قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قرآنيات
ثقافة الحياة بين العقل والشهوات
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *يونس الموسوي
من سمات الثقافة القرآنية انها تفجر طاقات الانسان الكامنة في ذاته ، ومن ابرز هذه الطاقات واسماها طاقة العقل. فقد زود الانسان بهذه الطاقة الجبارة وجُعلت حجة بينه وبين الله تعالى، وهي بحاجة الى ما يستنفرها ويبلورها، والثقافة القرآنية هي التي تفجر هذه الطاقة، اما الثقافة الجاهلية المادية فهي تبرر للانسان جهله ، وعدم استثماره عقله، وبذلك نكون بين أمرين؛ بين التفجير والتبرير، والفرق بين هذين الامرين هو كالفرق بين الثريا والثرى ، فبينما التفجير يجعل الانسان مسؤولاً وفاعلاً مقتدراً، نرى ان التبرير يجعله خاملاً مهزوماً غير متحمل لمسؤوليته .
بين حجة العقل وحجة الوحي
ان العقل هو صنو القرآن الكريم، فاذا كان القرآن حجة الله الظاهرة ، فان العقل حجته الباطنة ، واذا كان العقل قرآناً باطناً، فان القرآن عقل ظاهر، وبين هاتين الحجتين؛ حجة العقل، وحجة الوحي يعيش الانسان مسؤوليته، وفي هذا المجال روي ان الامام الرضا عليه السلام سُئل عن الحجة فقال: (العقل) . كما وأكد الامام الكاظم عليه السلام في وصيته لهشام على (ان العقل حجة)، وان (ذوي العقول هم الذين يعرفون ائمتهم ، وقدواتهم ، ويعرفون بالتالي حظهم ودورهم في الحياة، اما الذين لايعقلون فهم لايعرفون الحجة عليهم).
وعلى هذا فان العقل هو الجانب الاخر للحجة نفسها ، فلله تعالى الحجة البالغة على خلقه ، وبها يفند تعالى كل تبريرات الناس بعدم علمهم ومعرفتهم ، وهذه الحجة هي العقل الذي يستمد النشاط والفاعلية من الوحي والبصيرة القرآنية ، وبذلك يصل الى الحقائق في اسرع وقت ممكن، وعن هؤلاء يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: (علماء امتي كأنبياء بني اسرائيل) وفي نفس المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (حلماء علماء كادوا من الفقه ان يكونوا انبياء).
استثارة العقل بالقرآن
والفرق بيننا وبين هؤلاء العلماء انهم استثاروا عقولهم بالقرآن الكريم، وبلوروها بآياته الكريمة، ولذلك عندما يتفتح العقل فانه يخرق الحجب التي تفصل بينه وبين الحقائق، فينفذ علمه الى كل خبيئة من خبايا الكون ، اما اذا كان العقل مغلفا بستار كثيف من الاهواء والشهوات، وبركام من الضلالات والخرافات والاخيلة الباطلة فان هذا العقل لا فائدة ترجى من ورائه. وبهذا يصبح القرآن الكريم والكتب السماوية على عظمتها وسموها و فوائدها الغزيرة كالاسفار الموضوعة على ظهر الحمار كما يصرح بذلك تعالى في قوله: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً" (الجمعة /5)، فما يستفيده هؤلاء من الكتب السماوية التي بين ايديهم هو بنفس المقدار الذي يستفيده الحمار من الكتب المحملة على ظهره، وذلك لان ابصارهم عليها غشاوة ، وان الله قد طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون.
ولكي نحصل على الثقافة الحية علينا ان نفجر الطاقات العقلية في انفسنا، فالمهم ان نزداد علماً وفهما وتعقلاً لا ان نكدس المعلومات في اذهاننا: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله)، وقال صلى اللـه عليه وآله: أن لله عباداً يعرفون بالتوسم ثم قرأ الآية الكريمة: "ان في ذلك لآيات للمتوسمين" . وري عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم والسبيل طريق الجنة "وانها لسبيل مقيم").
ونور الله هو العلم والقرآن ، فالمؤمن عندما ينظر الى شخص ما، فانه سيحمل فكرة عنه وعن طبيعته دون ان يكون في حاجة الى ان يراجع علم النفس والاجتماع .
