قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى وفاته...
(صاحب الجواهر). . شموخ الأثر في قمة التواضع
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / علي جواد
الاثر العلمي خير ما يخلفه عالم الدين بعد رحيله عن دار الدنيا، ليضع نقطة مضيئة في الطريق الطويل الذي طواه كبار علمائنا وهم يرفدونه بالاضاءات العلمية والتجديد في الفقه والشريعة، واذا نجد اليوم الاحكام واضحة وسهلة الفهم والتداول، فانما يعود الفضل بذلك الى أولئك الافذاذ الذين ضحوا بكل ما يملكون للمحافظة على جذوة العلم متّقدة ومتصلة بأهل البيت عليهم السلام، حتى لا يبتلى المسلمون لاسميا اتباع أهل البيت عليهم السلام بما ابتلي به اصحاب الديانات والمذاهب الاخرى من التخبط والضياع في امورهم الاجتماعية والاقتصادية فضلا عن الامور العقائدية.
وعندما نريد إحياء ذكر فقيدنا الراحل والمرجع الاعلى في زمانه الشيخ محمد حسن النجفي فاننا ملزمون بان نرفق اسمه بمنجزه العظيم وهو (جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام)، لذا فهو (صاحب الجواهر) في جميع الحوزات العلمية، كما هو حال الشيخ الانصاري الذي يعرف اليوم بانه (صاحب المكاسب) او الميرزا الآخوند الاخراساني (صاحب الكفاية) وغيرهم كثير...
انه الشيخ محمّد حسن ابن الشيخ باقر بن عبد الرحيم النجفي المعروف بـ(صاحب الجواهر). ولد حوالي عام 1192? بمدينة النجف الأشرف. في دار والده المجاورة للصحن الحيدري الشريف في النجف الاشرف، ومات فيها. ونقلاً عن احد المشايخ فان سرداباً كان في البيت وفيه محراب يتعبّـد فيه شيخنا أناء الليل وأطراف النهار بعيداً عن الدنيا منقطعاً الى الله سبحانه وتعالى؛ الا ان هذه الدار الاثرية التراثية قد شملها التهديم أثناء فتح الشارع المحيط بالصحن الحيدري الشريف.
الحركة العلمية في عصره:
ابتدأت الحركة العلمية في الفقه والاصول في مدينة سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام على يد مؤسسها الفذّ الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني (ت / 1205 هـ) ، وقد نافست النجف الاشرف كربلاء المقدسة وشاطرتها الحركة العلمية بفضل تلميذي البهبهاني: السيد مهدي بحر العلوم (ت / 1212 هـ) والشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت / 1228 هـ) ، إلا أن كربلاء بقت محافظة على مركزها حتى وفاة المُرَبّي العظيم شريف العلماء الشيخ محمد شريف المازندراني (ت / 1245هـ)، وبفقده، فقدت كربلاء تلك المركزية واتجهت الانظار صوب النجف لوجود الشيخ صاحب الجواهر الذي اجتذب اليه طلاب العلم بفضل براعته البيانية وحسن تدريسه وغزارة علمه وبحثه الدؤوب وانكبابه على التدريس والتاليف، وكان مجلس بحثه يضم اكثر من ستين مجتهداً من المعترف لهم بالفضيلة. وقد تخرّج على يديه من اعلام الدِين ما يفوت الحصر، واستمرّ هذا التفوق في الارقام العلميّة للمؤلفات والعلماء حتى القرن الرابع عشر.
من اساتذته الشيخ جعفر كاشف الغطاء، والشيخ موسى ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، والسيّد حسين الحسيني العاملي، السيّد جواد الحسيني العاملي، والشيخ قاسم محي الدين. أما تلامذته فهم كثيرون ابرزهم الشيخ مرتضى الأنصاري، والسيّد محمّد حسن الشيرازي المعروف بـ(الشيرازي الكبير)، الشيخ محمّد الإيرواني المعروف بـ(الفاضل الإيرواني)، والشيخ حسن ابن الشيخ أسد الله الكاظمي، والشيخ عبد الرحيم البروجردي، والشيخ محمّد باقر الإصفهاني، والشيخ محمّد حسن آل ياسين، والشيخ إبراهيم السبزواري، والشيخ حبيب الله الرشتي، والسيّد حسين بحر العلوم وغيرهم كثير.
الصدقة الجارية والسنّة الحسنة
من الذين تخلّد اسماؤهم ويحتفا بهم دائماً، أولئك الذين يتركون اكثر من أثر في الحياة على شكل صدقة جارية، فقد يكون هنالك عنوان كتاب او مسجد او حسينية او مؤسسة خيرية او مكتبة او غير ذلك لما ينتفع به المجتمع على مر الاجيال.
فمن الأُمور الجليلة التي استغلّ فيها نفوذه للصالح العام فتح النهر المعروف باسمه (كري الشيخ) لإرواء مدينة النجف الأشرف، التي كانت تعاني شحة المياه الصالحة للشرب طوال قرون طويلة، وقد تمّ حفر هذا النهر الذي لا تزال آثاره باقية على يسار الذاهب من النجف إلى الكوفة، ومنبعه يتّصل باراضي بني حَسن، وهي العشيرة العربية المعروفة.
ومن خدماته أيضاً بناء مئذنة مسجد الكوفة و روضة مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وصحنها وسورها الذي لا يزال ماثلاً، وكذلك بناء البناية الملاصقة لمسجد السهلة من حيث الدخول من بابه للمحافظة على قدسيّة المسجد، ولتكون مسكناً لخدّامه.
