التي تمثل جوهرة الإنسانية، إذ لا مصلحة ذاتية لها في مقاومة المترفين، مع ما تكلفهم هذه المقاومة من جهود وتضحيات.
وفي القرآن الكريم قصص رائعة من هذه المقاومة، منها ما هو اكثر اثارة وعبرة للبشرية والاجيال، في مقدمتها قصة بني اسرائيل منذ ان كانوا عبيداً أذلاء تحت حكم فرعون، وحتى ان تحولوا الى أمة أنعم الله عليها وفضلها بفضل نبيه الكليم موسى بن عمران. تقول الآية الكريمة: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة /47). وتمثل قصة موسى الخط الايجابي النير الذي يشع على طول شريط التاريخ، تبدأ هذه القصة بالوحي الذي يهبط على قلب نقي تتكرس مصالحه جميعاً في ترك معارضة النظام السائد، فهو من جانب فرد واحد لا طبقة له ينتمي اليها، ثم انه مجرم في حساب الحاكمين، كما قد رُبي في حضن فرعون، فليس من مصلحته ان يعارضه، الا انه يؤمر بالدعوة الى الحق الذي انحرف عنه الحاكمون الذين عبّدوا بني اسرائيل واستغلوهم ببشاعة متناهية.
صحيح ان فرعون قد حفر قبره بظلمه بسبب استغلاله لبني اسرائيل، وجعل اهل الارض شيعاً يستضعف طائفة منهم، وصحيح كذلك ان هذه الطائفة هي التي تحولت لهيباً من الحقد الذي التهم فرعون وجنوده، وكان ان وعد اللـه و وفى بوعده الصادق: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ" (القصص /5-6).
ولكن ذلك لم يكن كل القضية، بل هناك الخط الايجابي البنّاء الذي لولاه لما كان فرعون يندحر امام بني اسرائيل، ذلك هو انبعاث موسى من عند الله والذي جاء بالفكرة الحضارية، والقيادة الرشيدة، والنصر الغيبي. ثم مطالبة موسى فرعون بانهاء الاستغلال العنصري الذي كان يمارسه ضد بني اسرائيل، وهنا يكون طبيعياً تعاون الطبقة المظلومة مع منقذها الذي يتحرر عن كل مصلحة ذاتية، بنفس المدى الذي يكون طبيعياً مطالبة الرسالة، تحرير الطبقات المستغَلة، بيد انه ليس من الاستغلال تنشأ الرسالة، بل من الله ثم بأمر من الله تتجه بداية ناحية التحرير من نير الاستغلال.
وبهذا تفترق نظرة الاسلام الى التاريخ من نظرة الفلسفات البشرية، فالاسلام ابرز دور الانسان الايجابي في تحرير نظرائه من الاستغلال، بينما الفلسفات الاخرى حاولت ربط حركات التحرير بآلية الحياة، مما اخفت دور الانسان كعنصر ايجابي فاعل، واظهرت دوره كعنصر سلبي منفعل فقط.