قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الإمام السجّاد (عليه السلام).. بناء النفوس وإيقاظ الضمائر
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّ الدين
مع غروب شمس العاشر من شهر محرم الحرام لسنة 61 للهجرة، كانت قافلة العترة الطاهرة لرسول الله (ص) تتجه من أرض الواقعة الدامية مخلفة الحسين الشهيد وأصحابه وأبناءه، الى الكوفة مركز ولاية الدّعي ابن الدّعي، في مقدمة القافلة فتىً صغير لا يتجاوز عمره الثلاثة عشر من العمر، وقد وضعوا عليه القيود والسلاسل الحديدية ومن خلفه النساء والأطفال في منظر لن ترقَ اليه الاقلام والخيال لتصور حقيقة الموقف، سوى بعض الوصف لتقريب الصورة الى الأذهان في مسعى حسيني لإدراج هذه الواقعة ضمن الشعائر الحسينية.
ابتداءً من هذا اليوم يكون الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، هو الامام المفترض الطاعة وحجة الله على خلقه، لكنه في ظروف استثنائية وتاريخية، فقد شهد للتوّ مصرع أبيه وعمه وأولاد عمه وخيرة أصحاب أهل البيت (عليهم السلام) على يد جيش الغدر الأموي، وفي تلك الحالة والمؤلمة وذلك النفس الحاقد، فهو يُعد ولي الدم والمحق بالثأر حتى ولو بعد حين، إلا إن هذا الامام الصبور والصامد كان انساناً من نوع آخر، فهو لم يتطرق للثأر وحثّ الناس أو الموالين له في الكوفة وغيرها على الثأر لأبيه، لاسيما وانه نجح بسهولة بإماطة اللثام عن الوجه القبيح لبني أمية وكشف الخديعة الكبرى التي وقع فيها المسلمون وتورطوا فيها بدم ابن بنت رسول الله.
لقد أعلن الامام زين العابدين منذ الساعات الأولى لالتقائه بالناس الذين يفترض أن يعرفوا أنهم أمام إمامهم الرابع في سلسلة الولاية، بانه يريد الاصلاح وتقويم النفوس والسير بالانسان نحو جادة الحق والرشاد، كما هو نهج أبيه الحسين من قبله عمه وجده وأيضاً رسول الله وبضعته الطاهرة المظلومة (صلوات الله عليهم)، لذا عندما اشتدّ التأثر بأهل الكوفة بما سمعوه من الامام ومن عمته من اللوم والتقريع وبعد انكشاف الحقائق، ودعوتهم بان يأمرهم بما يرى فهم سامعون مطيعون!! نهرهم الإمام (عليه السلام) بشدة وقال ما مضمونه أتعدونني كما وعدتم أبي من قبل ثم خذلتموه، ثم قال لهم : (أبكوا كثيراً واضحكوا قليلاً).
نعم... هذا هو منهج الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام) في مرحلة ما بعد كربلاء الدامية المفجعة، إنه إحياء الضمائر وتنقية النفوس من الشوائب وتليين القلوب القاسية والمتحجرة، فهذه العوامل وغيرها هي السبيل الصحيح والمنطقي لبداية صحيحة وجديدة نحو تغيير الواقع الفاسد، لا أن يتجه الانسان نحو التغيير أو الثورة – مثلاً- وهو مثقل قلبه بالاغلال إزاء أخوانه، او يجر خلفه ركام من الذنوب والمعاصي.
*البناء الأخلاقي
وقف على الإمام علي ابن الحسين (عليه السلام) رجل فأسمعه كلاماً غليظاً وشتمه، فلم يكلمه (عليه السلام)، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه، فقالوا له: نفعل ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول!
فمشى الى ذلك الرجل وهو يتلو قوله تعالى: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، فعلمنا أنه لن يقول له شيئاً، فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له هذا علي بن الحسين!
فخرج الرجل متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه للرد على بعض ما كان منه، فقال له الإمام السجاد (عليه السلام) : يا أخي...! إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر الله لك. فقبّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به.
وكان الامام قاصداً من اصطحاب أصحابه معه الى دار ذلك الرجل ليسمعهم إحدى دروس الاخلاق في المجتمع، وأن لا يشحن الناس بالعدواة والبغضاء وتضيع بينهم القيم والمفاهيم الدينية السمحاء.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه فقال لهم: أتدرون من هذا؟! قالوا: لا، قال: إنه علي بن الحسين! فوثبوا فقبلوا يده ورجله وقالوا: يا بن رسول الله أردت أن تصلينا نار جهنم، لو بدرت منا إليك يد أو لسان، أما كنا قد هلكنا آخر الدهر، فما الذي يحملك على هذا؟ قال (عليه السلام): إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لا أستحق، فإني أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحب إليّ.
*حامل الطعام ليلاً
روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان يخرج في الليلة الظلماء يحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه، ولما استشهد (عليه السلام) فقد الفقراء ذلك الرجل، فعلموا أنه كان الامام علي بن الحسين (عليه السلام)، ولما وُضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين.
