قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

على أعتاب زيارة الناحية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *جعفر ضياء الدين
ثمة سر عظيم يكمن في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في مشهده بكربلاء المقدسة، مثلما تكمن أسرار جمة في ولادته وحياته وشهادته وحتى تربيته الطاهرة، والأجر الجزيل لزواره وخصائص زيارته المنعكسة على الزائرين ليدلان على خصوصية زيارة سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله).
لا ريب أن الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم يعلمون هذه الأسرار، ويقفون على مكامنها وحيثياتها، ولا ريب أن الامام صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) هو بقية الله المستودع للسر، هو أكثر من غيره يتحسس غربة ووحدة جده الحسين (عليه السلام)؛ عطش ولهفة أطفاله، استشهاد أولاده بين يديه، وبعدهم أصحابه في رمضاء كربلاء.
وهو الذي تعتصره الحرقة ويهده هول الفاجعة، عندما يهتف مخاطباً جده الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: (فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محاربا، ولمن نصب لك العداوة مناصبا، فلأندبنك صباحا ومساء، ولأبكين عليك بدل الدموع دما).
عندما نتصفح زيارة الناحية، فإننا كلنا ثقة وإعتقاد راسخ، بأن هذه الزيارة قد إنطلقت من أعرف الناس بالإمام الحسين (عليه السلام)، وأعلمهم بحقه وعظمته وقدسه وجلاله وهيبته، إنها صدحت من الناحية المقدسة لولي العصر والزمان الحجة المنتظر (عجل الله فرجه)، وهو حيّ يرزق يعيش بين ظهرانينا، فلهذا السبب سميت بزيارة الناحية المقدسة، إجلالاً وإكباراً وإعظاماً لمؤلفها ومسطر حروفها وكلماتها ومعانيها، لذا فهي خير وسيلة للتوسل بأهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وإنطلاقا من الدعاء القائل: (إلهي عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) فنحن بتقربنا إلى الأئمة والى الرسول الأكرم (صلوات الله عليهم) فإننا بحقيقة الأمر نتقرب إلى ساحة قدسه تبارك وتعالى.
وعندما نقف على أعتاب زيارة الناحية، فإنما نقف على بحر متلاطم من المعارف والحقائق والوقائع والأحداث والمآسي والشواهد التي ينبهر المرء من عظمتها وهولها وهيبتها وشموخها، ويعتوره الوجل من الخوض في غمارها، فها نحن نقترب ونأخذ غرفا من البحر:
أولا: أداء التحية والسلام للأنبياء والأولياء مع ذكر أهم صفاتهم ومعاجزهم وخصائصهم التشريعية والتكوينية، (السلام على آدم صفوة الله من خليقته، السلام على خامس أصحاب الكساء، السلام على غريب الغرباء، السلام على شهيد الشهداء، السلام على قتيل الأدعياء السلام على ساكن كربلاء...).
ثانيا: أداء التحية والسلام للإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الشهداء بين يديه مع ذكر أهم الخصائص المودعة في تلك الشخصيات العظيمة، والأسرار المكنونة في ذواتهم المقدسة. (السلام على الحسين الذي بذل دمه وروحه في سبيل الله، وفي طريق إعلاء كلمة الحق، وإدحاض كلمة الباطل)، فقد كانت حياة الإمام الحسين (عليه السلام) تتفجر عظمة وجلالا وإعجازا، واستطاع من أن يرفع لواء الإصلاح في أمة جده، وإنه حقا قد أوقد بدمه الطاهر مصابيح الأمر بالمعروف، وجسد في ثورته المباركة روح التمرد على المنكر والضياع والفساد، حتى أنه قد أعاد للأمة مجدها وعزها وكبريائها.
وها هو يؤكد على حقيقة ناصعة ألا وهي أن الدين والعقيدة أغلى ما في الوجود، وإنه ضرب أروع الأمثال للأجيال القادمة بالتضحية والفداء، فالسيوف قد رملته بالدماء، فأخذ الإمام صاحب العصر والزمان يؤبنه بهذه الكلمات المدوية التي تدمي القلوب وتقرح الجفون (السلام على الجيوب المضرجات، السلام على الشفاه الذابلات، السلام على النفوس المصطلمات، السلام على الأرواح المختلسات، السلام على الأجساد العاريات، السلام على الجسوم الشاحبات، السلام على الدماء السائلات، السلام على الأعضاء المقطعات، السلام على الرؤوس المشالات).
ثالثا: وإذا كان حجة الله على خلقه يقول بحق جده الحسين (عليه السلام): (فإني قصدت إليك ورجوت الفوز لديك) فماذا عسانا أن نقول نحن عندما نقف بحضرته المباركة؟! وما هذه الأسرار الإلهية المكنونة في ذاته المقدسة (عليه السلام) التي لا يعرف كنهها سوى الامام المنتظر (عجل الله فرجه)، فهو العارف الحقيقي لمنزلة الشهيد بكربلاء، وإنه يؤكد على هذه المعرفة بقوله (السلام عليك سلام العارف بحرمتك، المخلص في ولايتك، المتقرب إلى الله بمحبتك، البريء من أعدائك...)