فالعلم الحقيقي - اذن - ليس هو المعلومات المخزنة في الكومبيوترات، بل هو علم يقذفه الله في قلب من يشاء ، والفرق بينهما ان الاول هو مجرد تخزين معلومات، اما الثاني فهو تفجير للطاقات، فالانسان عندما لا يفجر طاقة العقل في ذهنه فانه سيصبح بمنزلة مكتبة لخزن العلم. فالمطلوب - اذن - ان نستنفر طاقة العقل الكامنة في النفس واستثارة دفائنه من خلال القرآن الكريم، واذا ما تم ذلك فاننا نكون قد وصلنا الى مرتبة العلماء الربانيين فالناس - كما يصرح بذلك الحديث عن الامام علي ( عليه السلام ) حيث يقول: (يا كميل...! احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع). والعالم الرباني يكتسب علمه من اللـه تعالى، والقرآن الكريم يوضح لنا ان اولئك الناس الذين اتخذوا القرآن هزوا انما اتخذوا موقفهم هذا لانهم لا يستثيروا دفائن عقولهم: "وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولاً" (الفرقان /41) .
فعقول هذا النمط من الناس ذات تفكير سطحي ، فهم يزعمون ان الرسول المرسل من قبل الله تعالى يجب ان يتمتع بقدرات خارقة لا توجد في سائر البشر ، في حين انه انسان كسائر الناس ، والفرق بينه وبينهم انه يحمل هدى الله ، ولكنهم لا يقدرون قيمة الهدى والعلم .
والسؤال المطروح هنا هو: لماذا اتخذ هؤلاء هذا الموقف المعارض والمتهور من رسول الله ؟
الجواب: لانهم لم يعقلوا؛ اي ان طاقة العقل ظلت معطلة في نفوسهم كما يصرح بذلك تعالى في قوله: "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً" ( الفرقان / 44 )، فانفسهم هي في الحقيقة انفس حيوانية ، وعلينا نحن ان نحذر من الانزلاق الى هذه العاقبة السيئة .
ما هي الثقافة الجحيمية
إن الثقافة التي تحرك الانسان في هذا الاتجاه هي الثقافة الجحيمية! فما هي يا ترى هذه الثقافة؟ وكيف نتخلص منها ؟
ان أهم شيء يلزم الانسان لكي يحرك عقله هو انه لابد ان يقتحم العقبة؛ اي ان تلملم ارادتك ، وتشحذ عزيمتك ، وتوحي بالشجاعة الى نفسك ، ثم تقتحم قلب المعركة، وهذه اللحظة التي تدخل فيها المعترك هي لحظة الحياة ولحظة المصير بالنسبة اليك ، فلحظة الارادة هي تلك التي تقرر فيها ان تكون مؤمنا ، وان تخالف جميع اهوائك التي تحول دون رؤيتك للحق والعمل به .
وفي كثير من الاحيان نرى انفسنا بين الحق والباطل ولكننا نغمض عيوننا لننجرف مع الباطل ، فاذا قرر الواحد منّا في لحظة من لحظات حياته قرارا نهائيا بان يكون مع الحق ، وان يدفع ثمنه مهما كان غاليا ، فاننا نكون قد اقتحمنا العقبة التي اشار اليها تعالى في قوله: "فَلاَ اقْتَحَـمَ الْعَقَبَةَ" (البلد / 11) التي اراد منها معنى "فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ" (البلد /13-14)؛ اي التضحية والبذل وايثار الاخرين على النفس.
فالعقبة هنا هي في الحقيقة النفس التي يجب ان نقتحمها ونتغلب عليها، والمطلوب هنا ان نقاوم هذه النفس، فاذا خرج الانسان من اطار الهوى، ودخل اطار التقوى فقد اقتحم العقبة، لذا علينا ان نتجنب الاهواء النفسية كالطمع، والحقد والجزع وحب الدنيا والرئاسة ، فان تجنبناها سنستطيع اسقاط الحجب المتراكمة على عقولنا ، والا فان عقولنا سوف لا تنفعنا، لان هذه العقول محتجبة بالهوى، الهوى آفة العقل ، كما ان التعصب للباطل هو ايضا آفة العقل والهدى، أما الصبر خصلة حسنة ومطلوبة ولكن الصبر على الباطل مذموم، وكذلك الحال بالنسبة الى التعصب فانه يكون خصلة جيدة اذا كـان للحق لا للباطل، ولكن مشكلة الانسان انه يتعصب للآراء الباطلة.
ونجد أن العلم كهذا يتصل اتصالاً وثيقاً بالاخلاق فمن دون الاخلاق الفاضلة لا يمكن ان نحصل على علم حقيقي ، فمجرد خزن وحفظ المعلومات لا يمكن ان يجدينا نفعا اذا لم نقرن هذه المعلومات بالتقوى والتزكية والتربية وتنمية وتفجير الطاقات الايجابية الخلاقة في انفسنا، وهذا هو الطريق الأمثل الى اكتساب العلم.