قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الموضوع والفن
في مراثي أمير المؤمنين (ع) في الشعر العربي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة علي حسين يوسف
في لحظات الصدق مع الذات ينعدم تقسيم الزمن على ماضٍ وحاضر، فالماضي يتماهى مع الحاضر وقد يكون أكثر حضوراً منه فلا يكون الحاضر سوى إشراقة من اشراقات ذلك الماضي، هذا الاندماج في الزمن يفصح عن نفسه في حضرة العظماء من الشهداء، لتنكشف العلامة بين الحي والميت في رثاء اولئك الرجال من خلال الارتباط غير المادي الذي يجمع الارواح ليكشف عن ديمومة القيم السامية التي خلدوها بدمائهم لتنير الطريق للاحياء ولا أدل على ذلك من رثاء الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) في الشعر العربي. فهذا الكنز الذي تجاوز مفهوم التراث بموضوعاته ووظائفه وقيمه الجمالية لم يعدم الجدة والاصالة في كل زمان ومكان. وقد حافظت المراثي في الإمام أمير المؤمنين (ع) واستذكار حادثة مقتله (ع) على اكثر من عناصر الرثاء اصالة مثل التفجع على الميت واستذكار المآثر العظيمة التي تحلى بها (ع) فضلاً عن تميز تلك المراثي بصدق العاطفة المستندة الى العقيدة التي ترسخت في اذهان الشعراء لمكانة امير المؤمنين (ع) من رسول الله (ص) اضافة الى صفاته الذاتية العظيمة فكان الرثاء فيه يصدر عن تلك القلوب ملتاع الزفرات ملتهب العبرات لإنه صادر عن حب ووفاء كما لم تخل تلك المراثي من نبرة السخط ضد الجور الاموي فكان لمشاعر الندم التي اصابت نفوس المسلمين دور مهم في تطويع الرثاء لاغراض تجاوزت الحزن والتفجع الى رفض الظلم والظالمين والدعوة الى قتالهم. فكان للأدب العربي من ذلك كنز ثمين من الشعر الصادق الذي يستثير الدموع ويوقد اللوعة والحزن في النفوس. كما كان هذا الرثاء مصداقاً للرثاء الحقيقي الذي قصده الجاحظ بقوله لمن سأله: ما بال المراثي أجود من اشعاركم؟ فقال: لأنا نقول واكبادنا تحترق وكان من الطبيعي ان تكون بداية رثاء الإمام أمير المؤمنين (ع) تلك المقطوعات التي نسبت الى اولاده واصحابه المخلصين فهؤلاء كانوا اول المفجوعين وقد دلت الالفاظ الرقيقة والمعاني الحزينة والصور المؤثرة على شدة الجزع الذي ألم بهم ويتضح ذلك في رثاء الإمام الحسن المجتبى (ع) عندما قال:
خلِّ العيونَ وما أردنَ من البكاءِ على عليِّ
لا تقبلنَّ من الخليِّ فليسَ قلبُكَ بالخليِّ
لله أنتَ إذا الرجال تضعضعت وسط النديِّ
فرَّجتَ غُمَّته ولم تركن الى فشلٍ وعيِّ
فهذه الابيات يستشف الحزن العميق في معناها فقوله (ع): (لله أنت من الرجال) هي لاستذكار عظمة الفقيد وهي ركيزة حزن تشدّ المرثية. كما رثاه (ع) أيضاً بقوله:
اين من كان لعلم المصطفى في الناسِ بابا
اين من كان إذا ما قحط الناس سحابا
اين من كان اذا نودي في الحربِ أجابا
اين من كان دعاه مستجاباً ومجابا
أما في هذه المقطوعة فإن الصفات التي اطلقها (ع) على ابيه (ع) لم تكن للمديح بقدر كونها اثباتاً لمرتكزات وحقائق استند عليها ففي البيت الاول استندالى قول رسول الله (ص) (انا مدينة العلم وعلي بابها) أما الابيات الثلاثة الاخرى فهي مما لا يشك احد في مدى انطباقها على شخصية أمير المؤمنين (ع) ورثاه صعصعة بن صوحان (رض) فقال من جملة قصيدة:
