قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الاتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم (القسم الثالث)
القيادة الاسلامية في القرآن الكريم
*السيد محمود الموسوي
إن أجلى فكرة تعبّر عن الصفة الإصلاحية والتربوية لتفسير من هدى القرآن، هي الرسالية كمجال أخذ بعده الواسع في السور القرآنية كافة، لذلك ذكرنا أنه يمكننا أن نصنّف التفسير بـ (الرسالي)، توصيفاً بحسب نوع المادة التفسيرية والأهداف المتوخاة من عملية التفسير، والمجال الرسالي الذي نعنيه هو الذي يعتمد على إسباغ الإنسان صفة المسؤولية في أعماله، وأن يكون ذا رسالة يتحمل مسؤولية تبليغها وتمكينها في المجتمع، ويتحمل الأذى في سبيل تحقيقها، ويتبع بصائر القرآن الكريم في حركته في الواقع.
ويمكننا أن نستجلي التصور في المجال الرسالي في تفسير من هدى القرآن من خلال تتبع الرؤى المبثوثة بشكل مكثّف في ثنايا التفسير، وتجميعها موضوعياً، إلا أن التجميع لكل ماورد في المجال الرسالي سوف يؤدّي بنا إلى تكوين عدة مجلدات، وذلك لكثرة موضوعاتها من جهة، ولترابط المجال الرسالي بالمجالات الأخرى، كالعقيدي والفقهي والأخلاقي وغيره، إلا أننا سوف نستعرض في المجال الرسالي مفردات ثلاث صاغت الهيكلية العامة للتحرك الرسالي على نطاق الفرد والحركة والمجتمع، وهذه المفردات هي (المنطلقات، والغايات، والمسارات)، وسنقوم بنقل نصوص من التفسير بترتيب موضوعي، وتعليق توضيحي، لنرى مدى تعزيز المجال الرسالي وعمق تناوله في تفسير (من هدى القرآن).
أولاً: المنطلقات في المجال الرسالي
فمن أجل ضمان صحة المسار الرسالي لابد من التأكيد على المنطلقات كأساس وقاعدة تبنى عليها التصور والحركة الرسالية، وقد أكد سماحة السيد المدرسي في التفسير على عدة أمور تتصل بالمنطلقات أهمها:
1- الإيمان بالله والتسليم له
تحت عنوان (ميزان العاملين) يؤكد السيد المرجع المدرسي دور الجانب العقيدي والتسليم للإيمان في المجال الرسالي، يقول: "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ" (آل عمران/ 52) طلب ـ عيسى ـ من الناس أن يحددوا مواقفهم، فاختارت طائفة منهم (الرسالة) سماهم القرآن بالحواريين.. فقرروا اتباع عيسى وإخلاص العبودية لله والاستعداد للتضحية.. "آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" إنهم آمنوا بالله إيماناً صادقاً وسلّموا لله أنفسهم.
إن إيمان هذه الطائفة بالله كان عميقاً وخالصاً من المصالح والأهواء، ومن الريب والشك، وكان بهدف واحد هو مرضاة الله سبحانه، وإنه كان إيمان العارفين، وكل دعوة تنتصر إذا امتلكت عناصر مخلصة، مثالية في إيمانها، وتقدّم ذاتها ببساطة تامة إلى الله ودون تعقيد، أو فلسفة، أو تردد..
ومن هنا نجد هذه الطائفة تعبر عن إيمانها بهذا الدعاء الدافئ الصادق "رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"1.
ويقول سماحته في مكان آخر: (إن أصحاب الرسالة السابقين يتمتعون بميزات لا توجد في مجتمعاتهم، فهم مؤمنون، ومضحون، ونشطون، ومتّحدون، ويمتلكون القدرة على المبادرة والحسم، وليس كذلك مجتمعاتهم المترهّلة)2.
