قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى أول شهيد من علماء الدين
(الشهيد الأول) .. اشعاع من جبل عامل
*إعداد / عبد الجبار محمد
خضعت منطقة جبل عامل ومعها بلاد الشام في بداية القرن السادس للغزو الصليبي فساءت فيها الأوضاع العلمية والثقافية، واستمرت الحالة متردّية في ظل الحكم المملوكي (العثماني)، حيث سادت الأمية والفقر، وتفشّت المشاكل الاجتماعية، واقتصرت الحركة العلمية على بعض (الكتاتيب) وهي اشكال مصغرة من المدارس. في ظل هذه الأوضاع، ولد عالمنا الجليل الشيخ محمد بن مكّي العاملي الملقّب بـ (الشهيد الأوَّل)، وكانت ولادته في القرن السابع الهجري في سنة 734هـ، في قرية جزين، من قرى جبل عامل.
ترعرع الشهيد الأوَّل في بيتٍ من بيوت العلم والدين، وتلقى في قريته مبادئ العلوم العربية والفقه، وكان يجالس العلماء ويشارك في الندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف عامل، وفي المدارس والمساجد والبيوت، كما أنّه أسهم في المحاورات العلمية التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاب أو بين الطلاب أنفسهم، حتى كان له فيما بعد آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافته الشخصية وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.
التطلّع الى آفاق العلم
لم يكتفِ الشهيد الأوَّل بثقافته التي تلقَّاها في مدينة جزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أخرى للارتقاء نحو سلّم العلم والمعرفة، فشد الرحال إلى الحلّة وكربلاء وبغداد، ومكة المكرمة والمدينة المنوّرة، والشام والقدس، وهذه المدن كانت من أهم مراكز التوعية الدينية يوم ذاك، ولا سيّما الحلَّة التي تكرَّر سفر الشهيد الأوَّل إليها، حيث تلقَّى العلوم فيها على يد كبار شيوخها المرموقين، أمثال فخر المحقّقين ابن العلامة الحلّي.
لم يمنعه انتماؤه المذهبي إلى أهل البيت(ع) من أن يتعرَّف على ثقافة أهل السنّة بعد أن بلغ مرحلة متقدّمة من العلم، فاطّلع وناظر وحاجج في أجواء علمية رحبة، ونظر في ألوان مختلفة من الفكر، وارتاد مختلف مراكز الحركة العقلية في البلاد الإسلامية، وجالس العلماء والأساتذة، فاستفاد وأفاد، ويكفي في ذلك قول أستاذه فخر المحققين فيه: لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي أكثر مما استفاد مني!
لم يقتصر تعليم الشهيد الاول على الاجواء الشيعية، إنما قصد الفريق الآخر ليزيد من اطلاعه ومعرفته وبالنتيجة يتمكن من خدمة الشريعة السمحاء ويصونها من الانحراف، فضلاً عن انه درس عند ابن معية وعميد الدين وضياء الدين من علماء الحلّة، وعند قطب الدين الرازي، والسيد عميد الدين عبد المطلب الحسيني الحلّي شارح (تهذيب) خاله العلاّمة في الأصول المعروف بالعميد، وأخوه السيد ضياء الدين عبد الله الحسيني الحلي، وقطب الدين محمد بن محمد البويهي شارح (الشمسية)، فانه يروي عن أربعين شيخاً من أهل السنَّة، من جملتهم الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف القرشي الشافعي الكرماني الراوي عن القاضي عضد الدين الأيجي وولده زين الدين أحمد بن عبد الرحمن العضدي.
جبل عامل أولاً
من محاسن جبل عامل أنها أنجبت عباقرة في العلم والمعرفة صبّوا جلّ طاقاتهم وعصارة ما اكتسبوه من علوم ومعارف اسلامية في مناطقهم التي ترعرعوا فيها، وفي الوقت نفسه لم يبخلوا على باقي المسلمين، فوصلت مؤلفاتهم وبحوثهم وانجازاتهم العلمية والفكرية والثقافية الى شتى البلاد الاسلامية. لذا نجد شهيدنا العزيز والكبير قد جعل من بيته ندوةً عامرةً لأصحاب الفضل والأدب وطلاّب المعرفة من مختلف الأقطار المجاورة، وكان بيته لا يخلو من الزائرين وأصحاب الحاجات، إذ أصبح ملجأهم كما أصبح ملجأ العلماء في التدريس، ولكن درسه وتدريسه في الفقه والأصول والرجال والحديث والعقليات والأدب، لم يمنعه من أن يوطّد علاقته ببعض السياسيين والتخطيط لعلم نهضوي يقوم به من خلال مركزه العلمي والاجتماعي في جبل عامل. ومن ذلك علاقته الوطيدة مع سلطان خراسان في ذلك الحين علي بن المؤيد، الذي استدعاه لمؤازرته للقضاء على ظاهرة (الدراويش) التي كان يرأسها (البهلوان حسن الدامغاني)، والتي كانت لديها مفاهيم خاطئة عن التشيع، فكانوا يأخذون بمظاهر التشيع أكثر مما يأخذون بحقائقه، فالتشيّع عندهم – الدراويش- مجرد موالاة لا يرتكز على قواعد معينة. ولكن شهيدنا الكبير اعتذر عن تلبية الطلب، وحسب ما يورده صاحب (أعيان الشيعة) فان أهم سبب لهذا الاعتذار هو افتقار جبل عامل للعلماء، والسبب الآخر الذي لا يقل أهمية عن الأول؛ هو محاربة العقائد الفاسدة التي كانت تسود في مجتمع جبل عامل آنذاك، ومنها قصة (محمد اليالوشي)، الذي ظهر في جبل عامل وادعّى النبوَّة، وهو من قرية تسمى (برج يالوش)، فحاربه الشهيد وقضى عليه إبان سلطنة برقوق.
