قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ابن طباطبا العلوي.. الناقد المجدد
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *حسن هادي
مما يدعو الى الاسف والاستغراب معا ان هناك مراحل هامة من تاريخ الادب العربي حملت سمات وآثاراً مختلفة وكثيرة بقيت مصدراً هاما للادب والى الآن، ولكنها لم تأخذ مداها الكامل من الدراسات الادبية في حين انها كانت مرتكزا ومصدراً للكثير من الحركات التجديدية العالمية بوصفها سمات وآثاراً على درجة كبيرة من الكمال والثبات والتطور، ولعلنا في أمس الحاجة اليها الآن ليكون ادبنا اكثر التزاما واكثر دقة في اطلاق الاحكام النقدية كون هذه السمات والآثار نابعة من إرثنا الابي ومؤصلة بنتاجنا الفكري.
ونجد في الشخصيات الادبية التي وضعت هذه الآثار انها قد مهدت الخطوات الاساس لعملية الخلق الفنية والابداع الادبي وسهلت السبل لادب ملتزم ومتطور عميق التجربة محدد الرؤى. واذا استقرأنا التاريخ الشعري والنقدي العربي عبر تاريخه الحافل وابرز من وضعوا بصماتهم في إثرائه وابراز ملامحه الفني، فان في طليعتهم من العلماء الافذاذ الشاعر والناقد الكبير ابن طباطبا العلوي الذي لا تزال آراؤه النقدية محل اعتبار وأهمية لدى كبار النقاد المحدثين حيث اثبتت هذه الآراء جدتها وحيويتها ومكانتها في مجال النقد الادبي عبر العصور.
في عام 250هـ - 864م على اشهر الاقوال المتعددة وفي مدينة اصفهان ولد ابو الحسن محمد بن احمد بن محمد بن احمد بن ابراهيم (طباطبا) بن اسماعيل بن ابراهيم ابن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليه السلام المشهور بـ (ابن طباطبا العلوي).
كانت أصفهان في ذلك الوقت في اوج عظمتها العلمية حيث عاشت حركة ادبية فكرية صاخبة شأنها شأن سائر اكثر البلاد الاسلامية رغم الاضطراب السياسي والحياة الاجتماعية غير المستقرة. وسط هذه الاجواء نشأ ابن طباطبا شاعراً مجيداً وناقداً كبيرا وعالماً حاذقا ملماً بالادب، شغوفاً بالعلم مكبّا على تحصيله العلمي، مكثراً من مجالسة العلماء حتى لامه بعضهم على ذلك فجاء رده
حسودٌ مريضُ القلب يخفي انينه
ويضحي كئيب البال مني حزينه
يلوم على ان رحت في العلم راغباً
اجمّع من عند الرواة فنونه
وأسلك ابكار الكلام وعونه
واحفظ مما استفيد عيونه
و يزعم ان العلم لا يجلب الغنى
ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني اغالي بقيمتي
فقيمة كل الناس مايحسنونه
كان ابن طباطبا مغرماً بالكتب فكان يعدها أغلى الاصدقاء:
اذا فجع الدهر امراً بخليله
تسلّى ولا يسلي لفجع الدفاتر
قصيدة بدون (كاف) و(راء)
كان ابن طباطبا يتمتع بثقافة عالية وفكر نيّر وادب رفيع دلّت على ذلك آراؤه ومناهجه النقدية التي وضعها في قواعد الشعر والنقد، ومن ابرز مناهجه في الشعر قوله:
(وللشعر ادوات يجب اعدادها قبل مراسه وتكلّف نظمه، فمن عصت عليه أداته لم يكمل له ما يتكلفه وبان الخلل فيما ينظمه ولحقته العيوب من كل جهة). ثم يعدد ابن طباطبا هذه (الادوات) للشاعر فيقول: (فمنها التوسع في علم اللغة والبراعة في فهم الاعراب والرواية لفنون الآداب والمعرفة بأيام الناس وانسابهم ومناقبهم ومثالبهم والوقوف على مذاهب العرب في نظم الشعر والتصرف في معانيه في كل فن قالته العرب فيه وسلوك مناهجها في صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وامثالها). ولا بد ان يكون ابن طباطبا قد درس ذلك وان يكون قد اضاف اليه معرفة واسعة بفنون الشعر.
وقد نهج ابن طباطبا في (العروض) نهجاً جديداً ذلل فيه صعبه ويسر تعقيده. كما كان اديبنا مغرما بالحديث الشريف و روي عنه قوله: (لون نُشر الرسول لكنت من كبار حفاظ الحديث)، اما شاعريته فهي من الطراز الرفيع وله شعر رائق توزع بين قصائد وقطع وابيات متناثرة في (معجم الادباء) و(تحفة العجائب وطرفة الغرائب) وكتاب (التشبيهات) و(المحمدون من الشعراء واشعارهم) و (المصون في الادب).
