قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ابو البقاء الرندي ــ شاعر رثاء الاندلس
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة منذر الخفاجي
إذا كان ابن الرومي أول من فتح باب رثاء المدن في الشعر العربي عندما رثى البصرة فإنه بلاشك لم يكن الوحيد الذي أجاد وأبدع في هذا الفن، فسرعان ما انتشر هذا النوع من الرثاء في البلدان التي يستولي عليها حكام جدد فيقوضون ما بناه الحكام السابقون ويبدلون سياسيتها وإيدولوجيتها فينبري الشعراء لرثاء بلدانهم وبكائها.
وقد انتقل رثاء المدن هذا من المشرق العربي حتى وصل الأندلس، ولا شك أن وحدة الدين واللغة قد ساعدت في انتشار هذا الفن في أرجاء العالم الإسلامي فضلاً عن ذلك فقد اعتمدت الثقافة الأندلسية على الثقافة العربية اعتماداً كبيراً وظل الاندلسيون يولون وجوههم شطر المشرق فكانوا يرون في الشعراء المشارقة مثلهم الأعلى لشعرهم وأدبهم ولعل من أهم الشعراء الذين أبدعوا في رثاء المدن هو أبو البقاء أو أبو الطيب الرندي صاحب المرثية الأندلسية الشهيرة التي ما زالت أصداؤها الحزينة ترن على مر العصور رغم مضي عدة قرون على موت صاحبها إذ خلدت هذه المرثية أسم شاعرها الى يومنا حيث عدّها المؤرخون من عيون الشعر العربي وأطلقوا على صاحبها (شاعر رثاء الأندلس).
ولد صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الننغري الرندي في مدينة رندة بالأندلس عام (651) هـ - (1204) م وقد اشتهر بكنيتين هما: أبو البقاء وأبو الطيب، وإن كانت الأولى أكثر ذيوعاً من الثانية، نشأ شاعرنا في مسقط رأسه (رندة) ودرس فيها الحديث والفقه واللغة وبرع في النظم والنثر وقد روى عن أبيه وعن ابن الفخار الشربشي وابن قطرال وابن الحسين بن زرقون وابن أبي الجد وغيرهم.
كان الرندي من أهل العلم كما كان كاتباً وشاعراً وفقيهاً وحافظاً ومحدِّثاً تولى القضاء في بلده ووصف بالفقيه القاضي يقول عنه ابو جعفر ابن الزبير في (صلة الصلة): (شاعر مجيد عنده مشاركة في الحساب والفرائض ونظم في ذلك وله تواليف أدبية وقصائد زهدية وجزء من حديث جبرئيل عليه السلام وغير ذلك مما روي عنه وكان في الجملة معدوداً من أهل الخير وذوي الفضل والدين..إلخ)، ويقول عنه ابن عبد الملك المراكشي في (الذيل والتكملة): (كان خاتمة أدباء الأندلس، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهاً حافظاً فرضياً، متفنناً في معارف شتى، نبيل المقاصد، متواضعاً، مقتصداً في أحواله، وله مقامات بديعة في أغراض شتى وكلامه نظماً ونثراً مدون) ورغم أن شاعرنا قد تعددت الأغراض في شعره إلا أنه أشتهر بمراثيه الحزينة المعروفة بطابعها الشجي كما امتاز شعره بالسهولة والوضوح والرقة وهو مع ذلك (كثير، سهل المآخذ، عذب اللفظ، رائق المعنى) كما يقول عنه ابن الخطيب، وقد سجلت اشعاره نفحاته الولائية لأهل البيت (ع) وخاصة مراثيه الكثيرة في الإمام الحسين (ع) وأشهرها مخمسته التي ألفها على حروف المعجم وهي في غاية التفجع على الإمام الحسين (ع) يقول فيها:
أبيتُ فلا يساعدني عزاءُ إذا ذكر الحسين وكربلاءُ
فخل الوجد يفعل ما يشاءُ لمثل اليوم يدّخر البكاءُ
عفا من آل فاطمة الجواءُ
بعينك يا رسول الله مابي دموعي في إنهمال وانسكابِ
وقلبي في انتهاب والتهابِ على دار مكرّمة الجنابِ
عفتها الريح بعدك والسماءُ
بكيت منازل الصبر السؤاة بمكة والمدينة والفراتِ
معالم للعلا والمكرماتِ عفت آثارها وكذاك ياتي
على آثار من ذهب العفاءُ
كان نتيجة الإضطهاد والظلم الذي عاناه الشعب الأندلسي من قبل الحكام الأمويين إن مال الناس الى مذهب أهل البيت (ع) الذي وجدوا فيه تجسيد المبادئ الحقيقية للإسلام فإزدهر الأدب الشيعي وكثر الشعر الشيعي في الأندلس وذلك بانتشار مذهب أهل البيت (ع) الذي عاش جزءاً كبيراً في الأندلس في إحدى فترات تاريخها في مطلع القرن الخامس يقول الدكتور محمد الغزالي في رسالته (أدب التشيع في الأندلس) ص42-43: (وعندما دالت دولة الأمويين بالأندلس وفعلوا فعلتهم التي فعلوا بدأ الناس ينحرفون عنهم لسوء سلوكهم وإزدهر أدب التشيع وأدب الولاء لأهل البيت (ع))، وكثر الشعراء الموالون لأهل البيت (ع) الذين عكسوا غضبهم وسخطهم من السلطة الأموية وولاءهم لأهل البيت (ع) في قصائدهم وكان في طليعة هؤلاء شاعرنا الرندي الذي سجل في مراثيه الكثيرة ما حل في كربلاء من قتل وسبي بآل رسول الله (ص) فكان يبكي على الإمام الحسين (ع) بكاءًَ حاراً بأنات متوجعة يقول في إحدى مراثيه:
أندب الطف وسبط المصطفى بمراث هي أسرى من قفا
لا ترم ضوء هدى من بعده فسراج الهدى بالطف انطفى
وقصائده في هذا المجال كثيرة لا يسعنا هنا حصرها ونكتفي بهذين النموذجين لنعود الى البحث في الجوانب الأخرى من حياة شاعرنا وخاصة الظروف التي كتب فيها رثائيته النونية في رثاء الأندلس.