2- القيادة
من الأسس المهمة في المنطلقات السليمة للفرد والتحرك الرسالي، بعد الإيمان بالله والتسليم له، هو أساس اتخاذ الإنسان قيادة حكيمة وراشدة، في حياته، لأنها هي صلة الوصل الأمينة بين الفرد وبين قيم السماء ومحتوى الكتاب الحكيم.
القيادة شرط الإنتصار وأمان من الفتن
إن شرط الانتصار أن يكون القتال صفاً واحداً، وشرط الصف أن يكون القتال تحت راية القيادة الرسالية، وإنما يكون للقيادة اعتبارها العملي حينما يسلم لها المجتمع، لذلك فإن أعظم ما يمكن أن يلحق القيادة من الأذى هو عدم الطاعة لها، وهذا ما لقيه نبي الله موسى من قومه، وهم يعلمون أن نبيهم هو صاحب الولاية الشرعية من عند الله سبحانه وأن طاعته مفروضة عليهم، في قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ" 3.
حقاً إن المجتمع الذي يعي أهمية القيادة الشرعية يتحصَّن ضد عواصف الفتنة الداخلية بالصلابة ذاتها التي يقاوم بها قواصف التحديات الخارجية. لذلك يأمر القرآن بأن نعلم دور الرسول فينا ثم من يخلفه ويرث مقامه بدرجة ما.. "وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ"، فهو إذن مبعوث من عند الله يحمل رسالة الحكمة والمعرفة والبصيرة، ومادام كذلك فلا بد من الرجوع إليه عند الفتن والشبهات، ولا يجوز الضغط عليه بقبول آرائكم وشهوات أنفسكم، لأن ذلك ليس من مصلحتكم. "لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ" 4.
من أهم شروط القيادة
وفي الآية 248 من سورة آل عمران، يوضح سماحة السيد المدرسي، أهم صفتين ينبغي أن تتوفران في القيادة، وهما:
1/ الثقة بها، وإشاعة الاطمئنان فيمن حولها، وذلك عن طريق التجرد للحق، وعدم الاستسلام للقوى الضاغطة، وعدم تفضيل طائفة من الناس على طائفة.
2/ الأصالة والارتباط بتراث الأمة الحضاري والقدرة على التعامل مع هذا التراث تعاملاً إيجابياً مستمراً، إن تجارب الأمة النضالية عبر القرون أفضل ينبوع يلهم الناس الصبر واليقين والتضحية من أجل القيم الرسالية"5.
من مواصفات القائد
من أبرز صفات القائد، أي قائد سعة الصدر، والقدرة على تحمل الناس، بما فيهم مِن سوء خلق، وتناقض، وجهل، وانحراف. وسعة الصدر بدورها لا تأتي للقائد إلا إذا كان هادفا، يحمل في قلبه رسالة عظيمة يستهين من أجلها بالصعوبات التي يلاقيها من قبل الناس، ولذلك ربط القرآن بين لين الرسول، وبين رحمة الله المتمثلة في رسالته. "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ"6.
وكذلك، يجب أن تتعود القيادة على العفو، ولكن لا يعني العفو السكوت إلى الأبد عن الانحراف، بل يجب العمل من أجل إصلاحه. وذلك بالاستغفار (طلب الغفران من الله)، والدعاء بالمغفرة -كأي دعاء آخر- يجب أن يقرن بعمل مناسب، وهو محاولة الإصلاح، ثم إن القيادة يجب أن تقوم برفع مستوى الناس، وذلك عن طريق التشاور، ذلك أن التشاور يجعل الناس يتحسسون بمسؤولياتهم، فيفكرون في شؤونهم بجدية أكثر، ويحاولون إصلاح أنفسهم بأنفسهم، كما أن القائد يضطر من خلال التشاور إلى بيان مختلف وجوه الأمر للناس، مما يعمق فيهم معرفتهم بالحياة، ويجعلهم أكثر إحساسا بواجباتهم تجاهها.
