قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الثاني والعشرون من شعبان المعظم ذكرى وفاته..
الشيخ محمد جواد البلاغي .. فقيد الكلمة والمواقفة الشجاعة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة إعداد / خليل ظاهر
يُعد الشيخ محمد جواد البلاغي من ألمع نجوم الحوزة العلمية وأكثرها عطاءً، جمع الفضائل الاخلاقية والخصال الحسنة مع الدور الاجتماعي والسياسي وطلب العلم حتى مستويات عالية، فدرس ودرّس كبار العلماء والمراجع، والى جانب كل ذلك كان أديباً وشاعراً مبدعاً تميّز شعره بالمشاعر الصادقة والجيّاشة.
ولد محمد جواد ابن حسن ابن طالب بن عبّاس بن إبراهيم بن حسين بن عباس بن حسن بن عباس بن محمد علي بن محمد البلاغي النجفي الربعي في النجف الأشرف سنة 1282هـ في بيت من أقدم بيوتاتها وأعرقها في العلم والفضل والأدب، والمشهورة بالتقوى والصلاح والسداد، فقد أنجبت هذه الأسرة – آل البلاغي – عدّة من رجال العلم والدين والأدب وإن اختلفت مراتبهم.
نشأ حيث وُلد، وأخذ المقدمات عن أعلامها الأفاضل، ثم سافر إلى الكاظمية سنة 1306هـ وتزوج هناك من ابنة السيد موسى الجزائري الكاظمي. ثم عاد إلى النجف الأشرف سنة 1312هـ فحضر على الشيخ محمد طه نجف والشيخ آقا رضا الهمداني والشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني والسيد مهدي الهندي.
جهاد السلاح والكلمة
هاجر إلى سامراء سنة 1326هـ فحضر على الميرزا محمد تقي الشيرازي زعيم ثورة العشرين ، لمدة عشر سنين، وألف هناك عدة كتب، وغادرها بعد احتلالها من قبل الجيش الإنكليزي متوجهاً إلى الكاظمية فمكث بها سنتين مؤازراً للعلماء في الدعاية للثورة ومحرّضاً لهم على طلب الاستقلال.
ثم عاد إلى النجف الأشرف وواصل نشاطه في التأليف، فكان من أولئك الندرة الأفذاذ الذين أوقفوا حياتهم وكرّسوا أوقاتهم لخدمة الدين والحقيقة، فلم يُرَ إلا وهو يجيب عن سؤال، أو يحرّر رسالة يكشف فيها ما التبس على المرسل من شكّ، أو يكتب في أحد مؤلفاته.
وقف بوجه النصارى وأمام تيار الغرب الجارف بكل ما حمله من مذاهب وأفكار دخيلة على المجتمع من قبيل البابية والقاديانية والوهابية والإلحادية وغيرها، فكتب في ردهم ودحض شبهاتهم، وفضح توافه مبانيهم ومعائب أفكارهم عدّة كتب ورسائل قيمة.
وكان من خلوص النية وإخلاص العمل بمكان حتى أنه كان لا يرضى أن يوضع اسمه على تأليفه عند طبعها، وكان يقول: (إني لا أقصد إلا الدفاع عن الحق، لا فرق عندي بين أن يكون بأسمي أو اسم غيري). حتى أن يوسف إليان سركيس في كتابه: (معجم المطبوعات) ذكر كتاب (الهدى إلى دين المصطفى) لشيخنا البلاغي – رضوان الله عليه – في آخر الجزء الثاني ضمن الكتب المجهولة المؤلف، ربما كان – قدس سره – يذيل بعضها باسماء مستعارة كـ: (كاتب الهدى النجفي)، و (عبد الله العربي) وغيرها.
ومع كل ذلك أصبح اسمه ناراً على علم، وبلغت شهرته اقاصي البلاد، وذلك لما عالجه من المعضلات العلمية والمناقشات الدينية، حتى أن أعلام أوروبا كانوا يفزعون إليه في المسائل العويصة، كما تُرجمت بعض مؤلفاته إلى الإنكليزية للاستفادة من مضامينها الراقية. وكان يجيد اللغات العبرانية والفارسية والإنكليزية ولذلك برع في الرد على أهل الكتاب ودحض أباطيلهم وكشف خفايا دسائسهم.
كما كان متواضعاً للغاية، يقضي حاجاته بنفسه، ويختلف إلى الأسواق بشخصه لابتياع ما يلزم أهله، وكان يحمله إليهم بنفسه ويعتذر لمن يروم مساعدته بحمله عنه فيقول له: (رب العيال أولى بعياله).
