قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الدين والإنسان من منظور قرآني
*محمد النجار
لو نظر أو تأمل كل إنسان إلى أي شيء في هذا الكون الرحيب لوجده متقناً ودقيقاً ومتكاملاً غاية الكمال في نفسه وفعله، ولو ضمّه إلى نوعه أو مجموعته لظهر له تكامل آخر وإتقان في الصُنع ودقةً في العمل بصورة تذهل العقول عن إدراك كنهها والإحاطة بدقائقها، وتعجز الألسن عن وصف مغزاها وحقيقتها، فكل شيء في هذا الكون مخلوق طبق حسابات دقيقة وموازين غير قابلة للخطأ. قال تعالى: "وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ" (الرعد /8)، و "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ" (النمل /88)، وهناك الكثير من الآيات القُرآنية الشريفة الدالة على دقة الصُنع والكمال في الخلقة والعمل والمسيرة.
فسُنة الكمال مترشحة في كل زاوية من زوايا هذا الكون الرحيب وهذه الزوايا والأجزاء مرتبطة فيما بينها إرتباطاً يحكم هذا الكمال لأنها مترشحة من الكمال المطلق، والكمال المطلق لا يترشح منه إلاّ الكمال، فغايته سبحانه في الخلق تتناسب مع عظمته، وهدفه في الصنع يتناسب مع كماله المطلق، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ" (الأنبياء /16).
الإنسان ومسيرة التكامل
السؤال هنا هو هل انّ الإنسان مشمول وداخل تحت هذه السنة الكونية - سنة الكمال في الأشياء - أم لا؟
من المعلوم أنه غير شاذ عن هذه السنة الكونية، وإلاّ لتنافى مع هدف وغاية الله سبحانه من الخلق المتناسبة مع عظمته وكماله المطلق.
والمهم في البحث هو أن نعرف؛ هل انّ المنهج في المسيرة التكاملية للإنسان هو نفسه في الجمادات والعجماوات أم يوجد هناك فرق؟
الجواب: شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإنسان سيد المخلوقات، فكرّمه وفضله على جميع المخلوقات، فقال عز اسمه "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء /70)، بل شاء سبحانه أن يُسخر هذا الكون في خدمة الإنسان فقال عز اسمه (ألم ترو أنّ الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض). وهناك آيات كثيرة تُشير إلى هذا المعنى، إلاّ أنّ أكثرها شمولاً قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" (لقمان /20). ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يُعطي للإنسان مرتبة أعلى من مرتبة التكريم والتفضيل، وأعلى من مرتبة تسخير الكون وخدمته له، ألا وهي: مرتبة خلافة الله سبحانه وتعالى، وهي أعلى منزلة ومرتبة في هذا الكون قد أُعطيت لهذا المخلوق – الإنسان-. قال الله سبحانه وتعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة /30). بعد هذا نعرف أنّ المسيرة التكاملية للإنسان يجب أن تتناسب مع هذه الصفات والمميزات التي اختص بها.
لكن ما هو كمال الإنسان؟
يفترق الإنسان عن جميع المخلوقات في هذا العالم بأنّ له جنبتين في مسيرته الحياتية: الأولى: الجنبة الجسدية. الثانية: الجنبة الروحية. والدليل على وجود هاتين الجنبتين في الإنسان قوله سبحانه وتعالى: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر /29)، فخلق الإنسان من طين يمثل الجانب الجسدي للإنسان، والنفخ من روح الله سبحانه يمثل الجانب الروحي له.
ولكل من هذه الجنبتين كمالها الخاص بها المقدّر والمرسوم من الله سبحانه وتعالى، فالجنبة الجسدية تمر بمسيرتها التكاملية بصورة طبيعية من دون تدخل للإنسان، وهذا الكمال لا يميز الإنسان عن غيره من العجماوات فإنها تسير بمسيرتها التكاملية الجسدية كما يسير الإنسان طبق موازين وقوانين ربانية من دون تدخل للمخلوق في منع سيرها ونموها. هذا الكمال إذن؛ ليس هو المراد، فيبقى الكمال الروحي للإنسان.
