قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قصة قصيرة
المرآة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *جاسم عاصي
لم استطع اليوم انجاز اي شيء، فقط درت كاللولب بين المكتبات اتفحص ماصدر من الكتب وما نشرته الصحافة لذا فان نهاري هذا غير ممتلئ بجديد. هذا ماقررته صباحا وما عمدت ان يكون الوجه المقبول لدي بعيداً عن الهموم وتقلبات المزاج التي تعكسها عندي حدة التفكير والانشغال بما يمليه علي ذهني الذي يعمل كالجهاز الدقيق. تتوارد داخله الرسائل والومضات، وتزدحم في زواياه الصور حيث تحاصر بعضها بعضا وانا منقاد معها هكذا قلت في نفسي: أما يكفي كل هذا ياترى لانعم بفسحة من الهدوء..؟!
وبعد ان انجزت مهمة تجوالي اليوم تحت وطأة الشمس والاحتماء تحت المسقفات حيث الظل الوارف، قررت الدخول الى دائرة البريد وكان قراري غير مبرمج اذا المفروض أن اكون اليوم في المستشفى مع والدتي المريضة غير اني وبدافع لا أدركه قررت الدخول الى الدائرة والاتصال بالمستشفى والسؤال عن صحتها أولا ومن ثم الذهاب اليها لقضاء الوقت الباقي من النهار عندها ومراقبة ـ كما في كل مرة ـ تلك الاجهزة والمجسّات التي كبلت جسداً والشاشات التي تومض وتعلن الاشارات والخطوط المتباينة.
اقتربت من جهاز الهاتف وانتظرت ان يفرغ منه احدهم ولحظة نزول الرقم جاءني الصوت واضحا سلمت على صاحبه بمقدمة لائقة يتطلبها هذا اليوم، قلت له: احلني الى شبعة الانعاش من فضلك... فأجابني صوته عذباً ورقيقاً وسلسلاً مفعما بكلمة رددها مراراً: ممنون... ممنون... مما اثلج صدري وشجعني على تكرار مثل هذه المكالمات والبدء بمقدمة اكثر لياقة من هذه التي قمت بها. وحين رن جرس الهاتف في الشعبة تأخر كثيرا حسبته سيسبب ازعاجا للمرضى المحتاجين الى عناية خاصة في شعبة الانعاش، ولم يدم الرنين طويلا حتى رفع السماعة احدهم فجاء صوته هادئا حريصاً اشعرني بالالم والاسف لما لصوته من نبرة منخفضة حتى لا يزعج المرضى سألت عن والدتي بعد أن امطرته بالتحايا والاحترامات. سكن قليلاً قبل ان يجيب ربما القى نظرة على سريرها لكي يجيب ثم قال:
ـ من تكون لها يا أخي..؟
ـ انا...؟!
ـ نعم أنت.
ـ انا ابنها.
ـ لم تزرها منذ يوم امس..؟!
ـ نعم.. المشاغل ياأخي..
ـ حتى لو حضرت يا أخي فانهم لايسمحون بالدخول.
ـ السؤال فقط، السؤال مهم يا أخي.
ـ اعتذرت وقلت له باختصار انني قررت الحضور الى المستشفى وزيارتها لكني فضلت الاتصال اولاً وهذا خطأ أقره وسوف لا يتكرر ان شاء الله لكنه اجاب:
ـ يجب ان تحضر فوراً... ارتبكت وانا أردد:
ـ ما الذي حدث، اخبرني يا أخي؟!
ـ لا شيء المهم ان تحضر.
