قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
المجال الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم - (القسم السادس)
الغايات الرسالية .. مرضاة الله بالإيمان والتحدي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *السيد محمود الموسوي
جرى الحديث في الأقسام الماضية من هذه الدراسة تحديد وضمان المنطلقات، وبعد هذا لابد أن تكون هنالك غايات وأهداف من ذلك التحرك الرسالي، لذا نجد في تفسير من هدى القرآن، تأكيداً على أساس فكرة الهدفية في حياة الإنسان، وأهمية تحديد أهدافه وسبل العمل معها.
استنباط أساس الهدفية الإنسانية من الهدفية الكونية
تحت عنوان (الرسالي بين التأمل الهادف و واجبات الرسالة) يطرح السيد المرجع المدرسي منهج القرآن في غايات التأمل في الكون وحركة الليل والنهار وأثرها في فاعلية الشخصية الرسالية وتحريكها نحو أهدافها وغاياتها، ويخلص إلى الإرتباط الوثيق بين حركة الإنسان في الحياة وحركة الكون نحو مستقره، حيث الإرتباط في الهدفية.. ويقول:
(من هو المجاهد الرسالي؟ وما هي العوامل الدينية التي تدفعه إلى الشهادة؟)
إن القرآن لا يقف في أمره للجهاد عند بعض العوامل الاجتماعية، بل يضرب في العمق، حيث يصلح النفوس، ويهيؤها لتقبل الشهادة، بل لطلبها بإصرار، وذلك لتحقيق أهداف الإنسان الرئيسة في الحياة ويقول: (إنك حين تنظر إلى السماء والأرض، فإن أول ما يملأ عينك هو: الاختلاف الواسع فيها). وأبرز اختلاف هو: (تناوب الليل والنهار)، وهذا يدعوك إلى التفكر لماذا الاختلاف؟ وتجد الجواب ببساطة: لأن لكل شيء هدفا محددا يحققه، الليل يأتي ليحقق أهدافا معينة، ثم يعقبه النهار لأهداف أخرى، إذن لكل شيء قدر وهدف محدد.
تٌرى، أي هدف للحياة؟ وإذا انحرفنا عن مسيرة هذا الهدف فما هو مصيرنا؟ أليس النار والخزي؟ ! دعنا إذا نتوجه إلى الله، وهنا يهبط الوحي، ليوجه فطرتنا الصادقة ويبين لنا: كيف نسير حتى نحقق هدف حياتنا. والمؤمنون الصادقون يهرعون إلى الاستجابة للوحي، ويحاولون تحقيق مهامهم بدقة ابتغاء مرضاة الله، ولكن الله يشترط عليهم شروطا تبدو متعبة لنا، أما للذي وضع هدفه الأساسي خلاص نفسه من نار جهنم، فإنه عمل بسيط وهو الإيمان والتحدي، وتحمل الأذى في الله والهجرة والقتال والاستشهاد في الله.
كيف خُلقت السماوات والأرض، وهي لاتزال تُخلق وتتطور حسب خطة حكيمة، وإرادة مطلقة، ويد قوية؟ وما هذا الليل الذي يلف الكون بظلامه وسكونه؟ وما هذا النهار الرائع الصاخب؟ ومن يسلخ النهار من الليل؟ فيغرق الكون في بحر من الهدوء والظلام؟
إنها حقائق تثير عقول الذين ينفذون إلى لبّ الحياة، وما وراء قشورها من أنظمة وأهداف "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ". (آل عمران : 190).
إن هؤلاء أصحاب العقول النيرة هم الذين يعرفون ربهم في أول نظرة إلى الحياة، ولا يرون ظاهرة في الحياة، إلا ويذكرون ربهم، لأنهم يعبرون فوق جسر الظاهرة بسرعة، ويصلون إلى الحقيقة، التي تقول : إن الله هو خالق هذه الظاهرة، ومدبرها الآن، والذي يطورها من حال لحال ومن لحظة لأخرى، فهم يذكرون الله قياما وقعودا، وذكرهم آتٍ من تفكرهم العميق في ظواهر الحياة، وتفكرهم سليم لأنه سوف يؤدي إلى معرفة الحقائق، وأبرزها معرفة أن الحياة ليست باطلاً وبلا هدف، وانها ليست فوضى وبلا سنن، وهدف حياة الإنسان وسنتها التي تتحرك ضمنها هو: التقوى والالتزام بمنهج الله الذي يلتزم به ما في السماوات والأرض، وإلا فإن نهاية الإنسان هي النار، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران : 191).
إن تفكُّر هؤلاء تفكُّر واعظ، حيث ينقل الدروس والعبر من واقع الحياة إلى واقعهم، ويجعلهم يتعرضون للحياة بما فيها من سنن ومناهج.
