قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الشيخ المفيد في ذكرى وفاته..
الريادة في العلم و العطاء
*عبد الخالق حسن
تفخر الحوزة العلمية بان في تاريخها علماء دين كان لهم قصب السبق والريادة في التأسيس لجملة من القواعد العلمية والمنهجية والتربوية، فكانوا بحق مدارس متجولة في سلوكهم ومواقفهم وعطائهم الزاخر، فتحولوا فيما بعد الى نقطة بداية للآخرين، وماتزال الحوزة ترتكز على بعض هذه القواعد، ولا نقول كلها لأن لو اقتدينا بتلكم الشخصيات بشكل صحيح ودقيق لكان وضع الشيعة والمسلمين بشكل عام ما يمكن مباهاته أمام أي مجتمع سعيد ومتقدم في العالم، ويمكن الاشارة هنا الى الأخوين الشريف الرضي والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الصدوق ومن المتأخرين الآخوند الخراساني والشيخ مرتضى الانصاري والمجدد الأول الميرزا محمد حسن الشيرازي وآخرين، لكن في طليعة هؤلاء يقف الشيخ المفيد (طالب ثراه) الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته، إذ يعود اليه ا لفضل في رسم الطريق القويم لطلب علوم أهل البيت (عليهم السلام) والدفاع عن ثقافتهم وسيرتهم بل وتكريسها في الواقع الاجتماعي والسياسي.
الانطلاقة من بغداد
ولد أبو عبد الله ، محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام الحارثي العكبري المعروف بالشيخ المفيد سنة 336 هجريّة، وقيل: سنة 338. وجاء في المصادر أنه ولد وفي بقرية تُدعى (سويقة ابن البصريّ) تتفرّع عن عُكبرى شماليّ بغداد في الحادي عشر من شهر ذي القعدة، فاذا كانت ولادته على رواية عام 338 هجريّة ـ كما ذكر ابن النديم (ص 197 من الفهرست) ـ فيكون عمره عند وفاته 75 سنة، واذا كانت على رواية عام 336 هجريّة ـ كما في رجال النجاشيّ ـ فيكون عمره 77 سنة.
و روي إنّ الشيخ المفيد كان من أهل عُكبر، ثمّ انحدر ـ وهو صبيّ ـ مع أبيه إلى بغداد، واشتغل بالقراءة على الشيخ أبي عبد الله المعروف بـ (جُعَل). وكان منزله في (درب رياح) ببغداد، وبعد ذلك اشتغل بالدرس عند أبي ياسر في باب خراسان من البلدة المذكورة.
وينقل صاحب الأعيان – السيد محسن الأمين العاملي- أن الشيخ المفيد ترعرع في كنف والده الذي لم نعرف من أخباره سوى كونه معلماً في مدينة واسط ولذلك كان يكنى ولده بابن المعلم وما أن تجاوز المفيد سني الطفولة وأتقن مبادئ القراءة والكتابة حتى انحدر به أبوه وهو صبي إلى بغداد حاضرة العلم ومهوى أفئدة المتعلمين فسارع إلى حضور مجلس درس الشيخ أبي عبد الله الحسين بن علي المعروف بالجعل بمنزله بدرب رباح ثم قرأ على أبي ياسر غلام أبي الجيش بباب خراسان وفي أثناء قراءته على أبي ياسر اقترح عليه أستاذه هذا أن يكثر التردد على مجلس المتكلم الشهيد علي بن عيسى الرماني المعتزلي ففعل ويحدثنا المفيد في زيارته الأولى للرماني فيقول: دخلت عليه والمجلس غاص بأهله وقعدت حيث انتهى بي المجلس فلما خف الناس قربت منه فدخل عليه داخل وطال الحديث بينهما فقال الرجل لعلي بن عيسى ما تقول في يوم الغدير والغار؟ فقال أما خبر الغار فرواية وأما خبر الغدير فدراية، والدراية لا توجب ما توجبه الرواية، وانصرف فقلت أيها الشيخ مسألة فقال هات مسألتك، فقلت ما تقول في من قاتل الإمام العادل؟ قال يكون كافراً، ثم استدرك فقال فاسق! فقلت ما تقول في أمير المؤمنين علي أبي طالب (ع) قال: إمام، فقلت ما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير، قال: تابا، فقلت أما خبر الجمل فدراية وأما خبر التوبة فرواية، فقال كنت حاضراً وقد سألني البصري فقلت نعم، رواية برواية ودراية بدراية فقال بمن تعرف؟ فقلت، اعرف بابن المعلم واقرأ على الشيخ أبي عبد الله الجعل فقال موضعك ودخل منزله وخرج ومعه ورقة قد كتبها والصقها، فقال لي أوصل هذه الرقعة إلى أبي عبد الله فجئت بها إليه فقرأها ولم يزل يضحك بينه وبين نفسه ثم قال: ماذا جرى لك في مجلسه فقد وصاني بك ولقّبك المفيد فذكرت المجلس بقصته.