وكان يقيم صلاة الجماعة في المسجد القريب من داره، فيأتّم به أفاضل الناس وخيارهم، وبعد الفراغ من الصلاة كان يدرّس كتابه (آلاء الرحمن).
كان لين العريكة، خفيف الروح، منبسط الكفّ، لا يمزح ولا يحب أن يمزح أحد أمامه، تبدو عليه هيبة الأبرار وتقرأ على أساريره صفات أهل التقى والصلاح. ومن ملامحه ومخائله الدالة على كماله النفسي فطرته السليمة، وسلامة سلوكه الخلقي والاجتماعي، وحدة ذكائه، وقوة فطنته، وعفة نفسه، ورفعة تواضعه، وصون لسانه عن الفضول، ولين عريكته، ورقة حاشيته وخفة روحه، وأدبه الجم، وعذوبة منطقه، وفيض يده على عسره وشظف عيشه.
مع سيد الشهداء (عليه السلام)
له في سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام عقيدة راسخة، وحب ثابت، فكم له أمام المناوئين للإمام الحسين عليه السلام من مواقف مشهودة، ولولاه لأمات المعاندون الشعائر الحسينية والمجالس العزائية، ولكنه تمسك بها والتزم بشعائرها وقام بها خير قيام. فكان هذا العلّامة البطل، على شيخوخته وضعف بدنه، يمشي حافياً أمام الحشد المتجمهر للعزاء، وقد حل أزراره ويضرب على صدره، وخلفه اللطم والأعلام، وأمامه الضرب بالطبل.
ومن أثاره الباقية في مسيرة إحياء مصاب الامام الحسين (عليه السلام)، إقامة المأتم في حسينية في بغداد بعد انتزاع ملكية المكان من الطائفة البهائية الضالة، فقد أقام علماء الدين بإثارة الراي العام ضد البهائية في بغداد، وإقامة الدعوة في المحاكم لمنع تصرفهم في الملك الذي استولوا عليه في محلّة الشيخ بشار في الكرخ واتخذوه مكاناً لإقامة شعائرهم الباطلة، وقضت المحاكم بنزعه منهم، فاتخذه ( رضوان الله عليه) مسجداً تقام فيه الصلوات الخمس والمآتم الحسينية في ذكرى الطف وشعائر أهل البيت عليهم السلام.
أقوال العلماء والأدباء فيه
قال السيد محسن الأمين العاملي: (كان عالماً فاضلاً، أديباً شاعراً، حسن العشرة، سخي النفس، صرف عمره في طلب العلم وفي التأليف والتصنيف، وصنّف عدة تصانيف في الردود، صاحبناه في النجف الأشرف أيام إقامتنا فيها ورغب في صحبة العامليين فصاحبناه، وخالطناه حضراً وسفراً عدة سنين إلى وقت هجرتنا من النجف فلم نر منه إلا كل خلق حسن وتقوى وعبادة وكل صفة تحمد، وجرت بيننا وبينه بعد خروجنا من النجف مراسلات ومحاورات شعرية ومكاتبات في مسائل علمية).
وقال الشيخ عباس القمي: (بطل العلم الشيخ محمد الجواد... ولقد كان – رحمه الله تعالى – ضعيفاً ناحل الجسم، تفانت قواه في المجاهدات، وكان في آخر أمره مكباً على تفسير القرآن المجيد بكل جهد أكيد).
وقال الشيخ آقا بزرك الطهراني: (كان أحد مفاخر العصر علماً وعملاً... وكان من أولئك الأفذاذ النادرين الذين أوقفوا حياتهم وكرسوا أوقاتهم لخدمة الدين الحنيف والحقيقة... فهو أحد نماذج السلف التي ندر وجودها في هذا الزمن).
وقال الملا علي الواعظ الخياباني التبريزي: (هو العَلَم الفرد العلامة ، المجاهد، آية الله، وجه فلاسفة الشرق، وصدر من صدور علماء الإسلام، فقيه أصولي، حكيم متكلم، محدِّث محقق، فيلسوف بارع، وكتبه الدينية هي التي أبهجت الشرق وزلزلت الغرب وأقامت عمد الدين الحنيف، فهو حامية الإسلام، وداعية القرن، رجل البحث والتنقيب، والبطل المناضل، والشهم الحكيم).
