قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الحر الرياحي..
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة الضمير الحي لحظة الحسم
*حسين الشمري
تميزت شخصيات واقعة كربلاء بان حازت أعلى درجات الايمان بالله وبالولاية لأهل البيت عليهم السلام، ولم يصلوا على هذه المرتبة السامية إلا بعد امتحان صعب بين المال والسلطة في الجيش الجرار والمنتصر وبين الموت في الجيش القليل العدد والخاسر من الناحية العسكرية، و(لا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار) إما نصرة الحق بالإنضمام الى معسكر الامام الحسين عليه السلام وإما نصرة الباطل والبقاء في معسكر ابن سعد.
من بين تلك الشخصيات التي خاضت هذه التجربة هو الحر بن يزيد الرياحي الذي كان مثالاً بارزاً في التاريخ على قوة البصيرة التي تهدي الانسان الى الفوز الأبدي وليس النصر العسكري، فاختار طريق الحق وترك طريق الباطل وفضل الجنة على النار.
كان الحر وهو خارج مع العسكر من الكوفة يشعر بالقلق والحيرة بسبب الاجواء المشحونة حيث النظام القمعي والدموي الذي أسسه ابن زياد في الكوفة، وتسيير الجيوش لمواجهة قافلة الامام الحسين عليه السلام، وقد زاد من هذا القلق المهمة التي أوكلت اليه بأن يقطع الطريق على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ويمنعه من الوصول الى شاطئ الفرات، علماً انه لم يكن جاهلاً بالحسين من يكون...؟ كما كان ذلك حال الكثير ممن شاركوا في الحرب ضد الامام، دفعهم في ذلك عاملان: الخوف من بطش ابن زياد، والطمع بمال الدنيا. إلا ان الحر كان ايمانه في قلبه وفي سلوكه ومواقفه، فكما كان فارساً شجاعاً في سوح الوغى، كان شجاعاً أيضاً حسم المواقف في اللحظة الاخيرة.
الحر .. النبت الطيّب
انه الحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع بن حنظله بن مالك بن زيد التميمي، يُعد من شجعان و رؤساء الكوفة أرسله ابن زياد مع الف فارس في مهمة التصدي للامام الحسين بن علي عليهما السلام ليمنعه من التقدم حيث كان، حتى لا يصل الى الكوفة، فكان السبب في عدم وصول الامام الى ماء الفرات. ومنها كانت المأساة المروعة.
إنها الحكمة الإلهية ان يكون عنصر العطش المؤثر في الملحمة الحسينية من نتاج فعل الحر الرياحي، ولنفترض انه افسح الطريق – لسبب أو لآخر- للامام لتصل القافلة الى شاطئ الفرات، ربما كانت مسيرة الاحداث وتفاصيل الحادثة تختلف كليةً عما هي بين أيدينا اليوم. بل ربما اختلفت كثير من المفاهيم التي نستلهمها اليوم من عاشوراء، من قبيل نبذ القسوة وتفضيل الرحمة والشفقة بتوزيع الماء، ومسألة وفاء العباس عليه السلام. وغير ذلك كثير.
وصل الحر الرياحي وهو مقارنة بالحال الحاضر يُعد ضابطاً كبيراًُ في الجيش، ومعه ألف فارس، الى قافلة الامام الحسين عليه السلام التي وصلت في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام سنة 61 للهجرة حسب بعض التواريخ، وعند وصوله كان مع اصحابه قد أجهدهم الطريق ونال منهم تعب فلاحظ ذلك الامام الحسين عليه السلام، فأمر بأن يسقى اصحاب الحر جميعاً، بل حتى سُقيت خيولهم، لتكون هي الاخرى شاهدة في التاريخ على إنسانية وأبوة أهل البيت عليهم السلام إزاء الناس جميعاً.
حان وقت الظهيرة و حضر وقت صلاة الظهر، فأمر الامام الحسين عليه السلام ان يؤذن المؤذن فلما حضرت الاقامة خرج الامام الحسين بن علي عليهما السلام مخاطب الحر وجماعته وقال من جملة حديثه: (انا لم آتكم حتى أتتني كتبكم أن ((اقدم علينا لعل الله ان يجمعنا بك على الهدى والحق))، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم، وان كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه)، فسكت الحر واصحابه، وبينما هم على ذلك، واذا بالمؤذن يرفع أذان الظهر، فقال الامام الحسين للحر، أصلي باصحابي وتصلي أنت باصحابك، قال: كلا، بل تصلي انت ونصلي بصلاتك...)! انها بداية النهاية في معسكر الباطل، والانطلاق الى رحاب الحق.