وقبل أن نخوض في غمار البحث عن ماهية الكمال الروحي وكيفية تحصيله لابدّ أن نضع بعين الإعتبار المميزات التي يتميز بها الإنسان عن غيره، ووظيفته والمسؤولية الملقاة عليه في هذا الكون حتى يكون كماله الروحي مناسباً للميزات التي يتمتع بها الإنسان، ومتناسباً مع وظيفته في هذه الحياة.
فماهية الكمال الروحي أو الكمال الإنساني يتناسب طردياً مع الوظيفة والمسؤولية الربانية (الخلافة) الملقاة على عاتق الإنسان فكلما أدى مسؤولية الخلافة بصورة أكمل كان وصوله إلى الكمال أقرب. أي كلما اقترب الإنسان من الكمال المطلق هو الله سبحانه، كلما ازداد كمالاً.
أما كيف يمكن تحصيل الكمال ؟ فهناك تفسيران: (1) الأول: وهو الذي ذكرناه سابقاً، وهو أنّ الإنسان أو وجود الإنسان أو الجماعة البشرية إنما هم خلفاء الله سبحانه وتعالى في الأرض. أما الثاني: ينظر إلى الجماعة البشرية بما هم جماعة بشرية لذلك يضع القوانين والنظم التي تُنظّم وتسيّر الحياة البشرية بما يتناسب مع هذه الجماعة البشرية ومصالحهم. وهذه النظرة للجماعة البشرية قاصرة وغير كاملة، وغير شاملة لذلك تكون معرضة للخطأ أو النقيصة، أو تكون لها فائدة آنية مترتبة عليها أضرار مستقبلية كبيرة أو تكون خادمة لطبقة معينة في المجتمع دون غيرها.
أما القوانين والقواعد الموضعة على التفسير الأول فلا تطرأ عليها هذه الإشتباهات ؛ لأن الإنسان لا يسير في مسيرته الحياتية التكاملية بما هو يُريد أن يسير وإنما يسير بما يريد الله سبحانه له أن يسير لأنه خليفة الله فيجب أن يفعل ما يريده الله سبحانه. وحيث أنّ الله سبحانه رحيمٌ بعباده لطيف خبير لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يأمرهم إلاّ ما به مصلحة لهم، فهو غني عن عباده، (خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن إطاعتهم، آمناً من معصيتهم لأنه لا تضره معصيةُ من عصاه، ولا تنفعه طاعةُ من أطاعه). (2) وإنما أراد سبحانه أن يجعل الإنسان غاية ومُنتهى في التكامل بعيداً كل البعد عن الرذائل التي تحطّه عن تفضيله وتكريمه، وتسخير الكون له. وأراد له أن يكون بمستوى العطاء الذي أعطاه الله سبحانه له (الخلافة) فرسم له الطريق القويم والصراط المستقيم لكي يوصله إلى أعلى مراتب الكمال في هذا الكون فلا تصل الكمالات الأخرى المرسومة لغيره إلى كماله فيكون أفضل منها، بل سيّدها التي تُطيعه.
إذن: فهناك منهج مرسوم من الله سبحانه وتعالى ليسير عليه البشر للوصول إلى كمالهم. هذا المنهج الرباني لتقويم البشر هو ما يُسمّى بـ (الدين). لكن ما هو الدين ؟ الدين: هو مجموعة القوانين والأحكام المُنزلة من الله سبحانه وتعالى لتنظيم حياة الإنسان وإيصاله إلى كماله. أو قُل: هو الطريق القويم والصراط المستقيم المرسوم من الله سبحانه لتقويم المسيرة البشرية. وإليك بعض خصائص هذا الدين:
1- الدين عبادة: أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الوسيلة الموصلة إلى قربه ومعرفته هي العبادة له وحده، فقال عز اسمه: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات /56)، ومن المعلوم أنّ العبادة بحد ذاتها المتكونة من حركات وسكنات غير مطلوبة، وإنما المراد الحقيقي شيء آخرعبّر عنه سبحانه بقوله: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر /99).