كان يتفنن في شعره واظهار مقدرته اللغوية فكان يتجنب من الكلمات مايصعب النطق به على من بلسانه عيب يحول بينه وبين النطق ببعض الحروف، و يروى في ذلك انه كان لأحد أصدقائه ولدٌ كانت به لكنة شديدة ولا يجري على لسانه حرفان من حروف المعجم هما: الراء والكاف حيث يضع الغين مكان الراء والهمزة مكان الكاف، فكتب ابن طباطبا قصيدة خالية من هذين الحرفين ولقنه اياها حتى رواها لابيه ففرح بذلك والده فرحاً شديداً ومطلع القصيدة:
ياسيداً دانت له الساداتُ
وتتابعت في فعله الحسناتُ
وتواصلت نعماؤه عندي فلي
منه هباتٌ خلفهن هباتُ
وهي قصيدة طويلة تبلغ تسعة واربعين بيتاً ختمها بقوله:
لو واصل بن عطاء الباني لها
تليت توهم انها آياتُ
لولا اجتنابي ان يمل سماعها
لا طلتها ماخطت التاءات
ثراء في المال والعلم
تفرغ السيد ابن طباطبا للدراسة والتأليف وساعده على ذلك انه كان غنياً ولكنه لم يكتف من الحياة بالغنى وحده بل اضاف اليه مجدا علميا وأدبيا ثراً اضفى اليه الفخر والسؤدد وكان يرى في الغنى وسيلة لاقراء الضيف ومساعدة المساكين وصون الوجه عما في ايدي الناس:
قد يصبرُ الحر على السيف
ويجزع الحر من الحيف
و يؤثر الموت على حالة
يعجزُ فيها عن قرى الضيف
كما كان يحب القصد ويكره الاسراف في المال ويرى التهالك على الاموال مفسدة للعلم كما في قوله:
ان في نيل المنى وشك الردى
وقياس القصد ضد السرف
كسراجٍ دهنه قوتٌ له
فاذا غرّقته فيه طُفي
وهذه الحياة المعتدلة جعلته في أحسن الاوضاع حالا لطلب العلم والانتاج الادبي فخلف ثروة ادبية وعلمية كبيرة اهمها كتابه القيم (عيار الشعر) الذي جمع فيه آراءه في النقد الادبي ونبه فيه الى عناصر الشعر الجيد واسباب فساده وقد حققه الكثير من النقاد وتناوله الكثير من المؤلفين ومن كتبه ايضاً (تهذيب الطبع) او (الشعر والشعراء) كما ذكره ابن النديم في الفهرست و(العروض) و(سنام المعالي) و(تقريظ الدفاتر) و(في المدخل في المعمى من الشعر) وعنوان الكتاب يدل على موضوعه في شرح الابيات الغامضة المعنى دلّ فيه على عمقه باسررا اللغة وغريبها وادراك معانيها الغامضة. اما منهاجه في ادوات الشعر والشاعر و وحدة القصيدة والالفاظ فهي تحتاج الى دراسة مطولة وقد استفاد منها النقاد الذين أتوا بعده كثيراً واقتبسوا منها في كتبهم فاقتفى المرزباني آراءه من كتابه (الموشح في الشعر)، ونقل عنه عدة صفحات متوالية بدون اضافة حرف، كما اقتبس منه ابو هلال العسكري ونقل اراؤه كذلك المرزوقي في مقدمته لشرح الحماسة، كذلك ابن خلدون الذي اخذ عنه رأيه في تربية الذوق الادبي وابن ابي الاصبع المصري الذي كان يوصي الراغب الاصبهاني بآراء ابن طباطبا في الشعر وان يحصل المعنى قبل اللفظ، ولا تزال آراؤه محل اعتبار حتى في الدراسات الحديثة وكان ابن المعتز يكثر من ذكره ويقدمه على كثيرين.
ان المنهج الذي اختطه ابن طباطبا في (عيار الشعر) وغيره من الكتب في النقد الادبي لم يسبقه اليه أحد فلا تكاد تجد صلة تربط بين آرائه في كتبه وكتب النقد التي الفت قبله على كثرتها ورغم ان ابن طباطبا قد اطلع على كل هذه الكتب إلا انها لم تشكل عنده أثراً في كتبه، وكثيراً ما كان ينقض آراء من سبقه فكان لآرائه صدى واسع في اوساط النقد الادبي وكان كثير من العلماء والادباء يحتجون بها رغم انه ولد في اصفهان ولم يغادرها الى سائر البلاد حتى وفاته عام 322هـ-956م.