ألا من لي بأُنسِكَ يا أخيّا ومن لي أن أبثَّكَ ما لديّا
طوتكَ خطوبُ دَهرٍ قد تولّى كذاك خطوبُه نشراً وطيّا
فلو نشرت قواكَ لي المنايا شكوتُ اليكَ ماسنعت إليّا
بكيتك يا عليُّ بدرِّ عيني فما أغنى البكاءُ عليكَ شيّا
يلاحظ صدق العاطفة في هذه المرثية والتعبير عن الحالة النفسية التي اعترت الشاعر وهو يصاب بفقد من يشد به أرزه خاصة في ذلك الجو المضطرب فالإمام علي (ع) يمثل لصعصة وغيره من الاصحاب المخلصين الحصن المنيع الذي يلجأون إليه وقت الشدائد. ويصل رثاء أمير المؤمنين (ع) عند الشعراء الى حد سلوك الشاعر مسلك الغضب من الناس لتهاونهم في حماية إمامهم حتى طالته اليد الاثيمة، فقال بعض بني عبد المطلب مخاطباً قبر أمير المؤمنين (ع) باتخاذه القبر رمزاً في رثائه:
يا قبر سيدنا المجنّ له صلى الإله عليكَ ياقبرُ
ما ضرَّ قبراً انت ساكنه إن لا يَحلّ بأرضه القطرُ
فليندبنّ سماحُ كفك في الثرى وليورقنّ بجنبك الصخرُ
والله لو بكَ لم أجد أحداً إلا قتلتُ، لفاتني الوترُ
أما ابن عباس فيستذكر قول أمير المؤمنين (ع) وهو قابض على لحيته الشريفة بيده: (أما آن أن ينبعث أشقاها فيخضب هذه من دم رأسي) وهو يصف قاتل الامام بأنه من الذين ضل سعيهم وخسروا خسراناً مبيناً فتبوّأ بجريمته مقعده في جهنم:
وهزَّ عليُّ بالعراقينِ لحيةً مصيبتها جلّت على كل مسلمِ
وقال سيأتيها من الله نازلٌ ويخضِبها أشقى البريةِ بالدمِ
فعاجله بالسيفِ شُلّت يمينُه لشؤمِ قطامٍ عند ذاك ابن ملجمِ
فياضربة من خاسرٍ ضلَّ سعيُه تبوّأ منها مقعداً في جهنمِ
ففاز أمير المؤمنين بحظّه وأن طرقت أُخرى الليالي بمعظمِ
ألا إنما الدنيا بلاءٌ وفتنةٌ حلاوتها شيبت بصبرٍ وعلقمِ
ويصل الرثاء المفجع ذروته في قصيدة الشاعر ابي الاسود الدؤلي تلميذ الإمام علي (ع) في نونيته العصماء التي حملت الرقة والانكسار والبكاء والمر والدمعة الحرّى وكذلك جمعت الغضب والسخط من معاوية كما بينت فضائل علي (ع) واحقيته ومظلوميته فكانت سجلاً حافلاً بالاحداث والحقائق واللوعة والاسى، قال ابو الاسود الدؤلي:
ألا ياعينُ ويحَكِ أسعدينا ألا فابكي أمير المؤمنينا
رُزئنا خير من ركب المطايا وخيّسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلتَ وجه أبي حسينٍ رأيت البدرَ راقَ الناظرينا
لقد علمت قريش حيثُ حلت بأنك خيرهم حسباً ودينا
وكنّا قبل مقتله بخير نرى مولى رسول الله فينا
يقيم الدين لا يرتاب فيه ويقضي بالفرائض مستبينا
ويدعو للجماعة من عصاه وينهك قطع ايدي السارقينا
وليس بكاتمٍ علماً لديه ولم يخلق من المتجبِّرينا
لعمر ابي لقد أصحاب مصرٍ على طول الصحابةِ أوجعونا
وغرّونا بأنهم عكوفٌ وليس كذاك فعل العاكفينا
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ فلا قرّت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا بخير الناس طرّاً اجمعينا
ومن بعد النبي فخير نفسٍ ابو حسنٍ وخير الصالحينا
كأن الناس إذ فقدوا علياً نَعامٌ جال في بلدٍ سنينا
ولو أنّا سُئلنا المال فيه بذلنا المال فيه والبنينا
أشاب ذؤابتي وأطال حزني أُمامةُ حين فارقتِ القرينا
تطوفُ بها لحاجتها إليه فلما استيأست رفعت رنينا
وعبرةُ أم كلثومٍ إليها تجاوبها وقد رأت اليقينا