2- الدين هو الإسلام العالمي: لو رجعنا إلى آيات الذكر الحكيم لوجدنا أنّ المنهج الرباني (الدين) المرسوم للبشر من نزول آدم عليه السلام إلى الأرض إلى قيام الساعة هو منهج واحد متكامل. قال سبحانه: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (الشورى /13). فهذه الآية الشريفة صريحة في أنّ الدين الذي جعله الله سبحانه للبشر واحد أنزله الله و وصى به أنبياءه واحداً تلو الآخر، غاية الأمر أنّ المسيرة التكاملية للبشر تقتضي تعدد الرُسل والأنبياء ، وكل نبي يأتي بدين الله الواحد بأسلوب يتناسب مع عصره وزمانه، فدين الله واحد ولكن الأساليب في إيصاله مختلفة. هذا الدين الواحد (المنهج الرباني) هو ما يسمى بالإسلام ومن اعتنقه يُسمى مُسلماً.
3- لا إكراه في الدين: من أهم الميزات التي يمتاز بها هذا المنهج الرباني هو عدم الإكراه، فالله سبحانه وتعالى أودع في النفس البشرية خصلتي الخير والشر "(ونفسٍ ومَا سوّاها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس /7-8) ، وأودع في النفس أيضاً محفزات الخير و روادع الشر ألا ترى أنّ الإنسان الغير متدين إذا ارتكب الذنب الأول أو الجريمة الأولى يجد في نفسه وازعا خفيٍا يؤنبه ويؤلمه فقال سبحانه؟ "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (البلد /10)، أي أنرنا له الطريق في معرفة الخير ومعرفة الشر(3).
هذا من جانبٍ. ومن جانبٍ آخر امتاز الإنسان عن غيره بالرسول الباطني الذي هو العقل ليرشده إلى الصواب ويحذره من الخطأ إلى الخير والشر، ولكن لكثرة الملابسات والشبهات والمغالطات ربما يقف العقل ولا يستطيع التمييز، أو ربما يقع في الإشتباه من حيث لا يعلم فلا تتحقق الغاية الربانية من إيجاد البشر - وصولهم للكمال- فأرسل الله سبحانه وتعالى الرسول الظاهري المتمثل بالرسُل عليهم أفضل الصلاة السلام ليهدوا الإنسان إلى الصراط المستقيم.
فبعد هذه السلسلة من النعم، لا يبقى للإنسان عذر في المخالفة والجحود والكُفر، وبعد كلّ هذا يكون الخيار للإنسان في إختيار الطريق والمنهج في مسيرته الحياتية.
وبعد كل هذا ما أحلى أن يقتبس الإنسان وظيفته وعمله في هذه الدنيا من الأنبياء! وما أجمل أن يُعطي الإنسان نفسه رخيصة في سبيل إحياء الدين الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة! فمن غيره نحن أموات، ولكن نمشي على الأرض، لقد أعطانا الإسلام الدنيا بأسرها، بل الآخرة، بل الكون بأسره جعله في خدمتنا وتحت قبضتنا، فما أرخص النفوس تجاهه! لقد وضّح لنا معنى الإنسانية بما لها من فضل وسمو وسيادة وتكريم وكرامة.
ــــــــــــــــ
هوامش:
(1) الإسلام يقود الحياة / محمد باقر الصدر.
(2) نهج البلاغة لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السلام: خطبة رقم 193 (في صفة المتقين).
(3) تفسير شبر / ص524 مؤسسة الأعلمي ـ بيروت لبنان.