قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الوطن في الأدب العربي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة محمد كاظم الكريطي
منذ أن عرف الانسان الوجود عرف الوطن، فأصبح موصولاً به صلة وثيقة وإذا به حين يكبر في أحضان وطنه نراه تتنازعه عاطفة جيّاشة صادقة نحو أرضه التي درج على ظهرها وتنسّم هواءها وطعم غذاءها وشرب ماءها فشبّ عليها ونما من خيرها ونطق بلسانها واحتمى بظلها، وبقدر ما تكون هذه الصلة وثيقة تكون الحقوق متبادلة بين الإنسان ووطنه. فالانسان الذي يسعى الى النهوض بأمته ينسى ذاته لذاتها وتلك سنّة الرقي. وكما لم تكن المهاد سواسية في الإعطاء لا يكون الناس سواسية في الإيتاء. ولكنهم على كل حال يظلون يكنون حباً لوطنهم.
والأوطان التي تحرص على بقاء أبنائها موصولين بها باسباب قوية مكينة ترعى لهم وجودهم ليرعوا لها وجودها ويحافظوا على تاريخها فتحيطهم في حياتهم ليحيطوها الى مماتهم فأنت لوطنك ووطنك لك أوجب لك حقا وأوجبت له حقا فعشت به وعاش بك تلك سنّة الوجود. والانسان يؤثر أرضه على كل أرض وأمته على كل أمة. ومن هنا كان الحرص على اللغة والعادات والتقاليد والموروث لأن هذا كله من حب الانسان لوطنه وأمته، وهذا الحب للوطن هو حب للوجود لأن حبه لوطنه لن يخلق منه عدواً لغير وطنه إلا إذا تلقى الحب على غير صورته الحقة فحبك لوطنك ووجودك لا يعني حرمان غيرك من الوجود إلا إذا استحال الحب طمعاً وإذا استحال الحب طمعاً ضل الوجود منه وعدا الفرد على الفرد والوطن على الوطن فالانسان حينما يحب وطنه يبادل الأوطان حباً بحب وتبادله الأوطان حباً بحب، حباً لا يشوبه طمع ولا تخالطه نزوة فيسلم لك وطنك وتسلم للناس أوطانهم وإذا بلغ الناس ذلك تعيش الأمم في أمن وسلام فالقلوب حينما تعمر بالحب لا تعرف الكراهية وحين تعرف الخير لا تعرف الشر. وفي القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى أراد للمسلمين دار أمن لا يغلبهم فيها على دينهم ولا على رأيهم غالب فقال عز وجل: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ" (الحج 39-40).
فالقرآن الكريم يعطي هنا صورة الوطن كيف تكون حيث أحلها من القلوب مكانها ومن الأنفس منزلتها فإخراج الانسان من دياره – والتي هي وطنه – يعد ظلماً يتوجب على الانسان القتال وبذل النفس لرفع هذا الظلم لكي يعيش آمناً في وطنه من أجل ذلك حضّ القرآن على الهجرة وأمر بها حين يفقد الانسان أمنه حيث هو وطنه ولكنها هجرة العائد حيث أرادها نزوحاً الى حين أمناً على رأي ودين وعقيدة ثم عودة بعد حين بعد أن يكتب الله لهم قوة ولعدوهم ضعفاً كتلك التي خرج إليها نفر من الصحابة بقيادة جعفر بن أبي طالب (ع) الى الحبشة فقال عز وجل في وصفهم: "فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ" (آل عمران195)ـ فقد قرن الله سبحانه وتعالى الهجرة عن الأوطان والاخراج منها بالإيذاء والقتل وأي شيء أقسى من أن يروّع الانسان بإخراجه عن وطنه أو أن يرى غيره عليه مالكاً وقد ورد في الأثر: حب الوطن من الإيمان فحب الانسان لوطنه يدل على شرف أصله و اصالة منبته وسلامة طويته وقد روي أن أبان قدم على رسول الله (ص)، فقال له: 0يا أبان كيف تركت مكة؟ قال: تركت الأذخر – نبات طيب الرائحة – وقد أغدق وتركت الثمام – نبات ضعيف لا يطول – وقد خاص فاغرورقت عينا رسول الله (ص) وقال: دع القلوب في أماكنها. كما ورد أن الأمتعة الثمينة والذخائر النفيسة كانت تأتي الى مصر لتباع فلا ينظر اليها يوسف (ع) فإذا جاءت جمال أحمال صوف كنعان فإنها لا تحل إلا بين يديه. وقديماً كان الملوك إذا أحسوا بدنو أجلهم وهم في غير بلدانهم أوصوا بأن تنقل رفاتهم الى حيث ولدوا ونشأوا وكذلك فعل يوسف (ع) لمّا أدركته الوفاة فقد أوصى بأن تحمل جثته الى حيث مقابر أبيه وأجداده يعقوب وإسحق وإبراهيم عليهم السلام بالشام ويروي المؤرخون أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف من حمل جثته تبركاً بها وحين بعث موسى (ع) وهلك فرعون حمل جثة يوسف (ع) الى حيث أراد أن يدفن وهاك الكثير من القصص القديمة من هذا القبيل فضلاً عن أقوال الفلاسفة القدماء في حب الوطن فيعزى الى جالينوس قوله: يتروح العليل بنسيم أهله كما تتقوّت الحبة ببل المطر إذا أصاب الأرض. كما يعزى الى بقراط قوله: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه وبعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن أما في الأدب فما خلا أدب أمة من حب الوطن ونطالع هذا اللون في الأدب العربي، اكتسب هذا اللون في الأدب العربي طابعاً خاصاً عند الشعراء والمؤلفين وأتسم بالوفاء والهدوء والوقار ولكنه على وقاره وهدوئه كان أبعد أثراً وأعمق مكاناً فهو لم يكن حباً طارئاً تهيج له النفوس ثم تخمد بل هو ثابت في القلب باقٍ مع النفس فالشاعر العربي في الجاهلية لا يخرج من منازله ولا يبتعد عنها كثيراً، إلا مع سيل عارم يقذف بالناس الى حيث لا يعرفون أو جدب متصل يشتتهم أشتاتاً وهم مع هذه وتلك قد أمسكهم وطن عام غلب عليهم بمقوماته ووسعتهم رقعته هو الجزيرة العربية بصفاتها التي تكاد تكون موحّدة فهو في نقلة دائبة يرتاد معها منابت الغيث في تلك الفيافي اللافحة الماحلة الظامئة يطلب كنّاً ومطعماً ورياً لا يكاد يستقر به المطاف على مربع حتى ينهض الى سواه ويكاد يكون مشتاة غير مقيظة، ومقيظه غير مشتاه، يقول طرفة:
حيثما قاظوا بنجد وشتوا عند (ذات الطلح) من (ثِنىً) (وقُر)
ومع هذه الحركة العجلة والتلبّث المفزع فلقد كان لكل قبيل معاهدة لا يتحولون عنه إلا مع قهر قاهر كأن تمسك السماء بعد إرسال أو ما شابه وإلا حيث كانوا يكونون يستقبلون الدنيا وإذا ما غادروا أرضهم فإنهم يبكون عليها وكأنهم يبكون الدنيا كلها وقد تولّت، يقول عبيد بن الأبرص:
منزل دمّنه آباؤنا المورثون المجد من أولى الليالي
ويقول زهير بن أبي سلمى:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم (بحومانه الدرّاج) (فالمتثلمِ)
ديار لها (بالرقمتين) كأنها مراجع وشم في نواشر معصمِ
وقفت لها من بعد عشرين حجة فلأيا عرفت الدار بعد توهمِ
والكلمات التي وضعناها بين قوسين هي مواضع نزل بها الشاعر في ترحاله فلم يبق عليها إلا إذا بقيت هي له خصباً وأمناً إلا أنه مع هذا كله كان لا ينساها إذا تحول عنها ويبقى يذكر مراتعه بين ظلالها كما يقول الأشجعي:
أحن الى تلك الأبارق من قنا كأن إمرأً لم يجلُ عن داره قبلي
وكان الشعراء أكثر ما يذكرون الديار يذكرونها مع هوى نعموا به على أرضها أو مع وقائع وأيام نالوا فيها وخسروا، يقول جعفر بن علبة الحارثي:
ألا هل الى ظل النضارات بالضحى سبيل وتفريد الحمام المطوقِ
وشربة ماء من جدورة طيب جرى بين أفنان العضاه المسوّقِ
وسيري مع الفتيان كل عشية أباري مطاياهم ببيداء سملقِ
ويقول صدفة بن نافع الغنوي:
ألا ليت شعري هل تحنّن ناقتي ببيضاء نجد حيث كان مسيرها
بلاد بها انضيت راحلة الصبا ولانت لنا أيامها وشهورها
فقدنا بها الهم المكدر شربه ودار علينا بالنعيم سرورها