فلا تشمت معاوية بن صخرٍ فإن بقيةَ الخلفاءِ فينا
وأجمعنا الإمارة عن تراضٍ إلى ابن نبينا وإلى اخينا
ولا نعطي زمام الأمر فينا سِواه الدهر آخر ما بقينا
وإن سراتَنا وذوي حجانا تواصوا أن نجيبَ إذا دعينا
بكلّ مهنّدٍ عضبٍ وجُردٍ عليهنَّ الكماةُ مسوّمينا
في هذه القصيدة الخالدة يستفتح أبو الاسود الدؤلي في بدايتها البكاء على أمير المؤمنين (ع) معللاً ذلك في البيت الثاني بفقدان خير الناس الذي وجهه كالبدر للناظرين، ثم ينتقل الشاعر ليعرّض بقريش التي حسدت الإمام وغصبته حقه، ليقول إنه (ع) خير منهم حسباً وديناً ثم يستطرد الشاعر بذكر الخير الذي كان عندهم بوجوده (ع)، ثم يتألم ويتفجع من الذين شاركوا في قتل الإمام (ع) واظهروا أنهم عكوف في المسجد متسترين به ومضمرين الكفر والنفاق بعد ذلك يصبُّ الشاعر جامّ غضبه على معاوية لأنه رأس الفتنة وله يد بالضلوع في مؤامرة اغتيال أمير المؤمنين خير الناس بعد النبي (ص) في أشرف الشهور وهو شهر رمضان. ثم يصف حالة المسلمين بعد غياب القائد والمثل الاعلى ويشبههم بأنعام بلا راعٍ تجول على غير اهتداء متمنياً لو أن منيته تدفع بفدائه الغالي من الاموال والاولاد. ثم تشب عن الشاعر العاطفة الممزوجة بالالم لترسم حالة أُمامة زوجة أمير المؤمنين (ع) وأم كلثوم ابنته وهما تبكيان ولا تصدقان مصرع هذا البطل العظيم. ولكن هذا الانكسار لا يقف عند هذا الحد لدى الشاعر فينتفض بعنف متحديّاً معاوية بأن الحسن الزكي بقية الخلفاء ما زال فيهم فلا مجال لأن يفرح معاوية ويشمت بقتل علي (ع) فإن المسلمين لم ولن يذعنوا لحكم معاوية فما زال فيهم السراة الابطال الذين تعاقدوا على نصرة الدين واعدّوا العدة لمقاتلة القاسطين بكل مهند عضب وعلى كل فرس اجرد يركبه الكماة المسوّمين. هذا مضافاً الى مراثٍ أخرى يضيق المجال باستقصائها وبيان روعتها وتميّزها بصدق العاطفة وحرارة الدمعة وشدة اللوعة، اضافة الى تألّقها بالمعاني السامية والمناقب والمآثر خصّها وشرّفها الله سبحانه وتعالى علياً (ع). وفي زاوية مظلمة لاكت أفواه نتنة وألسن خبيثة أفاضت عليها نفوس مريضة وقرائح فاسدة وضمائر ميتة نفثات الشيطان من اصحاب الجباه السود (سوّد الله وجوههم) بعض الابيات في مدح اللعين ابن ملجم وذم أمير المؤمنين (ع)، فتصدى لهم جمع كبير من المسلمين سنة وشيعة حاملين في اشعارهم شموساً نيّرة من افكار علي (ع) وحمماً غاضبة على اللعين ابن ملجم وعلى اتباعه فحينما قال ابو مياس المرادي الخارجي متشفياً بقتل أمير المؤمنين (ع) وسيد المسلمين دون أن يكون له زاجر من ضمير أو خلق أو دين:
ونحن ضربنا يالك الخير حيدراً أبا حسنٍ مأمومةً فتقطّرا
ونحن خلعنا ملكه من نظامه بضربةِ سيف إذ علا وتجبرا
ونحن كرامٍ في الصباحِ أعزةٍ إذا المرء بالموت ارتدى وتأزّرا
اجابه احد شعراء الشيعة:
فلم يكُ ذا ملكٍ ولكن خليفةً من الله محمودَ النقيبةِ أزهرا
وصيَّ النبيِّ المصطفى وابن عمهِ وأيُّ وصيٍّ لا يرى القتلَ مفخرا
ولو أنكم كنتم رجالاً أعِزّةً لما صرتمُ في النهر صرعى على الثرى
وكافحتم الكرار في حومة الوغى بحيث ترون الليث غضبانَ مصحرا
ولكنكم كُعتم برغم عديدكم فبان لدى الهيجاء من كان أصبرا