وبعد هذا الفاصل العقائدي والولائي والمعرفي ينقلنا الإمام إلى لوحة أخرى من اللوحات المأساوية لحادثة الطف بقوله: (سلام من قلبه بمصابك مقروح، ودمعه عند ذكرك مسفوح، سلام المفجوع الحزين، الواله المستكين...)، وبعد هذا المقطع يؤكد الإمام على مسألة مهمة للغاية ألا وهي أهمية الإنصياع لأمر القيادة الشرعية، وكيفية الذبّ عنها، والدفاع عن وجودها المقدس، لأن الدفاع عن القيادة والولاية، إنما هو دفاع عن القيم والمبادئ التي تتجسد فيها (سلام من لو كان معك بالطفوف، لوقاك بنفسه حد السيوف، وبذل حشاشته دونك للحتوف، وجاهد بين يدك، ونصرك على من بغى عليك، وفداك بروحه وجسده وماله وولده، وروحه لروحك فداء، وأهله لأهلك وقاء).
رابعا: الشهادة والإقرار بالصفات الكريمة والسيرة النبوية التي كان يتجلى بها الإمام الحسين (ع): (أشهد انك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر والعدوان وأطعت الله وما عصيته، وتمسكت به وبحبله فأرضيته وخشيته وراقبته واجبته).
نعم... إن الإمام قد إستجاب لداعي الله، وجاهد الأعداء حق الجهاد، حتى أهرق دمه الطاهر، وتقطع جسده المطهر تثبيتا للسنن وإطفاء للفتن ودعوة إلى الرشاد، وإضاءة لسبل السداد.
خامسا: الحديث عن دوافع الثورة والنهضة ضد الظلم والجور والعدوان، فعندما إستفحل الفساد واستشرى الانحلال، وعم الظلم الأموي في الأمة، فإن الإمام قد شمر عن ساعديه، ونهض بالأمر مع أولاده وإخوته وأهل بيته والثلة المؤمنة من أصحابه، وقام بمجاهدة الفجار، وصدع بالحق والبينة، ودعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمر بإقامة الحدود، والطاعة للمعبود، ونهى عن الخبائب والطغيان والعصيان (حتى إذا الجور مد باعه وأسفر الظلم قناعه ودعا الغي أتباعه، ثم اقتضاك العلم بالإنكار ولزمك أن تجاهد الفجار).
سادساً: الأعداء عندما أقدموا على جريمتهم النكراء بقتلهم الإمام الحسين (عليه السلام) إنما قاموا بهتك حرمة الدين والإسلام، والإنقضاض على رسالات الله جميعا، وردم الفضائل والمناقب والكمالات، وهجر الكتاب ومغادرة الحق، (فالويل للعصاة الفساق، لقد قتلوا بقتلك الإسلام وعطلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام وهدموا قواعد الإيمان وحرفوا آيات القرآن).
ثامنا: الدعاء وطلب المغفرة والرحمة من الله سبحانه وتعالى، (اللهم فبحرمة هذا المكان المنيف صل على محمد وآل محمد وأحشرني في زمرتهم وأدخلني الجنة بشفاعتهم).
ان مضامين زيارة الناحية المقدسة مليئة بالعرفان والمعارف وقيم الإيثار والتضحية والتحدي والحماسة والتوسل والقداسة، نوجزها بما يلي:
1- المعارف الإلهية والثقافة الإسلامية يمكن ملاحظتها بوضوح في فصول الزيارة المتنوعة.
2- الوعي السياسي بالحوادث الواقعة، وإعطاء الفرد مسؤولية تجاه الدين والمجتمع والنظام.
3- التركيز على الجانب المأساوي في القضية الحسينية، وهذا فيه الكثير من الدروس والعبر للسير على نهجه المقدس، والتضحية بالغالي والنفيس من أجل كرامة الأمة وعزة الدين.
4- الإرتباط المعنوي والروحي والغيبي بين الزائر والمزور، إذ أن الزائر هو الإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه) والمزور هو الإمام الحسين (عليه السلام)، وكلاهما من نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكلاهما ينهضان من أجل إقامة الحق وإحياء العدالة، واعلاء كلمة التوحيد في هذه المعمورة.
وبسبب هذا الارتباط الوثيق بين الإمام الحسين والإمام المنتظر (عليهما السلام)، فإن المنتظرين لبزوغ الفجر عندما يقرأون فصول زيارة الناحية المقدسة، تعمّر في نفوسهم الايمان ويغمر قلوبهم شعور بالشوق والوجد للقاء الحبيب، والانضواء تحت رايته المباركة.