وهدف الإنسان في الحياة هو اختبار إيمانه و وعيه، ومدى فاعلية إرادته في مقاومة ضغط الشهوات، فإن نجح في الامتحان فإن الجنة مأواه، أما إذا فشل فإن مصيره إلى النار، وهي خزي يلاحق الذين ظلموا أنفسهم ولم يظلمهم الله شيئا، وسوف لا ينفع الظالمين شيء مما استفادوه في الدنيا بظلمهم "رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ" (آل عمران : 192).
هذه هي العبرة التي يستلهمها أولو الألباب من تفكرهم في الحياة. وسوف تستوضح هذه العبر، عن طريق الوحي الذي يسارع هؤلاء إلى التصديق به بسبب خلفيتهم الفكرية السليمة، "رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" واكتشفوا بعد الإيمان أن بعضا من أعمالهم كانت مخالفة للمنهج الإلهي، فاستغفروا منها، وطلبوا من الله أن يصلح حياتهم، بعد أن أفسدتها ذنوبهم بالتوبة إليه منها وطلب الاستقامة من الله، على أن يجعلهم مستمرين في هذا الخط حتى الموت "رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ".
ولأن هؤلاء اكتشفوا بتفكرهم النافذ والبصير في الحياة، أن الهدف الأسمى للإنسان، هو الجنة التي وعد بها الله عباده المؤمنين بواسطة الأنبياء، فهم سألوا الله ذلك وتطلعوا إليه وقالوا "رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ" (آل عمران : 194)، واستجاب الله لهم، ولكنه فرض عليهم شروطا، وطالبهم بامتلاك عدة مواصفات، أبرزها الهجرة. وهي الانفصال الفكري والعملي من الجاهلية.
ويستلزم هذا الانفصال، التحدي والصراع ومن ثم الخروج من بلاد الجاهلية، وتحمل الاغتراب والفقر والذل، بيد أن كل ذلك يدفعهم لتنظيم أنفسهم، والاستعداد للعودة إلى بلادهم بالقتال، والهدف من ذلك هو الانتصار، بيد أن هدف الجنود هو الشهادة، لذلك فهم مستبسلون في ذات الله.
إن هذا هو شرط الله على المؤمنين الذين إذا وفوا به آتاهم أجرهم بالكامل، وبالتساوي بين الذكر والأنثى، وأدخلهم الجنة جزاء حسنا من عند الله "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم" وليس الدعاء وحده كاف للحصول على الثواب، بل العمل الصالح هو الذي يعطى الجزاء عليه بقدره بالذات "من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ"، أي كلكم في الثواب سواء، لأن بعضكم من بعض، وقد انحدرتم من أب واحد فلا فرق بينكم.
"فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ"، والهجرة هي الخروج تلقائيا، وهو يخالف الإخراج لأنه بإكراه، وربما الهجرة هنا هي الهجرة المعنوية، والإخراج هي الهجرة الجغرافية، "وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ"، إن الشهيد يغتسل بدمه فإذا به طاهر من الذنوب ويدخل الجنة بغير حساب 1.
"وإنما أنا نذير مبين"، وتهدينا خاتمة الآية إلى حقيقتين في منهجية الدعوة السليمة إلى الله:
الحقيقة الأولى: أن على الفرد الرسالي التحرك وفق ما ترسمه له رسالته وتوحي به أهدافه في الحياة، دون أن يلتفت كثيرٌ إلى ما يثيره الآخرون ـ أعداء ومنافسين وجاهلين ـ ومن إشكالات وأسئلة وملاحظات تافهة، لأنه لو التفت إلى ذلك فلن يصل إلى أهدافه.
الحقيقة الثانية: أن التواضع مسألة مهمة في الدعوة، فإذا سُئل عما لا يعلم يجب أن يقول: لا أعلم.. وإلا أصيبت مقاتله كما يقول الإمام علي(ع)، فليس العيب أن يعترف الإنسان بالجهل إنما العيب الكبير أن يقول ما لا يعلم، فهذا سيد البشر (ص) على عظمته يجيب وقد سئل عن الساعة التي لا يعلم ميعادها "قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ".. "2
التغيير الجذري
قال السيد المرجع المدرسي في حديثه عن أصحاب الكهف: (لقد أعلنوا حركة تغييرية جذرية، وهذه من سمات الحركة الرسالية، فمنذ البداية قالوا: "لن ندعو من دونه إلهاً"، أي لن نخضع لهذا الطاغوت ولا لطاغوت آخر يأتي مكانه، ولن نقبل أن يطاح بفئة حاكمة ظالمة لتستولي على الحكم فئة أظلم منها ولكن باسم آخر وشعارات أخر أو يذهب ملك فينصبوا ابنه مكانه ويظل النظام الفاسد كما هو).