وقال المحامي توفيق الفكيكي: (كان رحمه الله تعالى داعياً من دعاة الفضيلة، ومؤسس المدرسة السيّارة للهداية والإرشاد وتنوير الأفكار بأصول العلم والحكمة وفلسفة الوجود، فقد أفطمت جوانحه على معارف جمة، ووسع صدره كنوزاً من ثمرات الثقافة الإسلامية العالية والتربية الغالية، وقد نهل وعبّ من مشارع المعرفة والحكمة الصافية حتى أصبح ملاذ الحائدين الذين استهوتهم أهواء المنحرفين عن المحجة البيضاء وخدعتهم ضلالات الدَّهريين والماديين.
أدب الشيخ البلاغي
مع أن فقيدنا (رحمه الله) كان من رجال الدين والمراجع المعروفين، إلاّ أنّه وجد أنّ الشعر من العناصر التي تُوصل الكثير من الحقائق إلى الأمّة، ووجده وعاءً يحفظ الخواطر في إطارٍ فنّي، فضلاً عن كونه وثائق تاريخيّة ترسم روح العصر وأحوال الناس والأفكار والآراء والمشاعر في صياغات لذيذة.
اندفع الشيخ البلاغي منذ صباه نحو الأدب واستمرّ فيه إلى آخر حياته، حتّى صار يُودِعُه كثيراً من آرائه في العقائد. ولانشغاله بشؤون الأمّة، لم يتفرّغ الشيخ لجمع أشعاره، فذهب الكثير منها أدراج الضياع، لا سيّما خلال أسفاره وتنقّلاته، فلم يَبقَ منه إلاّ القليل الذي سجّله لنا السيّد محسن الأمين العامليّ في أعيانه، كان منه قول في ذكر مولد الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السّلام في الثالث من شعبان المعظّم:
شـعبانُ كـم نَعِمَت عينُ الهُدى فيهِ لـولا الـمحرّمُ يـأتي في دَواهيهِ
وأشـرقَ الـدِّينُ مِـن أنوارِ ثالثِهِ لــولا تَـغشّاه عـاشورٌ بِـداجيهِ
وارتاح بالسِّبطِ قلبُ المصطفى فَرَحاً لـو لـم يَـرُعْه بذِكرِ الطفِّ ناعيهِ
رآه خـيـرَ ولـيِدِ يُـستجارُ بـه وخـيرَ مُـستشهَدٍ في الدِّين يَحميهِ
قَـرَّت به عينُ خيرِ الرُّسْلِ ثمّ بَكَت فـهل نُـهَنِّيه فـيهِ.. أَم نُعَزِّيهِ ؟!
إن تَـبتَهِجْ فـاطمٌ فـي يومِ مولدِهِ فـليلةَ الـطفِّ أمـسَتْ مِن بَواكيهِ
أو يَـنتَعِشْ قـلبُها مِن نورِ طَلعتِهِ فـقد أُديـلَ بِـقاني الـدمعِ جاريهِ
فـقلبُها لـم تَـطُلْ فـيه مَـسرّتُهُ حـتّى تَـنازعَ تـبريحُ الجوى فيهِ
وله عينيّة عارض فيها عينية ابن سينا، حيث قال فيها:
نَـعُمَتْ بـأن جـاءت بخَلْقِ المُبدِعِ ثـمّ الـسعادةِ أن يقولَ لها: آرجِعي
خُـلِـقَت لأنـفَعِ غـايةٍ، يـاليتَها تَـبِعَت سـبيلَ الـرُّشدِ نحوَ الأنفَعِ
اللهُ سَـوّاهـا وألـهَـمَها، فـهـل تَـنْحو السبيلَ إلى المحلِّ الأرفعِ ؟!
نَـعُمَت بـنعماءِ الـوجودِ ونُودِيَت: هـذا هُـداكِ، ومـا تشائي فاصنعي
إن شِـئتِ فـارتفعي لأِعـلى ذُروةٍ وحَذارِ مِن دَرَكِ الحضيضِ الأوضعِ!
