قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الخليل بن أحمد الفراهيدي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة حيدر ناصر
روى ابن خلّكان في كتابه (وفيات الأعيان) إن (الخليل بن أحمد الفراهيدي اجتمع مع عبد الله ابن المقفّع ليلة يتحدثان حتى الفجر فلما إفترقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفّع؟ فقال: رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله، وقيل لأبن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ قال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه).
من يطالع تاريخ حياة هذين العلمين يجد أنه كان كلاهما صادقاً في مقولته، فقد غلب علم ابن المقفّع عقله فقاده الى الخوض في الصراع بين أفراد الأسرة العباسية الحاكمة في عهد المنصور فقتل شر قتلة وهو في ريعان الشباب أما الخليل فقد عاش زاهداً بعيداً عن قصور الخلفاء والولاة مترفعاً عن التكسب على موائدهم منشغلاً في طلب العلم ليل نهار متفرغاً لاستنباط المسائل العلمية فعاش سبعين سنة استطاع خلالها أن يضع أول معجم لغوي هو معجم (العين) فكان أول معجم عربي ظهر الى الوجود وقد اعتمده العلماء واللغويون ونسج على منواله كبار اللغويين والموسوعيين كما استطاع أن يضع علم العروض في الشعر الذي استخرج منه خمسة عشر بحراً ومن خلال ذلك استطاع ضبط أوزان هذه البحور ووزنها على المقاطع والحركات لمعرفة صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها وما يعتريها من الزحافات والعلل، كما نبع الخليل أيضاً في علوم العربية نبوغاً لم يدركه أحد في عصره فكان أول من وضع الشكل المستعمل الآن في ضبط الحروف كما كان سيد أهل الأدب في تصحيح القياس واستخراج النحو وتعليله وهو استاذ سيبويه وملهمه وقد اعتمد سيبويه كلياً على آرائه في وضع كتابه المشهور كما اعترف في أكثر فصول (الكتاب) بأنه تلقاه عنه وتعلمه عليه ويصل السند الذي تلقى عنه الخليل الى أبي الأسود الدؤلي الذي لُقّن علوم العربية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) كما سيأتي. عاش الخليل طوال حياته منصرفاً الى طلب العلم واستنباط المسائل العلمية وبينما هو مستغرق في التفكير في طريقة تيسر استخدام الحساب لعامة الناس بحيث تمضي الجارية الى البائع فلا يمكنه أن يظلمها دخل المسجد وهو يجهد فكره في هذه الفكرة فاصطدم بسارية صدمة شديدة أرتجّ منها دماغه فوقع وفارق هذا العقل الكبير الحياة.
ولد أبو عبد الرحمن الخليل ابن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي اليحمدي في البصرة عام 100 للهجرة – 718 م ونشأ في مجالس البصرة العلمية وتلقى العلم على يد علمائها الكبار أمثال أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وغيرهم من رجال الطبقة النحوية الثانية كما عكف على القراءة والدراسة فجمع أشعار العرب وقرأها ورتبها حسب أنغامها وجمع كل مجموعة متشابهة ووضعها معاً فكان يقضي الساعات في ضبط أوزان ما ينطق به الشعر وتنسيقها وهو ذاهل عن نفسه يرفع أصابعه ويحركها بحركات إيقاعية فدخل ابنه عليه وهو في هذا الحال فظنه جُن فخاطبه الخليل قائلاً:
لو كنتَ تعلمُ ما أقول عذرتني أو كنتَ تعلمُ ما تقول عذلتكا
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني وعلمتُ أنك جاهل فعذرتكا
حتى تمكن الخليل من وضع علم العروض الذي يرجع الفضل له في وضع أسسه فاستطاع ضبط أوزان خمسة عشر بحراً يقوم عليها الشعر حتى الآن وقد قام الأخفش الأوسط (توفي 830 م) بزيادة في بحر الخبب (المتدارك) فصارت ستة عشر بحراً. وإضافة الى علم العروض الذي أسسه الفراهيدي فقد وضع أيضا معجم (العين) وكان الهدف من وضعه هو من أ جل ضبط اللغة وحصرها فجمع ما كان معروفاً في أيامه من ألفاظ اللغة وأحكامها وقواعدها متبعاً في ذلك الخطوات العلمية المدروسة فبدأها بترتيب الحروف ثم قسّم الأبنية وتقليب اللفظة على أحد أوجهها، بعد ترتيبه للحروف قام بالإتجاه للغة والتي تتكون مادتها من هذه الحروف وقد وجد الفراهيدي أن كلام العرب مبني على أربعة أصناف: الثنائي، الثلاثي، الرباعي، الخماسي وإنه لا يوجد في اللغة