فكلمة (إلهاً) تشير إلى عدم التخصيص بالملك الذي كان يحكم في زمانهم، بل إلى كل من يتصف بادعاء الندية لله سبحانه وهكذا كانت رؤيتهم صافية، لأنَّ الله سبحانه أيدهم وربط على قلوبهم، ولذلك جاء في الحديث المأثور عن أبي جعفر الباقر (ع): (أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة)، يعني صيارفة الكلام ولم يعن صيارفة الدراهم.
لقد قطعوا أية علاقة لهم بالماضي وسفَّهوه، ولم يكتفوا بذلك وإنما أخذوا يسفهون الآخرين (هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) فاستنكروا موقف قومهم الذين اتخذوا السلاطين والرؤساء آلهة من دون الله، "لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ" إذا أراد الإنسان أن يسلك طريقا ما أو يتخذ رجلاً قائداً فليفعل، ولكن عليه أن يأتي بحجة قاطعة ودليل قوي، وهكذا سفّه أصحاب الكهف منهج الكفار في اختيار الإله بطريقة غير عقلانية، ولم يخطئوا النتيجة فقط، وإنما بدأوا بالسبب والجذر للإنحراف، وهذه من أقوى وأعمق الحركات التغييرية الثقافية والسياسية في العالم، فهي لا تنظر إلى النتائج الظاهرة والفساد القائم فقط، وإنما تبحث عن السبيل الذي سلكه الناس حتى وصلوا إلى ذلك الفساد، أو طريقة التفكير التي أدت بهم إلى هذه النتيجة.
تشخيص أسس الواقع المنحرف وطرح البدائل الصالحة
من خلال قول الله عز وجل: "أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ" (نوح : 3)، في سياقها العام، يستنبط السيد المرجع المدرسي أن نوح (ع) حدد معالم النظام القائم والنظام البديل معاً (ثقافياً واجتماعياً وسياسياً)، وقد ذكر في معرض حديثه: (ونستطيع القول: إن عبادة الله بديل للأصول المنحرفة، والتقوى بديل للفروع الخاطئة والطاعة للقيادة الرسالية من أجل إصلاح الممارسات اليومية والسلبية، وبالتعبير القانوني الحديث تمثل عبادة الله الدستور الخطط الأصولية العامة، وتمثل التقوى القانون مجموعة القوانين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و...، وتمثل الطاعة للقيادة اللوائح مفردات الأمور والتطورات) 3.
سياسة الطاغوت
"فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً" هذه الآية وآيات أخرى شبيهة تشير إلى أن الطغاة يؤطرون عملهم بإطار القدسية، ويحاولون تضليل الناس وإيهامهم بأن ذلك هو من قبل الله سبحانه وتعالى، ويربطون أنفسهم بطريقة ما بالله وبالمبادئ السامية، في هذه الآية يقول أصحاب الكهف: إن قومهم افتروا على الله الكذب، فقالوا: إن الله هو الذي أمرنا بأن نعبد تلك الآلهة وهو بريء مما يدعون 4.
الغايات بين المكاسب الآنية والمكاسب القيمية
إن النظرة المادية الضيقة التي يرى بها الكفار الأمور تجعلهم محدودين جدا، لا يفهمون حقائق الحياة، وهؤلاء يرمون الناس بالسفه وبالجنون، ويزعمون أن الذي لا يعمل للربح المادي العاجل خاسر لحياته، لذلك تجد الملأ من أهل مدين يعدون إتباع شعيب خسارة كبيرة لهم "وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ" (الأعراف : 90) ومنتهى ما يستطيع الملأ المستكبرون أن يلحقوه من الأذى بالمؤمنين هو: منع بعض النعم المادية عنهم، وهذا ما كان ولا يزال الطغاة يهددون المعارضين والمجاهدين به، ولكن من الذي تكون له عاقبة الدار؟! 5
وتحت عنوان (معيار الخسارة) يقول المرجع المدرسي: وهنالك تبين ذلك الواقع الذي حذر منه شعيب، وآمن به القوم المؤمنون وهو أن الخسارة والربح إنما هما بالقيم لا بالمصالح العاجلة "الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا" انتهت فرصتهم، وتداعى كيانهم، وزالت مكاسبهم، حتى يخيل للإنسان إنه لم يكن شيئا موجوداً "الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ" 6.
****
هامش:
1 / تفسير من هدى القرآن ج1/ص 497
2 / نفسه، ج11 ـ ص129
3 / نفسه، ج11، ص 258
4 / نفسه، ج5، ص 28
5 / نفسه، ج3/ 76
6 / نفسه، ج3/77