عاش شاعرنا حياة صعبة إذ اضطربت في ذلك العصر أوضاع الأندلس فكان عصر إنهيار سلطان ونهوض آخر فكان شاعرنا يشهد تلك الحوادث والخطوب التي نزلت في وطنه الأندلسي والتي أودت بمعظم قواعده الكبرى حتى استولى عليها النصارى تباعاً في نحو ربع قرن فقط من سنة 625 هـ الى سنة 646 هـ سقطت قرطبة وبلنسية ومرسية ودانية وشاطبة وجيّان واشبيلية وغيرها ولم يبق بيد المسلمين من الأندلس الكبرى سوى مملكة غرناطة الصغيرة التي تحتوي على بضعة قواعد أندلسية باقية مثل رندة و وادي آشي وبسطة والحامة والمرية ومالقة والجزيرة الخضراء.
وكان من الطبيعي أن تتطلع الأنظار الى تلك الدولة الجديدة التي قامت تجمع حولها أشلاء الأندلس الكبرى وأضحت غرناطة عاصمة المملكة الجديدة كعبة القصّاد مثلما كانت قرطبة وإشبيلية وبلنسية وغيرها من القواعد الذاهبة وأخذ العلماء والكتاب والشعراء يترددون عليها و كان من أولئك الوافدين أبو البقاء الرندي شاعرنا الذي اتصل ببني الأحمر الذين كانوا يسبغون رعايتهم على الكتاب والشعراء فكان أثيراًَ عندهم وكان ابن الأحمر مؤسس المملكة الجديدة يعمل لحماية ملكه من هجمات القشتاليين حتى خسر عدداً كبيراً من البلاد والحصون المسورة منها شريش والقلعة وغيرها حتى بلغ عدد هذه المواضع التي خسرها أكثر من مائة موضع ومعظمها من غرب الأندلس وكان ذلك بين الأعوام (662-665 هـ) وهنا يقول المؤرخون إن هذه الأحداث بالذات هي التي أدت شاعرنا الى نظم مرثيته الأندلسية بيد أن الشاعر لم يقتصر رثاؤه على تلك الخسائر الإقليمية التي خسرها ابن الأحمر ولكنه رجع الى ما قبل ذلك بنحو ثلاثين عاماً عندما سقطت فيها القواعد الأولى للأندلس بيد النصارى فأوحت إليه كل هذه الأحداث لرثاء الأندلس بقصيدة نونية عصماء تعد من عيون الشعر العربي يبدؤها بقوله:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يغر بطيب العيش انسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولاً من سرّه زمن ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولايدوم على حال لها شانُ
ويسترسل شاعرنا في قصيدته حتى يأتي الى هذا التساؤل الذي لا يخفى جوابه على أحد:
أين الملوك ذوو التيجان من يمن؟ وأين منهم أكاليلٌ وتيجان؟
وأين ماشاده شدّاد في أرم؟ وأين ما ساسه في الفرس ساسان؟
وأين ما حازه قارون من ذهب؟ وأين عاد وشدّاد وقحطان؟
ثم يقول: بعد أن يستعرض سحق الدهر لأعظم ملوك العصور الغابرة مثل شداد و ساسان وقارون وعاد و قحطان وكسرى:
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان
فاسأل بلنسية ماشأن مرسية؟ وأين شاطبة أم أين جيّان؟
وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
ثم يقول منادياً أولئك السعداء الأعزاء بأوطانهم كأنهم قد أمنوا خطوب الدهر وفواجعه:
ياغافلاً، وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظانُ
وماشياً مرحاً يلهيه موطنه أبعد حمص تعز المرء أوطانُ
وبعد أن يذكر الحوادث التي حلت ببلاد الأندلس من القتل والأسر ويعزو ذلك الى التفرق والتقاطع الذي ساد هذه البلاد يقول في آخر مرثيته:
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان
وتقع هذه القصيدة في اثنين وأربعين بيتاً وقد حواها ديوانه الذي اشتهر بها وفضلاً عن هذا فقد كان لشاعرنا تآليف أخرى منها كتاب (روضة الإنس ونزهة الأنفس) وكتاب (الوافي في نظم القوافي).
توفي أبو الطيب الرندي في سنة 684 هـ - 1285 م وقد تجاوز عمره الثمانين وأوصى أن يكتب على قبره هذان البيتان:
خليليَّ بالودِّ الذي بيننا اجعلا إذا مت قبر عرضةً للترحُّمِ
عسى مسلم يدنو فيدعو برحمة فإني محتاج لدعوة مسلمِ