فلم تقتلوا منا عِداد اصابعٍ ولم ينجُ منكم غير عَشرٍ فعشّرا
الى أن دسستم كلب نارٍ بخفيةٍ وخطوِ جبانٍ قلبه قد تفطّرا
وهناك مارق آخر اخذ يزعق بكفره وهو عمران بن حطّان الرّقاشي حين يقول في مدح اللعين ابن ملجم:
لله درُّ المرادي الذي فتكت كفّاه مهجة شر الخلق إنسانا
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
هذا هو الكفر بعينه!.. أيّ رضوان يبلغه اللعين بقتله من أقام دعائم الدين واوضح سُبل رب العالمين، نعم لقد بلغ ابن ملجم رضوان اخوانه الشياطين الذي سوّلوا له فعلته الشنعاء. ولله درّ شاعرنا السيد الحميري الذي اجابه بقصيدة طويلة نقتطع منها هذه الابيات:
لا درَّ درُّ المراديِّ الذ سفكت كفّاه مهجةَ خيرِ الخلقِ إنسانا
قد صار ممّا تعاطاه بضربته مما عليه من الاسلامِ عريانا
أبكى السماءَ لِبابٍ كان يعمره منها وحنَّت عليه الارض تحنانا
طوراً اقول ابن ملعونَينِ ملتَقَطٌ من نسل ابليس بل قد كان شيطانا
ويل امّهِ أيَّماذا لعنةٍ ولدت لا أن كما قال عمران بن حطّانا
رجسُ تحمّل إثماً لو تحمّلَه ثهلان طرفة عينٍ هُدَّ ثهلانا
أضحى ببرهوت من بلهوت محتبساً يلقى بها من عذاب الله ألوانا
ما دبَّ في الارض مُذ ذُلَّت مناكبها خلقٌ من الخير أخلى منه ميزانا
لا عاقر الناقةِ المردي ثمود لها ربٌّ أتوا سخطه فِسقاً وكفرانا
ولا ابن آدمُ قابيل اللعينُ أخو هابيل إذ قرّبا لله قربانا
بل المرادي عند الله أعظمهم خِزياً واشقاهم نفساً وجثمانا
كما تصدى للرد على ابن حطّان الخارجي طاهر بن عبد الله الشافعي القاضي فقال:
إني لأبرأُ مما انت قائله عن ابن ملجمٍ الملعون بهتانا
يا ضربةً من شقي ما أراد بها إلا ليهدم للاسلام أركانا
اني لاذكره يوماً فالعنه دنيا وألعن عمراناً وحطّانا
عليه ثم عليه الدهر متصلاً لعائن الله اسراراً واعلانا
فأنتما من كلاب النار جاء به نص الشريعة برهانا وتبيانا
كما رد عليه بكر بن حسّان الباهري بقوله:
قُل لابن ملجم والاقدار غالبةٌ هدّمت للدينِ والاسلام أركانا
قتلت أفضلَ من يمشي على قدمٍ واعظم الناس اسلاماً وإيمانا
واعلم الناس بالقرآن ثم بما سن الرسول لنا شرعاً وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره اضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدرٌ فقلت سبحان رب العرش سبحانا
اني لاحسبه ما كان من إنس كلا ولكنه قد كان شيطانا
فلا عفا الله عنه سوء فعلته ولا سقى قبر عمران بن حطّانا
(يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا؟)
بل ضربة من غويٍّ اوردته لظىً وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصداً بضربته إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
كما تصدى له ابو الحارث الطبري وابو المظفر الشهرستاني وابو بكر بن حماد وغيرهم والمجال لا يتسع لذكر اشعارهم. وهذا العدد الكبير من الشعراء الذين ناصروا الحق ينم عن مدى حب المسلمين لأهل البيت (ع) فغذيت قصائد الشعراء بمنهجهم (ع) القويم وشبت على مظلوميتهم ودمائهم دفاعاً عن الاسلام فتوالت مسيرة الشعراء التي ما انقطعت ولن تنقطع وهي تقف على قبور اهل البيت وتصدح بحبهم وها هو قبر علي (ع) يقف منذ اول لحظة شوكة في عيون الظالمين فيرفد الشعراء بالمراثي الصادقة والاحاسيس النبيلة.