قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قصة قصيرة
الضباب
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عدنان عباس سلطان
تحفز اكثر من مرة لمغادرة المقهى، لكنه يتريث آملاً خلو الطريق من المارة يغريه المكان الخالي والسوق شبه المقفر الى لذة استرجاع الذكريات ليقع في غياهبها. لم ير بداً من التشاغل بمراقبة الطريق وامتدادات السوق والدكاكين المقفلة والبسطيات المغطاة تعلم من تجاربه القريبة والبعيدة كيف يختفي علناً عند الضرورات فقد اختفى عن قريبه مسؤول الارشيف (غزاي) رغم انهما في بناية واحدة بنفس الطريقة التي اختفى فيها عن زملائه ومقهاهم المعتادة وكذلك عن اهله وقطع معهم الصلة وفي احيان كثيرة.
اختفى من ذاته فغيبها اثناء اعتزاله في الفندق فإن من السهولة عليه الآن ان يرتدي الظهيرة مثل طاقية اخفاء وهي منسوجة بلهب آب الازرق والمرئيات مثل ذيول ضبابية اذ تتقلص الاجفان امام حدة الوهج الممتزج بسراب الطريق يحدق له هذا اثناء جولاته غير المبرمجة في محلة الذهب وسوق العجمي او عبوره جسر الشهداء ليجوب شطرا من الرصافة رغبة في الصراخ كانت تجتاحه.
رجل مقطوع من شجرة أحس برغبة جامحة في الصراخ بصوت جهير تتصدع منه الجدران وتحدث عاصفة التراب لتكتسح الاوراق والاكياس الفارغة والمزابل.
كادت الكارثة ان تقع تنفس الصعداء عندما ذابت ووهن عزمها المخيف، لمن وضد من سيصرخ؟ وأي أرض تشقها الصرخة؟ والى اي مدى ستصل؟ أهو متأكد ان في كيانه طاقة كتلك الطاقة الهائلة التي دفعته الى الصراخ في ذلك اليوم البعيد؟ لقد عاش الى الآن تحت خيمة الهزيمة كان احساسه بأن جسده لم يعد يقوى على حمله اذ شبهه بمعسكر متروك دمرته الطائرات ولم يعد يسكنه غير المتروكين ممن يستخلفهم الجيش من اصحاب الامراض المزمنة والمعوقين لحراسة الآليات المحروقة.
الصورة القديمة المتخيلة تعاوده فيرى نفسه متهالك الجسد ممدداً على المقعد الاخير للسيارة فيما هي تتوقف أمام بيت آيل الى السقوط احتوت جدرانه المتشققة على آلاف الكائنات الزاحفة التي وجدت في هذا البيت خير مأمن وافضل مكان للسكن فلا أحد يزعجها بالمبيدات والتنظيف وكنس القاذورات التي تتغذى عليها قرب بيته الذي يعود الى العهد الطباشيري.
تجمع الصبيان وبعض النسوة اللواتي تبسمن بشماتة وهززة ايديهن ببعض الشفقة على حالته المزرية بينما كان هو يشيح النظر عنهن محركا جسده الثقيل بمعونة الرجل فاعل الخير الذي يحاول انزاله من السيارة بعسر واضح تماما كما شاهد ذلك في صباه، عمه صباح وكيف جاء به الرجل الغريب – العن الشيطان ياأخي ابق هنا من أجل أمك المريضة ماذا ستجد هناك؟ العاصمة تنسيك أهلك وتضيع فيها كما ضاع عمك صباح سمع هذه الكلمات من اخيه عدة مرات كلما اعلن عن عزمه على السفر كان يود لويتبخر بصورة عجائبية من جانب اخيه وهما يقتربان من نقطة انطلاق السيارات.
قال بتذمر وهو يوسع خطواته بعصبية: هنا .. هنا .. في هذه الارض يتحول الانسان الى ظلام أبدي دعني وإلا فسوف اموت! استودعك الله.
عندما تحركت السيارة لمح اخاه بنظرة اخيرة كان واقفا بانكسار وحيرة مشيعا اياه كمن يشيع من لايعود أبداً.
هذه النظرة كررها بالاً من اخيه ودون ان يعي ذلك كررها وهو يرمي الكتابين اللذين سهر على تأليفهما نصف العمر مودعا جهد العمر وجذوة الشباب وكل ابداعه الثقافي والادبي كان عملا تليدا، كان ينظر الى الكتابين وهما يتلويان على النار مثل حمامتين مصابتين بطلق ناري وهما ترفرفان مخلفتين وراءهما جذاذات سوداً ولم يسمع صوتها وهما يقعان على كومة مفروشة من الازبال. احس في وقتها انه لم يعش سنواته الخمسين ابداً وقد ولدته امه شيخا بلاماضٍ ولاحاضر في تلك اللحظة كرر كلمة واحدة عدة مرات: صفر .. صفر .. صف..ر ونزل من السطح برك في أول حياته أمام سحر الادب ودهشة الافكار وتنقل في حدائق الابداع وحيوية الجدل الفلسفي عشق ديكارت وهيجل ونيتسة وتأمل تروتسكي وتأرجح أمام كتب التأريخ والدين وهو يقرأ الطبري والكليني والصحاح وفي النهاية تكونت الجوهرة الغالية التي نحت فيها وصقل زواياها حتى صارت كوناً تاماً ثم واجه بها العاصمة كما هي بدورها واجهته بسعتها وبألوانها الزاخرة كألوان احلامه وسعة الطموحات التي تجول في كيانه المتطلع لكن الغشاوة والانبهار السياحي سرعان ما انقشع امام ناظريه بعد كده لدرجة الاعياء على الارصفة وبمرور الايام اكتسب الصبغة التأقلمية التي تفرزها الضفادع على جلود بعضها البعض في زمن الصعلكة ظل يدور في الاروقة والشوارع والازقة والضوضاء وجد نفسه محاطا بمحلات المتنبي ومقهى حسن عجمي والشابندر والجماهير على زاوية شبه مظلمة في هذه الامكنة يدور الحديث فيه همسا واشارات عندما وقع في الشبكة العنكبوتية شهق شهقة أخيرة كانت عبارة عن عزم أصيل بأن لايغير بأضعف الايمان وانما باقواه ..! وان يمضي بما أسسه العمالقة من الادباء والمفكرين الذين قرأ لهم كانت تلك الشهقة قبل ان يغطس في مقعد الــ (BMW) ويحجبه الزجاج المظلل عن العالم الخارجي ويظهر له من خلال تلك الدقائق ان تصاميمه لاتعدو عن افكار ساذجة في مخيلة قروي تائه.