وفوق ذلك، كان الشهيد يلقى أذى متواصلاً ومريراً، ولكن ذلك لم يثنه عن المضي قدماًً في تحقيق طموحاته فأحدث نهضة في عالم الفقه وغيره من العلوم، وفتح أول مدرسة فقهية في جبل عامل وهي (مدرسة جزين)، فأصبحت طليعة النشاط الثقافي الشيعي، وقد قدّر لهذه المدرسة أن تخرّج عدداً كبيراً من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين فيما بعد.
مؤلَّفـاتـه:
تجاوزت مؤلفات الشهيد الأوَّل العشرين، كما أحصاها صاحب أعيان الشيعة، وفي مقدمتها (اللمعة الدمشقية) وهو الكتاب الصغير في حجمه، الغني في محتواه، يضم الأحكام الاسلامية، ضمن قواعد رصينة، وهو اليوم يُعد من أهم المراحل الدراسية في الفقه تعتمده الحوزات العلمية في كل مكان. وجاء من بعده الشيخ زين الدين الجبعي العاملي جاء ليكتب شرحاً وافراً على هذا الكتاب ليكون المعين الذي لاينضب لطلبة الحوزة العلمية والباحثين عن علوم اهل البيت عليهم السلام. علماً ان الشيخ العاملي (الثاني) التحق بركب الشهداء، ليكون (الشهيد الثاني) في مسيرة علماء الدين المجاهدين. اما سائر مؤلفات الشهيد الاول فهي: الدروس الشرعية في فقه الإمامية، شرح التهذيب في أصول الفقه، اللمعة الدمشقية، الرسالة الألفية في الصلاة، الرسالة النفلية في الصلاة، ورسالة تشتمل على مناسك الحج، وهي رسالة مختصرة جامعة، ورسالة في التكليف وفروعه، ورسالة في الباقيات الصالحات، كتاب الذكرى، جامع البين في فوائد الشرحين، البيان في الفقه لم ينجز بأكمله، شرح أربعين حديثاً.
الشهادة وسام أرفع من المناصب
كان بامكان (الشهيد الأول) الاستجابة للعروض التي وصلته من الدولة العثمانية بتعيينه في مناصب رسمية مرموقة، لكنه رفضها جميعاً، مفضلاً البقاء بين ابناء مجتمعه ومواصلة جهاد العلم والفكر لتكريس قواعد الدين وجعله منيعاً على الانحرافات والتضليل. ولعلنا إن نجد هنالك من منعة وحماية ذاتية في مبادئنا وتشريعاتنا من الاختراق، فهو بفضل علماء مجاهدين من أمثال الشيخ محمد بن مكي العاملي. هذا النهج دفعه يوماً ليكون أمام القدر المحتوم، ويناظر مخالفيه فيفحمهم ويسكت تخرصاتهم. فتكون نهايته من هذه البداية.
ينقل السيد محسن الأمين في ترجمته للشهيد الأول في (أعيان الشيعة)، حكاية الشهادة التي كانت فيها خاتمة عمر عالمنا الكبير، فقد جرت مناظرة بين شخص يدعى (ابن جماعة) وبين الشهيد الشيخ العاملي، وكانا متقابلين وأمام الشهيد دواة يكتب بها وكان الشهيد صغير الجثة وابن جماعة كبيرها، فقال ابن جماعة تحقيراً له: (إني اسمع حساً من وراء الدواة ولا أرى شخصاً ...) فقال له الشهيد: (ان ابن الواحد لا تكون جثته اعظم من هذا)! وهذا الجواب ينم عن الأخلاق العالية التي كان يتمتع بها الشهيد (رحمه الله) وسرعة البديهية التي يمتلكها، فقد حقيقة الطرف المقابل البعيد عن الدين والاخلاق، فشقّ عليه ذلك فوشى به إلى والي دمشق (بيدمر) علماً انه كانت تربطه بالشيخ العاملي علاقة وطيدة، فكتب محضراً يشتمل على مقالات شنيعة بحق الشهيد الأول، وشهد بذلك جماعة كثيرة وكتبوا عليه شهادتهم، وثبت ذلك عند قاضي صيدا، ثم أتوا به إلى قاضي الشام، فسجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلما ضجَّ الناس خاف (بيدمر) من ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذ الشهيد الأوّل، فحاول التعجيل بقتله، فقدّم وقتل، فكانت شهادته في سنة 786هـ.