كنت مرتبكا فعلاً. اطبقت سماعة الهاتف وربما لاحظ من كان ينتظر بالقرب من الجهاز شدة انفعالي هذا وأنا أغادر دائرة البريد دون وعي، ولكن في الطريق بدأ هدوئي يعود اليّ واخذت الامور بروية وزال انفعالي، وهذه هي طبيعتي دائما قلت لنفسي: ربما عادت لها النوبة ليلة البارحة والخفير كان يراقبها وربما طلبتني وهذا أمر مهم، بالتأكيد ربما رغبت ان توصيني بشيء يخصها فهي ادرى بما لي من صفات تبعدني عن الوصايا إلا التي تخصها ولم تنفذها في حياتها، فهي تعرف اني لا اقبل وصايا على مال او تركة ودائما اكون في الزوايا البعيدة عنها وكثيرا ما ضحكت باستغراب وعدم تصديق ماقلته لها!!
من اني اكره النقود والاموال والميراث مكتفيا بالميسور منها غير انها بعد ذلك صدقت ما أقول عددته حالة عادية لصيانة نفسي من السقوط في الهاوية. كانت شديدة الحرص على فهمي واستيعاب وضعي النفسي وتقلب مزاجي واهتماماتي الكثيرة بالقراءة والكتابة، لذا فليس من امر ما قد يحدث فيترك فجوة بيننا، حتى مرضها الشديد هذا لم يكن بدرجة افجعتني ولربما بسبب مقدمات الامراض التي عانت منها، لحظتها كنت انظر اليها وهي تظهر قنينة الدواء حيث تدلق محتوياتها داخل راحة كفها فتمتلئ بالالوان المختلفة مثل حلوى الاطفال تأخذ بفرزها بأصبع السبابة وتنتقي بعضها بهدوء ثم تعيد الباقي الى القنينة التي تحملها دائما للطوارئ وبجرعة ماء تدفعها داخل معدتها التي تصلبت وبان انتفاخها كالحجر وهي لم تبال بذلك وحين كنت اسألها عن اجهاد نفسها وأن هذه الامراض اندفعت اليها فجأة تقول مبتسمة وبحكمة كعادتها:
ـ هل يعقل هذا يا ولدي... كل هذه الامراض اندفعت هكذا فجأة؟!
ـ ولكن كيف ترينها؟
ـ كانت موجودة لكني كنت اكتمها.
ـ ولماذا؟
ـ وماذا تريدني ان اقول عنها؟
ـ من اين داهمتك...؟ ولأي سبب؟
ـ كل حياتي اسباب ياولدي... لا عليك.
وحين ادركت المستشفى اتجهت مباشرة نحو الطابق الثالث حيث غرفة الانعاش حدقت من خلال الزجاج العريض نحو سريرها تأكدت لماذا توقف الخفير عن الحديث معي مدة عبر الهاتف، فهو بالتأكيد كان ينظر الى السرير الفارغ منها، ففرحت ربما نُقلت الى ردهة الباطنية وهذا يعني زوال الخطر. لمحني الخفير اذ أسرع الى الباب وخرج غير أنه بدا كثير الحرارة والالتصاق بي. لم استطع فهم مايريد قوله الذي كبته داخل صدره قلت: لا عليك... نظر نحوي ثم قال:
ـ كانت تريدك ان تحضر وتفوهت باسمك مرارا.
ـ وبعد...؟!
ـ طلبت منها التريث بأنك ذهبت لعمل ما حيث قالت: اعرفه لايفارقني حتى لو كان بعيدا عني. ثم انفلت من وضعه الى الداخل، جاءني بورقة مليئة بالخطوط والجداول الممتدة هنا وهناك مذيلة بالتواقيع والاختام والاسماء ثم اشار لي بمرافقته ولا أدري الى اين. قال ونحن نواصل الخطى في الممر الطويل ونهبط درجات السلالم المتعددة:
ـ حدث هذا عصر أمس، بعد ان ذهبت انت من المستشفى.
ـ بالتأكيد كانت هناك حاجة قضيتها. الحياة اصبحت متعبة ومن الصعب اللحاق بها.
ـ إنه أمر صعب فعلاً.
ـ كيف يدير المرء أمره ياترى؟!