ومن نوادر أخلاقه الكريمة وتعامله الانساني الفذّ أنه حتى مع الحيوان كان رؤوفاً رحيماً، فما بالك بالانسان، فقد روي أنه حصل ذات مرة أن أبطأت دابته وهو في طريقه الى الحج، فاراد ان يسرع في المسير فرفع عصاه لكنه قال: لولا مخافة الجبار...! وكان ينزل سوطه، وربما فهمت الدابة هذه الرسالة، وينقل عنه أيضاً هذه الواقعة الجميلة، عن الإمام الباقر (عليه السلام): أنه (عليه السلام) حج على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط، ولما توفّت أمر بدفنها لئلا تأكلها السباع!
*سيد الساجدين
من الجدير بنا التساؤل عن خلفية هذه التسمية التي حملها إمامنا علي بن الحسين (عليه السلام)، ولماذا نطلق عليه بـ (سيد الساجدين) و (زين العابدين)؟ عن الإمام الباقر (ع) : إن أبي علي بن الحسين (عليه السلام) ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عزوجل فيها سجود إلا سجد، ولا دفع الله تعالى عنه سوءً يخشاه أو كيد كايد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد، ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، لذلك سُمي بالسجّاد.
أما عن عبادته (عليه السلام) وتهجده فنالك الكثير من الروايات والاحاديث المروية عن ولده الباقر (عليه السلام)، منها، عندما جاءه (عليه السلام) ذات مرة وحاول أن يهوّن عليه ما حلّ به من الارهاق والجهد لطول سجوده وقيامه في الليل والنهار، فحمل (عليه السلام) رقعة الى جانبه وقال: في هذه عبادة علي بن أبي طالب، ثم وضعها متأوهاً وقال: ومن يقدر على عبادة أمير المؤمنين؟!
*مدرسة الدعاء والبكاء
كما أسلفنا فان إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ونظراً للظروف الموضوعية التي رافقت تلك الحقبة الزمنية، أخذ على عاتقه المنهج التربوي والاخلاقي، لاعادة النفوس الى ضياء الحق، وذلك من خلال مدرسة الدعاء والبكاء، فالصحيفة السجادية التي وُصفت في حديث شريف بانها (زبور آل محمد)، تشتمل على عشرات الأدعية المأثورة وهي تحمل أرفع وأسمى المعاني العرفانية وهي مدرسة متكاملة توجب خلق الوعي في الأمة وسوقها إلى الإيمان والفضيلة والتقوى.
والى جانب الدعاء والتضرع الى الله تعالى، أشهر الإمام السجاد (عليه السلام) سلاح البكاء ضد الظالمين والمنحرفين، فقد كان بكاء الإمام زين العابدين ثورة بحق في وجه الطغاة، حيث كان يبكي وبشدة على ظلامة أبيه الحسين في كل موقف وعند كل مناسبة وأمام جميع الناس ليذكّرهم بأن أباه الحسين (عليه السلام) قتل عطشاناً مظلوما، كما صنع مع ذلك الجزّار في إحدى اسواق المدينة عندما رآه يروم ذبح شاة عنده، فسأله إن كان قد عرض الشاة على الماء، فقال: يا ابن رسول الله، اننا لانذبح الشاة حتى نعرضها على الماء، وفي وسط السوق وأمام أنظار المارة وقف الإمام ينتحب ويقول وهو متوجه صوب كربلاء: السلام عليك يا أبتاه يا أبا عبد الله.. الكبش لا يذبح حتى يسقى الماء وقد قتلت الى جنب الفرات عطشانا.
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): لقد بكى أبي على أبيه الحسين (عليهما السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك! إن يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشرة ابناً، فغيب الله عنه واحداً منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً على قيد الحياة، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟
ولا ننسى مسأل غاية في الاهمية وهي تكريس قضية استذكار عطش الامام الحسين قبل شرب الماء، وهي سنّة التزمها المؤمنون طيلة القرون الماضية هي باقية حتى يوم القيامة، وهي من دروس الإمام السجاد (عليه السلام)، الذي ما عُرض عليه الماء حتى ملأه بدموع عينيه.
*إعداد القادة
هذه المدرسة التي لاحظنا جانباً بسيطاً منها، تخرّج منها الفقهاء والمحدثون والعلماء والعباقرة، في الفترة التي تلت عهد الامام السجاد (عليه السلام)، أي في فترة الإمامين الباقرين (عليهما السلام)، فمن هم هؤلاء؟ إن معظمهم كانوا من العبيد والإماء الذين كان الامام يشتريهم، ثم يقوم بتربيتهم التربية الإسلامية المستمدة من سيرة الرسول الأكرم وأهل البيت (صلوات الله عليهم)، فكان يثقفهم بالمعارف الدينية والأحكام الشرعية، ويعلّمهم أخلاق رسول الله وتفسير القرآن، ثم يعتقهم في سبيل الله عزوجل، فكانوا نواة الخير في المجتمع آنذاك والناس يرجعون إليهم في معرفة أحكام الدين والقرآن.
*الشهادة
استشهد الإمام زين العابدين (صلوات الله وسلامه عليه) يوم 25 من شهر محرم الحرام عام 94هـ، وفي رواية عام 95هـ، وله من العمر (57 سنة) وقيل: (59 سنة) وقيل: (54 سنة)، وقد سمّه وليد بن عبد الملك والي المدينة بأمر من الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك، فقضى نحبه مسموماً شهيداً، ودفن في البقيع الغرقد حيث كان مزاره مهوى لآلاف الزائرين قبل أن يهدم على يد الوهابيين.
وكانت آخر وصية له (عليه السلام) ما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): لما حضرت أبي الوفاة ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي (عليه السلام) حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله.