قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
المقال الافتتاحي
الأمانة الأدبية
محمد طاهر محمد
من الضروري أن تتوفر في من أراد أن يؤرخ للأدب العربي أو يحقق فيه وفق المفهوم العام للأدب الشروط الكاملة التي يجب أن تتوفر في موضوع كهذا، ولا نريد هنا التوسع في هذه الشروط وبيانها فهي كثيرة وتحتاج الى موضوع مفصل وما يهمنا هنا هو بيان أهم هذه الشروط وهو الأمانة الأدبية.
عند ملاحظة الدارس لتاريخ الأدب العربي يجد أن أغلب المؤرخين والمحققين وفي جميع العصور قد جعلوا الأدب ظلاً لسياسة ذلك العصر وإن السياسة كان لها دور كبير في إسقاط وتهميش الكثير منه وبسبب هذه التبعية ظلت في تاريخنا الأدبي العام مناطق كثيرة لم تصلها الدراسة بسبب اهمال الخلفاء لها أو بعدها عنهم فأصابها الكثير من التعتيم والتشويه والتزوير فبقيت من دون اهتمام على مدى التاريخ في حين أُبرز ما هو أقل أهمية منها وأعطي ما لا يستحق من الثناء.
لقد كبّلت الرقابة السياسية التاريخ الأدبي بقوانينها المجحفة وحاصرته بتأثير العوامل الرقابية ولعل أفجع ما مُني به تاريخنا الأدبي وتراثنا الفكري هو عدم توفر الأمانة الأدبية في النقل ولسنا في حاجة الى القول أن الأمانة في النقل هي من أهم سمات المحافظة على التراث ومن أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في المؤرخ والمحقق فالنقل (الأمين) للتاريخ الأدبي يشارك الى حد بعيد في دراسة الواقع الاجتماعي والانساني ويشخص طبيعة العلاقات وأشكال القيم التي كانت تسود تلك المجتمعات الى جانب إبراز المفاهيم والحقائق التاريخية كما هي، لذا كان على المؤرخ أن ينقل الأمانة كاملة ولا يترك شاردة أو واردة حتى ولو كان ما ينقله يتعارض مع توجهاته، فالأمانة الأدبية لا تسمح بترك أو إسقاط قصيدة أو أبيات من ديوان شاعر لأنها تتلائم مع توجهات المحقق أو الشارح المذهبية بل تقتضي له أن يقوم بتحقيقه كما هو بدون إسقاط أو ترك وأن يقوم بشرح ما أراد الشاعر بدون لبس أو تمويه كما قام به عدة محققين من مجانبة الحقيقة وتهميشها و إبعادها عن مقصدها.
ويستطيع القارئ مثلاً أن يستدل على المصادر المعتبرة التي ذكرها الشيخ الأميني والتي روت أبيات حسان بن ثابت في حادثة الغدير ومع ذلك فإن القارئ يفاجأ حينما يجد أن ديوان حسان قد خلا منها وكذلك أبيات أبي نؤاس في مدح الإمام الرضا (ع) والأعجب من ذلك هو الجنف الذي أستبد ببعض المحققين والتعصب الأعمى الذي أضله فحرف الحقائق التاريخية عن مجراها كما جرى لمحقق ديوان أبي تمام حينما قال عن حادثة الغدير بأنها واقعة جرت بين المسلمين والكفار!!! ومثل هذا الحال ينطبق على الكثير من المؤرخين والمحققين لا يسع المجال لذكرهم.
إننا لو غضضنا الطرف عن المؤرخين والمحققين القدماء الذين لم يؤدوا الأمانة كاملة اللهم إلا إذا كانت تخص البلاط وحاشيته حيث تبسطوا في نقل سيرة الخلفاء والوزراء مع الجواري والقيان رغم أنها كانت مخالفة للدين والأخلاق والذوق السليم ولكن الأدهى من ذلك أن المؤرخين والمحققين المحدثين الذين جروا على نهجهم يعيشون في عصر سيطر فيه العلم الذي يعتمد على كل شاردة وواردة في رسم معالم وشخصية الانسان وبيان نفسيته ومع ذلك فقد امتنعوا عن رواية ما يكشف عن هذه النفسية ويصور أبعادها وسيرتها على حقيقتها.
من هنا على المؤرخ أو المحقق الأمين أن يكون صريحاً غير متزمت ويجب أن يكشف الستر عن كل أقوال وأفعال من يكتب أو يحقق عنه ولا يغطيها بظلال تخفي معالمها أو يزوّق لها مبررات وتمويهات تحرفها عن مقاصدها وخلاصة القول أن الأمانة الأدبية تحتم على كل من يريد تجديد كتاب قديم أن لا يتصرف فيه بزيادة أو نقصان.