وحين وصلنا الى غرفة موصدة طرقها، ثم دفع الباب دخل ثم تبعته لمحت رجلا يجلس
خلف طاولة بسيطة ومتواضعة تلقف الورقة من يده كانت ملامحه صارمة وقاسية. حدّق بالخفير وبوجهي ثم قال:
ـ هل انت محمود عبد الواحد؟
ـ نعم...
ـ وهل ان فسيحة السيد علي والدتك؟!
ـ نعم ما الامر..؟!
ضغط الخفير على كفي واعتصرها فقد أربكني الرجل تماما برغم تماسك اعصابي حيث اخبرني الخفير بكل شيء لبثنا هكذا صامتين انتابني لحظتها الذهول انبرى السؤال:
ـ هل احضرت التابوت؟! قلت:
ـ لا... انا لم اعلم بوفاتها. حدّق بوجهي وقال:
ـ ماذا تتصور يا أخي انه من صلب عملنا علينا التسليم دائما وبسرعة. لا مكان
عندنا للخزن والحفظ... قلت مستدركاً:
ـ هون عليك، سأعود بأسرع وقت ممكن لا تنزعج ايها الاخ العزيز...
بشّ وجهه قليلاً ولان، لكنه اضاف: اتبعني لترى.
حدّقت بالخفير مستفهما لم اجد مايشير الى فهمه لذلك، عدت ادراجي نحوه مندفعا كعلامة استفهام قلقة وحين مثلت امامه عرف ما ارمي اليه لحظتها قال:
ـ اتبعني سأريك لا بد من التأكد هل انت المعني بذلك، كثيراً ما يحدث خطأ...
فتح الباب ثم دخلت معه الى قاعة متوسطة المساحة والخفير من خلفي لايريم ولايبدي فعلا ما، كانت القاعة محاطة بدواليب حديدية متينة لصق الحائط وبمجرّاة ضخمة ذات مقابض كبيرة لا أدري كيف استطعت ان اقترب منه واتبعه حيث دنا من احد المجرات بعد ان حدّق بالورقة وتفحّص رقما مكتوبا عليها ورقماً في واجهة المجر سحبه، اقشعر جسدي حيث انكشفت جثة مغطاة بشرشف اعرفه. رفع الغطاء فبان وجهها كما لو انها نائمة ثم طلب النظر وقال:
ـ أهذه والدتك؟!
ـ نعم هي.
وانتابني شعور غامض لا أدركه مطلقا حينها اعاد الغطاء على وجهها ثم طلب رفع ورقة كانت مرمية على صدرها. نظر اليها، بعدها تنحى جانبا دافعا المجر الى الداخل. اقترب من مجر آخر حدّق برقمه وسحبه ظهرت جثة اخرى مغطاة لكني لم ارتبك هذه المرة نظر نحوي وطلب مني الاقتراب والخفير يبعد عنا قليلا متطلعا طلب مني التعرف على الجثة لانها تخصني.
ـ اقترب لاتخف انه امر عادي!
ـ لماذا اقترب لقد تعرفت عليها وكفى؟!
ـ لاعليك تعرف على هذه انها تخصك ايضا، ألم تجد الورقة في المجر الاول؟! انها تشير الى عائدية هذه الجثة للذي يستلم الاولى!
اقتربت ملبياً طلبه رفع الغطاء عن وجه الجثة فشدتني اليها سريعا يا إلهي ماذ أرى؟ كنت احدق بأمعان شديد و وعي كامل اذ نسيت اني امام جثة بل كأني أحدّق في مرآة صقيلة تعكس وجهي! أطلتُ النظر لكني بسرعة رفعت عيني عنها وعلى عجالة غادرت القاعة المثلجة راكضا ونداؤه يلاحقني: لاتنس ان تحضر تابوتين اثنين فقط، فيما يتداخل في رأسي صوت ناء واقدام الخفير تقترب مني على بلاط الممر الملتمع وهي تلاحقني وانا اجري هاربا هذه المرة يلاحقني عواء شرس يأتي من بعيد ويقترب وأنا أجري بسرعة فائقة.