بيد أن هذه الصفات يجب ألاَّ تنزل القائد إلى مستوى منسق بين الآراء، أو الإرادات فقط، بل عليه أن يحتفظ بحقه في اتخاذ القرار الحازم، ذلك لأن الأمة التي تفقد )القرار( تفقد كل شيء، لأن القرار هو الذي يتجاوز الاختلافات، ويعطي دفوعات هائلة للأمة باتجاه تجاوز العقبات، التي تضخمها عادة الخلافات في الرأي 7.
الأئمة (ع) والعلماء
يبيّن سماحة السيد المدرسي امتداد الأئمة في العلماء، في تفسيره قول الله عز وجل: "يحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ" والربانيون ـ حسبما يبدو لي- هم أولياء الله الذين ينسبون إلى الرب، لأنهم كانوا في منتهى الإخلاص والتضحية، وكانوا يجسدون روح الرسالة كأمثال الأئمة (ع)، والحواريين في التاريخ، والصفة الظاهرة لهؤلاء هي قيامهم لله، وتمحضهم في ذات الله، بالرغم من انهم كانوا علماء بالدين ايضا، وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) في تفسير هذه الآية الكريمة: (أن مما استُحِقَت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي تُوجب النار ثم العلم المنور بجميع ما يحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصهِ وعامّهِ والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه)، أما الأحبار فهم الفقهاء العدول الذين كانوا دون الربانيين درجة لكن وجب على الناس اتباعهم في غياب من الربانيين.
وقد كانت قيادة هذه الفئة للناس على أساس وجود صفات الفقه والعدالة والتصدي فيهم، أما الفقه والعدالة فتدل عليهما كلمة "بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ" أي بسبب أنهم كانوا أمناء على كتاب الله، وأيضاً بقدر حفظهم لكتاب الله، دراسة وتطبيقاً فكلما كان الشخص أوسع فقهاً وأشد تقوى كانت قيادته أكبر وأوسع مدى،، وأما التصدي للقيادة فيدل عليها قوله سبحانه "وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء" أي شهداء على تطبيقه ورقباء على الناس في مدى تنفيذهم له، ولكن لا يمكن أن يبلغ العلماء هذا المستوى الأرفع إلا إذا تجاوزوا عقبتين: الأولى: خشية الناس، والثانية: اغراءات الدنيا، "فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً"8".
القيادة والعائلة
يركز القرآن – حسب قول السيد المدرسي - على مسألة بالغة الحساسية وذات أهمية مركزية بالنسبة للمجتمع المسلم، في أبعاد حياته المتعددة، حيث يبين بأن القانون الرسالي يقتضي أن تكون القيادة الرسالية مقدمة على كل شيء، أما الأسرة فهي تأتي في المرتبة الثانية، فإذا ما تعارض قرار القيادة مع قرار الأسرة فالواجب اتباع القيادة، لأنها أقرب إلى كل فرد من أبناء المجتمع والتجمع، بل هي أقرب للفرد من نفسه، وفي مجمع البيان أن النبي (ص): (لما اراد غزوة تبوك وأمر الناس بالخروج، قال (ص): (قوم نستأذن آباءنا وأمهاتنا ـ فنزلت).. "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" وفي المرتبة الثانية تكون العلاقة الأسرية هي الأسمى "َأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ" أما الرحم الذي لا يتصل معك بعلاقة الدين فهو مقطوع في الإسلام، كالأرحام التي لم تكن تهاجر أو الرحم الكافرة، ولا يعني هذا أن يؤذي المسلم والديه أو عموم رحمه لكفرهم، بل إن القرآن يحث على الإحسان إليهم، فهم إن انقطعت معه علاقتهم الدينية فإنه تجمعه بهم العلاقة الإنسانية التي يقرها الإسلام9 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الهوامش:
1- من هدى القرآن الكريم ج1 ص411.
2- نفس المصدر ج1 ص412 .
3- نفس المصدر ج10 ص412 .
4- نفس المصدر ج9 ص 315 .
5- نفس المصدر ج1 ص 331 .
6- نفس المصدر ج1 ص 479 .