ويذكر إعرابي موطنه في الأبرقين – منزلاً على طريق مكة من البصرة – فيقول:
أقول وفوق البحر تحتي سفينة تميل على الأعطاف كل مميل
ألا أيها الركب الذين دليلهم سهيل اليماني دون كل كليل
ألمّوا بأهل الأبرقين فسلموا وذاك لأهل الأبرقين قليل
بأهلي أفدّي الأبرقين وجيرة سأهجرهم لا عن قلىً فأطيل
ألا هل الى سرح ألفت ظلاله وتكليم ليلى ماحييت سبيل
وهم – أي الشعراء – كانوا إذا ندبوا موتاهم ندبوهم حيث يثوون ولعلهم أرادوا بهذا أن يحفظوا أمواتهم فلا يضيعوا بين جنبات الفلاة أم لعله الوطن لم يشاؤوا ان يخلوا منه مظهراً من مظاهر حياتهم، يقول ابن بشير يرثي سليمان بن الحصين:
ألا أيها الباكي أخاه وإنما تفرق يوم الفدفد الأخوان
أخي يوم أحجار الثمام بكيته ولو حم يومي قبله لبكاني
تداعت به أيامه فأخترمنه وأبقين لي شجواً بكل مكان
فليت الذي ينعي سليمان غدوة دعا عند قبري مثلها فنعاني
ويقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً وهو يذكر مثواه وكان قريباً من جبل شارع فاستسقى له قائلاً:
سقى الله أرضاً حلها قبر مالك ذهاب العوادي المدجنات فأمرعا
وآثر سيل الواديين بديمة ترشح وسمياً من النبت خروعا
فمنعرج الأجناب من حول شارع فروى جنات القريتين فضلفعا
ولا تكاد تخلو مراثيهم من ذكر المكان وكما ذكر المرثى ذكر مثواه فاستطاع هؤلاء الشعراء أن يخلقوا لنا بذلك تراثاً عظيماً حول البلدان من خلال اشعارهم التي خلدت تلك البلدان وأملت الكثير من أخبارها. وكان من هؤلاء الشعراء من يستجيب لقسوة العيش في أرضه فيتمسك بها ولا يبرحها ويعد ذلك من فضل الرجل وكرمه وسعة صدره وأنه يجب أن يتقبلها مع الجدب كما تقبلته مع الخصب وكذلك كانت تفعل قريش وفي ذلك يقول الحارث بن ظالم:
رفعت الرمح إذ قالوا قريش وشبّهت الشمائلَ والقبابا
ولو أني أطاوع كنت فيهم وما سيّرت أتبع السحابا
وكان هؤلاء المقيمون من العرب يجعلون من إقامتهم تلك حفاظاً على العهد وصبراً على ما لا يقوى عليه غير حسيب شريف ويسمون ديارهم ديار الحفاظ يقيمون فيها لغوث الملهوف وصلة المسكين وعون ابن السبيل وفي ذلك يقول الحادرة:
ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا زمناً ويظعن غيرنا للأمرعِ
ومحل مجدب لا يسرّح أهله يوم الإقامة والحلول لمرتع
يعني أن أهله يقيمون في دار الحفاظ التي لا يقيم فيها إلا من حافظ على حسبه وصبر على ما لا يصبر عليه غيره فلا يرحل لطلب الخصب والكلأ ويقيم في محل مجد مفضلاً حياة الجدب على ترك موطنه وفي ذلك يقول الشاعر:
غير أن الأوطان يجتذب المرء إليها الهوى وأن عاش كدّا
وكان إذا غزا أو سافر حمل معه من تربة بلده رملاً وعَفَراً يستنشقه عند نزلة برد أو زكام أو صداع ويطرحه في الماء إذا شربه وفي ذلك يقول شاعرهم:
نسير على علم بكنه مسيرنا بعفّة زاد في بطون المزوادِ
ولا بد في أسفارنا من قبيصة من الترب نسقاها لحب الموالدِ
ومثل هذا ما يحكى من الوليد بن عبد الملك استظرف إعرابياً فأحتبسه عنده فمرض فبعث إليه الوليد بالأطباء فأنشأ يقول:
جاء الأطباء من حمص تخالهم من جهلهم أن أداوى كالمجانينِ
قال الأطباء مايشفيك قلت لهم دخان رِمث من التسرير يشفيني
إني أحن الى أدخان مختطب من الجنينة جزل غير موزونِ