إنّ الـسـعادة والـغنى أن تَـقنَعي مـوفورةً لـكِ، والـشَّقا أن تطمعي
فـتَـنَعَّمي، وتَــزوَّدي، وتَـهذَّبي وتَـلـذَّذي، وتـكمّلي، وتَـوَّرعي
وبـبهجةِ الـعرفانِ والـعِلم آبهجي ولِـنزعِ أطـمارِ الجهالاتِ آنْزَعي
وخُـذي هُـداكِ، فتلك أعلامُ الهدى زُهْـرٌ سَـواطعُ في الطريق المَهْيَعِ
وتَـروَّحي بـشَذى الطريقِ، وأمِّلي عُـقبى سُـراكِ إلى الجَنابِ المُمْرِعِ
وأجاب الشيخ البلاغي رحمه الله أحدَ شعراء بغداد، الذي بعث قصيدةً رائية إلى العلماء يتساءل متحيّراً أو متشكّكاً في أمر الإمام المهديّ الموعود المنتظر ( عجّل الله تعالى فرَجَه الشريف ) بقوله في صدرها:
أيا علماءَ العصرِ يا مَن لهم خُبْـرُ بكلِّ دقيقٍ حارَ في مِثلـهِ الفِكـرُ
لقد حار منّي الفكرُ في القائمِ الذي تَنازَعَ فيه الناسُ والتبَسَ الأمـرُ!
فكان من الشيخ البلاغي أن أجاب بقصيدةٍ طويلة أوّلها:
أطَعْتُ الهوى فيهم فعاصانيَ الصَّبْرُ فـها أنا ما لي فيه نهـيٌ ولا أمـرُ
إلى أن يقول:
وفـي خـبر الـثِّقْلَينِ هادٍ إلى الذي تَـنازَعَ فـيه الـناسُ والتبَسَ الأمرُ
إذا قـال خـيرُ الـرُّسْلِ: لن يتفرّقا فكيف إذن يخلو من العِترةِ العصرُ ؟!
ومــا إن تَـمسّكْتُمُ تُـنْبيكَ أنّـهم هـمُ الـسادةُ الـهادون والقادةُ الغُرُّ
أتَـحصُرُ أمـرَ اللهِ بالعجزِ، أم لدى إقـامةِ مـا لَفَّفْتَ أقعَدَك الحصرُ ؟!
فـكم فـي « ينابيع المودّة » مَنهلٌ نَـميرٌ بـه يَـشفى لـواردِهِ الصَّدرُ
وفـي غـيره كم مِن حديثٍ مُسلسَلٍ بـه يـفطنُ الساهي ويستبصر الغَرُّ
ومـن بـينِ أسفار التواريخِ عندكم يُـؤلَّف فـي تـاريخِ مـولدِهِ سِـفْرُ
وكـم قـال مِـن أعلامكم مِثلَ قولنا بـه عـارفٌ بحرٌ وذو خبرةٍ حَبْرُ!
وإن شـئتَ تـقريبَ الـمدى فَلَرُبّما يَـكِلُّ بـمضمار الـجِيادِ بك الفكرُ
وللشيخ البلاغي قصيدة عاشورائيّة تُلتدَمُ لها الصدور فضلاً عن أن تفيض لها المآقي، حيث يخاطب سيّد الشهداء أبا عبدالله الحسين صلوات الله عليه قائلاً:
يا تريبَ الخَدّ في رَمضا الطفوفْ لَـيَتني دونَـك نَـهْباً لـلسيوفْ
يـا صـريعاً ثاوياً فوق الصعيدْ وخضيبَ الشيبِ مِن فيضِ الوريدْ
كـيف تـقضي بـين أجنادِ يزيدْ ظـامياً تُسقى بكاساتِ الحُتُوفْ!
كيف تقضي ظامياً حول الفراتْ دامـياً تَـنْهلُ مـنك الـظامياتْ
وعـلى جسمِكَ تجري الصافناتْ عـافرَ الجسم لُقىً بين الصُّفوفْ!
سـيّدي أبـكيك للشيبِ الخضيبْ سـيّدي أبـكيك لـلوجهِ التَّريبْ
سـيّدي أبـكيك لـلجسمِ السليبْ مِـن حشا حَرّانَ بالدمعِ الذَّروفْ
سـيّدي إنْ مَـنَعوا عنك الفراتْ وسَـقَوا مـنك ظِـماءَ المُرهَفاتْ
فـسـنسقي كـربلا بـالعَبَراتْ وَكَـفاً عـن عَلَقِ القلبِ الأَسُوفْ
الرحيل
في الثاني والعشرين من شهر شعبان المعظم عام 1352هـ، انقلب الحال في مدينة النجف الأشرف، حين سُمع نبأ وفاة الشيخ محمّد جواد البلاغي، فخرج الناس حشوداً في حِدادٍ وعزاء، يشيّعون هذا العالم أكرم تشييع، حتّى يُدفن في إحدى غرف صحن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وحتّى تُهال عليه أكاليل من شعر الرثاء من قِبَل أعلام عصره بقصائد مؤثّرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