وهكذا بدأ هذا الصبي الطموح بتسلق سُلّم العلم والمعرفة ويزاحم بركبتيه الصغيرتين محافل العلماء وعمالقة العقول في عصره ليصبح رمزاً من رموز العلماء الذين تميزوا ببصماتهم العلمية على التراث الإسلامي.
معلّم بتوجيه من الزهراء (عليها السلام)
الى جانب حرص الشيخ المفيد على طلب العلم وعدم تضييع أية فرصة في هذا السبيل لسبر غور مختلف العلوم الدينية والاحاطة بها، فقد توجه الشيخ المفيد الى التدريس وينقل صاحب الأعيان في المجلد التاسع فيقول: ولتوضيح مدى الجهود التي بذلها المفيد في سبيل التفقه والتعلم نورد فيما يأتي ثبتاً بأسماء الرجال الذين قرأ عليهم واتصل بهم واتصلوا به ويذكر العلامة الأمين، طائفة من الأسماء وصلت إلى ستة وخمسين اسماً ثم يذكر العلامة أبرز تلامذته أمثال الشريف الرضي محمد بن الحسين المتوفى سنة406هـ والشريف المرتضى علي بن الحسين المتوفى سنة 436هـ وسالار بن عبد العزيز الديلمي المتوفى سنة 448هـ ومحمد بن علي الكراجكي المتوفى سنة 449هـ واحمد بن علي النجاشي المتوفى سنة 450هـ والشيخ الطوسي محمد بن الحسن المتوفى سنة460هـ ومحمد بن الحسن بن حمزة الجعفري المتوفى سنة 463هـ وكثيرين غيرهم.
وتنقل لنا المصادر إن الشيخ المفيد رأى في المنام ذات ليلة إن سيدة جليلة القدر بهية الطلعة وقد عرفها بانها الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي مقبلة صوبه ممسكة باحد يديها الحسن وبالأخرى الحسين (عليهما السلام)، وتوجهت اليه بالخطاب : أريد أن تعلم ولداي العلوم الدينية، يقول: تعجبّت من هذا المنام، فكيف بي أعلم سيدي شباب أهل الجنة. وفي غداة اليوم رأيت إمرأة محتشمة عليها سيماء الوقار تمسك بكلتلا يديها ابنيها، فقال ما شأنك؟ قالت أريد ان تعلم ولداي هذان، ثم عرف فيما أنهما السيدين الشريف الرضي والشريف المرتضى، فما كان منه إلا أن أجهش بالبكاء، وقبلهما على الفور، شاكراً هذه اللالتفاتة الكريمة من أهل البيت (عليهم السلام) والعناية لعلماء الدين.
كان الشيخ المفيد يتعامل مع كلِّ ما يريد أن يقدِّمه للآخرين، وكل ما يورده الآخرون عليه، بحسب ما يراه من الأدلة صالحاً ومقنعاً، ومعذراً له في الإقدام أو الإحجام، حتى إذا تبين له عدم صلاحيّته وكفايته، تدارك ذلك بالبحث عمّا هو أوضح وأجلى وأتم، وكان لا يجد حرجاً في أن يسلّم للرأي الآخر إذا كان ذلك الرأي يملك الدليل السوي، والبرهان القوي.
كان واسع الأفق، غزير المعارف، سبر أغوار العلوم الإسلامية على اختلافها، حتى ليقال: إنه كان كثير المطالعة والتعليم، ومن أحفظ الناس وقيل: إنه ما ترك للمخالفين كتاباً إلاّ حفظه ...
اطّلع على العلوم المتداولة في ذلك العصر، وتتبّعها ولاحقها، ومارسها حتى أصبح لديه ملكة علمية راسخة، تتمّيز بالدقّة والعمق، فجاءت نصوصه على درجة من الخلوص والصفاء، صقلتها حساسية القضايا. هذه الحساسية تجاه تلك القضايا، أسهمت في تعميق جذور ثقافة المفيد، ووسّعت من آفاقها، فكان المحاور للآخر دون أن يشعر بالحرج أو يحس بالضعف، أو يوجس في نفسه أدنى خيفة أو تردد، وبعبارة أخرى، كان موسوعةً جامعةً لكل العلوم والفنون، فكان الفقيه المدقق، المؤرخ المحقق، الكلامي اللامع، المناظر البارع والمصنف، إلى جانب كونه رجالياً محدثاً، عالماً بالتفسير، وعلوم القرآن، وأصول الفقه، وغير ذلك من العلوم الإسلامية المتداولة في عصره.