وكانت العرب تعد هذا الحنين الى الوطن من مكارم الأخلاق وسمو النفس يقول الأصمعي: دخلت البادية فنزلت على بعض الأعراب فقلت: أفدني، فقال: إذا شئت أن تعرف وفاء الرجل وحسن عهده وكرم أخلاقه وطهارة مولده فانظر الى حنينه الى أوطانه وتشوّقه الى أخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه. وعندما قيل لإعرابي: أتشتاق الى وطنك؟ قال: كيف لا أشتاق الى رملة كنت جنين ركامها ورضيع غمامها. ويبقى الشاعر العربي بلهج موطنه في غربته ويتلهف الى أوبته يذكر مراتع صباه ومدارج نشأته وفيما بين هذا وذاك أهله وعشيرته وما أحن الأحوص حين يقول:
أقول بعمّان وهل طربي به الى أهل سلع أن تشوقت نافع
أصاح ألم يحزنك ريح مريضة وبرق تلألأ بالعقيقين لامع
وأن غريب الدار مما يشوقه نسيم الرياح والبروق اللوامع
وكيف اشتياق المرء يبكي صبابة الى من نأى عن داره وهو طامع
أريد لأنسى ذكرها فتشوقني رفاق الى أرض الحجاز رواجع
وحتى الجفاة الذين خلت قلوبهم من كثير من العواطف لم يبرؤوا من هذا الحنين الى الوطن فقد روي أن والي اليمامة حبس إعرابياً كان يقطع الطريق فإذا الحبس يحرك فيه حنينه الى وطنه وإذا به يقول:
أقول لبوابيّ والسجن مغلق وقد لاح برق ما الذي تريانِ
فقالا نرى برقاً يلوح وما الذي يشوقك من برق يلوح يمانِ
فقلت أفتحا لي الباب أنظر ساعة لعلي أرى البرق الذي تريانِ
وبكى ابن ابي الأصبع في غربته فعوتب على ذلك فقال:
أكثرت عذلي كأني كنت أو من بكى على مَسكن أو حنّ للسكنِ
لا تَلْحَ أن من الإيمان عند ذوي الإيمان منا حنين النفس للوطنِ
ويصور أبو تمام الحنين الى الأوطان فيقول:
حن الى الموت حتى ظن جاهله بأنه حنّ مشتاقاً الى الوطنِ
فهو يصور حنين الشجاع الى الموت بحنين المشتاق الى أهله وشعر الحنين الى الوطن كثير جداً في الشعر العربي لا يسعنا هنا حصره وكما حن الشعراء الى الوطن وآثروه على غيره فقد ذموا الغربة في كثير من القصائد كقولهم:
غريب الدار ليس له صديق جميع سؤاله: كيف الطريق؟
تعلّق بالسؤال بكل شيء كما يتعلق الرجل الغريق
فلا تجزع فكل فتى ستأتي على حالاته سعة وضيق
وقولهم:
وإن إغتراب المرء من غير فاقة ولاحاجة يسمو بها لعجيب
فحسب الفتى نحساً وإن أدرك الغنى ونال ثراء أن يقال غريب
ولعل أروع ما في هذا الشأن قول ابن الرومي:
ولي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه لها جسد إن غاب غودر هالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد سوى لنا في هذه الأبيات القليلة الحب الكامل بأسبابه الكاملة، هذا ما أخترناه من الشعر العربي في حب الوطن والحنين الى الديار وذم الغربة أما بالنسبة للنثر فلم يكن أقل شأناً من الشعر في حب الأوطان فقد و ردت أقوال مأثورة كثيرة في أدبنا العربي منها: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، وكما أن لحاضنتك حق لبنها كذلك لأرضك حق وطنها، وارض الرجل أوضح نسبه وأهله أحضر نشبه الى غيرها من الأقوال الكثيرة وقد أملى حب الوطن على العقل كما أملى على العاطفة فأخرج صوراً أخرى غير الأدب كالشعر والنثر بل صوراً علمية تحمل بواعثها من الحب العميق فإذا هو علم يؤلف فيه وتختص به كتب وتنفرد به أبواب من كتب فهذا ابن عساكر يؤلف عن دمشق تاريخها الكبير ويفرد جزءاً عن فضائلها ثم يمضي يجمع من نشأ فيها ومن دخل إليها ومن وصل حبله بحبلها وكذلك فعل الخطيب البغدادي في تاريخه لبغداد وغيرها. تقرأ في هذا كله تاريخاً ولكنك تقرأ بين اسطر هذا التاريخ حب هؤلاء المؤرخين لبلادهم، هذا الحب الذي استحال علماً ثم نفث عنه أصحابه في هذه الأسفار الطوال التي تحمل التمجيد الكبير لتلك البلاد وهذه التآليف حول الأوطان والتي تحوي المكتبة العربية سجلاً ضخماً منها والقصائد الكثيرة للشعراء الذين تولّهوا بأوطانهم هما صورتان تنتهيان الى باعث واحد وهو حب الوطن.