كما سَنَّ صاحب الجواهر الخروج الى مسجد الكوفة والسهلة ليلة الاربعاء، ولم يكن ذلك قبله معروفاً، بمعنى ان صاحب الجواهر يكون شريكاً في ثواب كل من يؤدي الاعمال المندوبة والمستحبة في المسجدين المباركين على مر السنين.
ومن الأشياء المعروفة عن صاحب الجواهر اهتمامه بحسن المظهر، فقد كان يظهر بكامل أناقته وأبهته، في ملبسه ومسكنه وكذلك إغداقه على طلّاب العلم والشعراء، ولا شكّ أنّ عامل الزمن كان له الأثر الكبير في اختيار هذه الطريقة؛ لرفع شأن رجال الدين أمام الحكومة العثمانية، التي بدأت في عصره تتدخّل في شؤون الناس وتحاول فرض هيمنتها على العراقيين بشكل لا اخلاقي وعنيف.
وكان الناس يلاحظون الفرق في المظهر بين صاحب الجواهر وابرز تلامذته الشيخ الانصاري، وذات يوم سُئل الشيخ الانصاري عن سبب زهده وتقشفه على خلاف استاذه الكبيرة فقال: الشيخ محمد حسن أراد أن يظهر عِزّ الشريعة، وأنا أردت إظهار زهدها. علماً ان فقيدنا الراحل على درجة كبيرة من التواضع وعفة النفس، فكان يتصرف بين طلبة العلوم الدينية وكأنه أحدهم، وعند الناس كالأب الرؤوف.
واخيراً لابد من الحديث عن (جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام) هذه الموسوعة الفقهية التي فاقت جميع ما سبقها من الموسوعات سعة وجمعاً وإحاطة بأقوال العلماء وأدلتهم، مضافاً إلى أنه كتاب كامل في أبواب الفقه كلها جامع لجميع كتبه. وميزة ثالثة تفرَّد بها أنه على نسق وأسلوب واحد وبنفس السعة التي ابتدأ بها إنتهى إليها. وميزة رابعة، فالمجتهد يستطيع أن يطمئن الى استنباط الحكم الشرعي بالرجوع إليه فقط; وليس له أن يطمئن الى ذلك عند الرجوع الى ما سواه في أكثر المسائل الفقهية حتى في هذه العصور الاخيرة، وخاصة إنه احتوى على كثير من التفرعات الفقهية النادرة بما قد لا تجده في غيره من الموسوعات الاخرى، فهو جامع لامّهات المسائل وفروعها. هذا الشرح جاء على كتاب (شرائع الاسلام) للمحقق الحلّي (طاب ثراه) وهو من يُعد من امهات المصادر الفقهية في الحوزة العلمية.
وعن هذا السفر الخالد حدَّث الشيخ عبد الحسين الطهراني (أغا بزرك) عن بعض العلماء أنه قال: لو أراد مؤرّخ زمانه أن يثبت الحوادث العجيبة في أيامه، ما يجد حادثة بأعجب من تصنيف هذا الكتاب في عصره.
وجاء في (التكملة): ان فقيدنا الراحل قال في جملة كلام له مع تلميذه فقيه عصره الشيخ محمد حسن آل ياسين عن كتاب (الجواهر) في قصة طويلة: (… والله يا ولدي أنا ما كتبته على أن يكون كتاباً يرجع اليه الناس، وإنما كتبته لنفسي حيث كنت أخرج الى (العذارات) – وهي منطقة تعود الى أخواله في احدى مناطق الحلة- وهناك كنت أسأل عن المسائل وليس عندي كتب أحملها لأني فقير فعزمت على أن يكون لي مرجعاً عند الحاجة. ولو أردت أن أكتب كتاباً مصنفاً في الفقه لكنت أحب أن يكون على نحو رياض السيد علي (رحمه الله) فيه عنوان الكتابية في التصنيف).
وهنا تتجلى العظمة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المخلصين، ويجعل ذكرهم في عليّين ويخلد ذكراهم وآثارهم كما هو حال الشيخ عباس القمّي وكتابه (مفاتيح الجنان). وغيرهم، فهم لم يكونوا يريدون الشهرة و الجاه، إنما مرضاة الله وتوطيد العلاقة بأهل البيت عليهم السلام من خلال نشر علومهم واحكامهم وسيرتهم للاجيال.
توفي صاحب الجواهر في غرّة شعبان يوم الاربعاء عند زوال الشمس سنة (1266 هـ) في النجف الاشرف، ودفن في مقبرته المعروفة والمجاورة لمسجده المشهور، وعلى مرقده قبّة من الكاشي الأزرق، وهي اليوم مزار بارز يقصدها الزائرون ويتبركون بها، و رثاه كثير من الشعراء كالسيد حيدر الحلي، والشيخ صالح الكوّاز، كما رثاه الشاعر الكبير الشيخ ابراهيم صادق العاملي بقصيدة مطلعها :
للهِ أيّ مُلمٍ هائلٍ وقعا
وأيّ خَطْبٍ لاعلامِ الهُدى صَدُعا
وأيّ نازلةٍ ضـاقَ الزمانُ بها ذرعـاً
ومن قبلها قدْ كانَ مُتّسعا
رُزْء عَظيم كسا الاسلامَ حادثهُ
حُزناً فأصْبَحَ مَذعُورَ الحَشا جَزعا
وفادح طرقَ المعروفَ فادحه
فانحطّ من قدْرهِ ما كانَ مُرتفِعا
غَوثُ الانامِ، مَلاذ الخلقِ، مَرجـعُ أهـلُ الحـقِ، أكـرمُ من للفضلِ قـدْ جمعا
مُحَمّدُ الحَسَنِ السّامي مَقامُ عُلا
مِنْ دُونِهِ كل نِسْرٍ طائرٍ وقَعَا