أما مصنفاته فكان (طاب ثراه) كثير التصنيف حتى أن صاحب نقد الرجال يقول: كان فقيهاً متقدماً فيه حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب قريب من مأتي مصنف كبار وصغار. ونحن نورد بعض المصنفات الكثيرة التي ذكرها صاحب اعيان الشيعة والتي تجاوزت الـ195 مصنفاً في الفقه والكلام والتاريخ والتفسير والحديث وغيرها من العلوم ومنها: (المقنعة في الفقه)، (الإيضاح في الإمامة)، (الارشاد)، (العيون والمحاسن)، (نقض المروانية)، (نقض فضيلة المعتزلة)، (إيمان أبي طالب)، (وجوه إعجاز القرآن)، (جوابات الفيلسوف في الأشرار)، (مسائل الزيدية)، (تفضيل الأئمة على الملائكة)، (الجوابات في خروج المهدي).
الموقف المبدأي من السياسة
كان الشيخ المفيد من علماء القرن الثالث الهجري مع بضع سنوات من القرن الرابع الهجري وحيث كانت أوضاع المسلمين في ذلك الوقت تمر في انتكاسات وفتن ومشاكل سياسية واجتماعية، فمع استمرار حكم الدولة العباسية ظهرت الدولة البويهية في ايران، وكانت أول نظام حكم يتبنّى التشيع عقيدة رسمية له، وقد عاصر شيخنا المفيد احداث احتلال بغداد من قبل البويهيين في فترة انحسار وقلّص سلطة العباسيين في العراق، ففي ظل هذه الاوضاع كان موقف الشيخ المفيد إزاء هذه التطورات موقف المدافع عن مبادئ الإسلام وقيمه، غير مداهن ولا متحيز لجهة دون أخرى، وبالرغم مما كان يحظى به لدى الدولة البويهية من تقدير وإجلال وإكبار، إلا انها وافقت على طلب الدولة العباسية بنفي الشيخ المفيد خارج بغداد على خلفية الفتنة الطائفية العمياء التي اندلعت في بغداد، لدى وصول وفد من أهالي البصرة واصطدامهم بجماعة من أهالي الكرخ، وتحرك العباسيين لمساعدة اتباعهم في بغداد، فكان التصور ان الشيخ كان وراء اندلاع الازمة، لكنه غادر مدينته مغلباً المصحلة العامة على مصلحته ومكانته، دون أن يساوم على مبدأ أو قيم دينية عليا.
قالوا في الشيخ المفيد
لم يقتصر بفضل ومنزلة الشيخ المفيد أقرانه من علماء الشيعة، بل أقر ذلك اعلام السنّة من مؤرخين ومشايخ ، يقول الشيخ النجاشي: شيخنا واستاذنا رضي الله عنه وفضله اشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ثم عدد له نحواً من ثمانية عشر مصنفاً في الفقه والاصول والكلام وغيرها.
وقال العلامة الحلي في حقه كما جاء عن صاحب الأعيان: من أجلّ مشايخ الشيعة ورئيسهم واستاذهم وكل من تأخر عنه استفاد منه وفضله اشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية اوثق أهل زمانه واعلمهم انتهت رئاسة الامامية إليه في وقته وكان حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار، وقال الشيخ الطوسي انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه في العلم وكان مقدماً في صناعة الكلام وكان فقيهاً متقدماً في حسن الخاطر واثنى عليه ابن كثير الشامي في تاريخه ثناءً بليغاً عجيباً وقال انه شيّعه يوم وفاته ثمانون الفاً وقال عنه أبو حيان التوحيدي: وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل صبور على الخصم كثير الحيلة ضنين السر جميل العلانية ورغم كراهية بعض العلماء له إلا انه لم يمنعهم ذلك من الثناء عليه والاشادة به فهذا الخطيب البغدادي المعروف بعدائه للامامية يقول في حق الشيخ المفيد: (شيخ الرافضة والمتعلم على مذهبهم وصنف كتباً كثيرة)!
وفاته:
توفي شيخنا المفيد ببغداد في اليوم الرابع من شهر رمضان المبارك سنة 413هـ، وصلي عليه السيد الشريف المرتضي بحضور أعداد كبيرة من الناس، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً حيث بكاه جميع الناس المؤالف والمخالف، ودفن إلى جوار قبر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) الواقع في مدينة الكاظمية المقدسة. ولعظيم منزلته عند أهل البيت (عليهم السلام)، ينقل أن الامام الحجة المنتظر حضر عشية دفنه عند مرقده وأظهر حزناً كبيراً على توقف هذا العالم العملاق عن العطاء للحوزة العلمية وللاسلام بشكل عام، فكتب بأنامله الشريفع على تراب القبر المبتل بالماء البيتين الذين نقشا بماء الذهب على مرقده في الحضرة الكاظمية المقدسة وهو ماثل للعيان حتى اليوم:
لا صوت الناعي بفقدك إنه يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت قد غيّبت في جدث الثرى فالعدل التوحيد فيه مقيم
والقائم المهدي يفرح كلما تُليت عليك من الدروس علوم