العربية بناء يقل عن الثنائي أو يزيد على الخماسي ثم انتقل بعد ذلك الى الأبينة فوجد بها الصحيح والمعتل وفرق بينهما في كل بناء فقام بتقسيم الأبينة على هذا الأساس: ثنائي صحيح، وثلاثي صحيح وثلاثي معتل وثلاثي صحيح وثلاثي لفيف ورباعي صحيح وخماسي صحيح ورباعي وخماسي معتلين ثم انتقل بعد البناء الى فكرة التقليب حيث وجد أنه إذا أخذ كل بناء من الأربعة وقلبه على جميع أوجهه الممكنة حصل على وعاء يضم جميع ألفاظ اللغة. بعد انتهاء الخليل من هذه البحوث اللغوية قام بتطبيق منهجه وأشار في شروحه الى القلب والنحت والأضداد والمعرب كما عالج الكثير من المسائل النحوية وأعتمد شواهد نثرية وشعرية وقرآنية كما عني باللهجات واللغات. وقد حرص الخليل على النهل من أكبر قدر من العلوم مما أهّله لأن يصبح أستاذ عصره في البصرة وتلقى العلم على يديه الكثير من الطلاب الذين أصبح لهم شأن عظيم في اللغة مثل: سيبويه والكسائي والنضر بن شميل والأصمعي وغيرهم ويعد سيبويه من أعظم تلامذة الخليل وهو صاحب (الكتاب) المشهور الذي سمي بأسمه والذي جمع فيه ما درسه وما رواه عن أستاذه الخليل وقد درس الخليل على يد رجال الطبقة الثانية كما ذكرنا وتلقى رجال هذه الطبقة عن تلامذة أبي الأسود الدؤلي يحي بن يعمر ونصر بن عاصم والأخفش الأكبر وعنبسة وميمون الأقرن وكل هؤلاء يسندون الى ابي الأسود وأبو الأسود يسند الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المؤسس الأول لعلوم العربية، ولنعد الى الخليل كان الخليل شديد الورع عاش زاهداً فقيراً كان يقيم في خصّ من أخصاص البصرة وكان على سعة علمه متواضعاً قال عنه سفيان بن عيينة: (من أحب أن ينظر الى رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر الى الخليل بن أحمد) وقال عنه تلميذه النضر بن شميل: (أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه وهو في خصٍّ لا يقدر على فلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال) لكن الخليل كان غنياً بعقله الذي هو أفضل ما قسم الله للمرء كا يقول في بعض أبياته:
وأفضل قسم الله للمرء عقله فليس من الخيرات شيءٌ يقاربُه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقه وضرائبُه
يعيش الفتى بالعقل في الناس أنه على العقل يجري علمه وتجاربُه
ومن كان غلاباً بعقل ونجدة فذو الجد في أمر المعيشة غالبُه
يزين الفتى في الناس صحة عقله وإن كان محظوراً عليه مكاسبُه
ويزري به في الناس قلة عقله وإن كرمت أعراقه ومناسبُه
ومما يروى عن زهده أن سليمان بن حبيب بن أبي صفرة والي فارس والأهواز كان يدفع له راتباً بسيطاً يعينه به فبعث إليه برسول يستدعيه إليه لتعليم ابنه فرفض ذلك ثم قدم للرسول خبزاً يابساً وقال له: كُل فما عندي سواه وما دمت أجده فلا حاجة بي الى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه؟ فقال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ وفي غنىً غير أني لستُ ذا مالِ
سخّى بنفسي أني لا أرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حالِ
وإن بين الغنى والفقر منزلة مخطومة بجديد ليس بالبالي
الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتالِ
إن كان ضنّ سليمان بنائله فالله أفضل مسؤول لسؤّالِ
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالِ
فقطع عنه سليمان الراتب فارسل إليه الخليل قائلاً:
إن الذي شقّ فمي ضامن للرزق حتى يتوفاني
حرمتني خيراً قليلاً فما زادك في مالك حرماني
فلما بلغ ذلك سليمان اضطربت نفسه وكتب الى الخليل يعتذر إليه وأعاد له راتبه فأنشد الخليل:
وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت منها التعجّب جاءت من سليمانا
لا تعجبن لخير زل عن يده فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
وكان كثيراً ما يردد بيتاً للأخطل وهو:
وإذا أفتقرت الى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمالِ
وللخليل إضافة الى كتابه (العين) كتب أخرى أهمها: (معاني الحروف)، و(جملة آلات العرب)، و(تفسير حروف اللغة) و (العروض) و(النقط والشكل) وغيرها.
وتوفي الخليل في البصرة سنة 170 للهجرة – 786 م.