*الشهادة
سمع الحر الرياحي خطابات وأحاديث الامام لرجال الكوفة الذين تجمهروا لقتاله بعد ان ارسلوا اليه (أن أقدم...)، وقد تضمنت كلماته المضيئة الكم الهائل من المعارف الايمانية والمفاهيم التربوية والقيم الاخلاقية، والأهم من كل ذلك ألقى عليهم الحجة بعد أن عرفهم بشخصه الكريم وصلته بالنبي الأكرم فقال: (... فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري)، وذكرهم بالاحاديث المتعددة لجده المصطفى في حقه وحق أخيه الحسن وأنهما سيدا شباب أهل الجنة.
عندها اقترب الحر الى ابن سعد أ مقاتل انت هذا الرجل...؟! فقال: أي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي...! فقال الحر: فما رأيك في واحدة من الخصال التي عرضها علينا، فقال عمر: والله لو كان الامر الي لفعلت ولكن اميرك يأبى ذلك...!
هذا الجواب لم يكن مقنعاً للحر، فهو جواب لانسان متخاذل حتى النخاع نزّاع للشهوات والملذات، ويتحين الفرصة لكسب الجائزة مهما كان الثمن. فاخذ الحر يدنو من معسكر الحسين عليه السلام تدريجياً فقال له (المهاجر بن اوس) تريد أن تحمل؟ فلم يجبه، بل أخذته الرعدة، فهو يسمع بالسؤال عن الهجوم على الحسين وهو يخيّر نفسه بين الجنة والنار، فارتاب المهاجر من ذلك، فقال له: لو قيل لي من اشجع اهل الكوفة ما عدوتك فما هذا الذي اراه، فقال الحر قولته التاريخية: (اني والله اخير نفسي بين الجنة والنار والله لا اختار على الجنة شيء ولو قطعت وحرقت ثم ضرب فرسه منطلقاً نحو معسكر الامام الحسين عليه السلام ويده فوق رأسه مستأذن الامام الحسين عليه السلام بالتوبة، وهو يردد: انا الذي قطعت عليك الطريق، فأذن ان اكون اول شهيد بين يدك يا ابا عبد الله، فقال الحسين عليه السلام: نعم يتوب الله عليك ويغفر لك، فانزل... فقال له الحر ان اكون لك فارساً خير مني راجلا، فقال له عليه السلام: فاضع يرحمك الله مابدا لك.
وأول ما قام به الحر بعد وصوله الى معسكر الامام الحسين عليه السلام أن استأذن الامام بأن يكلم قومه ويحثهم على شحذ الهمّة وعقد العزيمة وتحطيم قيود الظلم والضلال كما صنع هو، وأن لا يخسروا دنياهم وآخرتهم، وكان جوابه كما حصل لآخرين من اصحاب الامام الناصحين بأن جاءتهم السهام من الجهة المقابلة من الذين تؤذيهم النصيحة ويثيرهم قول الحق والفضيلة!
عندما اشتدّ البأس خاض الحر الرياحي عباب الموت بعد أن استأذن الحسين عليه السلام للقتال فأذن له حاملاً على أهل الضلال والغدر وهو يرتجز ويقول:
اني انا الحر ومأوى الضيف
اضرب في اعناقكم بالسيف
عن خير من حل بارض الخيف
اضربكم ولا ارى من حيف
وجعل يضربهم بسيفه حتى أثخن بالجراح وسقط من فرسه، فحمله الاصحاب الى المخيم فاستقبله الامام الحسين عليه السلام وكان به رمق وهو ينزف فأخذ يمسح التراب عن وجهه ويقول: (انت الحر كما سمتك أمك. حر في الدنيا وسعيد في الآخرة). ثم اراد الامام في مبادرة ربما تكون فريدة في واقعة الطف، ان يضمد جراحة اصابت الحر في رأسه، فشدّه بعصابة أو قطعة قماش كانت لديه عليه السلام، فتوقف النزيف فوراً، لكن بينما هو كذلك واذا بروح الحر تفيض بين يدي الامام ليعرج الى السماء حراً كريماً، ويبقى معصوب الرأس تحت الثرى حتى يومنا هذا والى يوم القيامة، ليكون مناراً للأجيال وللإنسانية لمن يروم طريق الحرية والكرامة والحق.