قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الإتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم (القسم الثاني)
شمولية الخطاب وشروط الجهاد
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة بقلم: سماحة السيد محمود الموسوي
الأساس الثاني: شمولية المسؤولية في الخطاب القرآني
لكي تتحقق الحالة الإصلاحية والتربوية والرسالية في التفسير، لابد أن يعتمد على أساس أن القرآن الكريم ذو خطاب يتسع إلى العصور كافة، ويشمل الإنسان الذي يؤمن به في كل الأزمان، حتى يتفاعل مع هداه وبصائره ويسعى إلى الإلتزام بها وتمثلها في واقعه، فلا يكفي أن ننظر إلى طبيعة المادة بأنها مادة حيوية، وأن القرآن كتاب حياة، كما هو الأساس الأول، بل لابد من الأساس الثاني الذي يكمل الفكرة ويحكم الصفة ويحقق الغاية، لهذا نجد أن سماحة السيد المدرسي في تفسيره ينطلق من هذه الفكرة الاستيعاب، حيث يقول: (إن القرآن لم ينزل لجيل واحد أو لقرن معيَّن، بل هو كلام الله العظيم الذي يمتد مع الزمن من يوم أنشأه الله إلى يوم يرث الأرض ومن عليها، ويمتد مع البشرية من يوم نزل من السماء مكملاً لرسالات الله وحتى يوم البعث، لذلك فإنه كتاب يسع الجميع ولا يسعه أحد)1.
والتدليل على هذا الأساس من أجلى مواطن الإستدلال، سواء بآيات القرآن الكريم نفسه أو بالروايات الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) أو حتى من خلال معطيات العقل، الذي يرى أن حصر بصائر القرآن الكريم على جيل واحد يعطل القرآن عن فعاليته، ويناقض غايات القرآن وإعجازه، ويتنافى وخاتمية الدين الإسلامي.
فمن القرآن الكريم، قوله تعالى: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل/ 89)، فهذا يدل على أن القرآن فيه تبيان لكل شيء، أي شمول أحكامه ومناهجه واستيعابها لاحتياجات المسلمين في أي زمان ومكان، ومهمة القرآن أنه يخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور، قال عز وجل: "الَر. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (إبراهيم/ 1)، فلم تكن خاصية الاهتداء بالقرآن الكريم محصورة على الجيل الأول للإسلام، بل هو للناس كافة إلى يوم القيامة.
ومن الحديث فقد جاءت الروايات الكثيرة التي تشير إلى حقيقة استيعابية الخطاب القرآني وشمول المسؤولية للعصور كافة، نذكر منها: عن الرضا عن أبيه عليهما السلام قال: أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة.2
وعن الحارث الأعور قال: (دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقلت: يا أمير المؤمنين (ع): إنّا إذا كنّا عندك سمعنا الذي نسدّ به ديننا، وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة لا ندري ماهي. قال (ع) أوَ قد فعلوها. قلتُ: نعم. قال (ع): سمعت رسول الله (ص) يقول: أتاني جبريل فقال: يا محمد سيكون في أمتك فتنة. قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله فيه تبيان ما قبلكم من خبر، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، من وليه من جبار فعمل بغيره قصمه الله، ومن التمس الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم لا تزيّفه الأهواء ولا تلبسه الألسنة، ولا يخلق عن الرد ولا تنقضي عجائبه..)3.
التذكر عبر القصص القرآنية
بعد أن بيّنا أن ماهية المادة القرآنية ماهية محيية وهادية ومربية للإنسان، وأن خطاب القرآن وتوجيهه يشمل الناس كافة ويلزمهم المسؤولية في العصور كافة، وهما البعدان اللذان اعتمد عليهما تفسير من هدى القرآن في تأسيس مجاله الإصلاحي والتربوي والرسالي، يستدعي منا الحديث عن أن للقرآن أساليب عديدة في توجيه خطابه الحي للناس كافة، ومن تلك الأساليب هو الأسلوب المباشر في التوجيه عند قوله: "يا أيها الناس" و "يا أيها اللذين آمنوا" وكل خطاب يحتوي على ألفاظ أو صيغ الأمر والنهي والتوجيه، وتارة يكون بطرق غير مباشرة، أي بالحديث عن أشخاص آخرين لنستلهم منه البصائر للحياة المعاصرة، وأبرز مثال هو القصص القرآني، وهذا المنهج الذي اتبعه سماحة السيد المدرسي في التفسير من أجل استنباط الأفكار والبصائر من القرآن الكريم بشكل واسع، أي أن الآيات الواردة في الأنبياء والأولياء والتي تحكي معاناتهم وتعاملهم وتعامل أعدائهم وغيرها، هي بصائر يستفاد منها في كل عصر، كما قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (يوسف/ 111).
وحول هذه الخاصية يقول السيد المدرّسي: (لأن الله أراد لهذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في محتواه أن يكون تبياناً لكل شيء يهم الإنسان في حاضره ومستقبله، وفي دنياه وآخرته، ويرسم له مناهج الحياة في أبعادها المختلفة، في الشؤون الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية..
ولقد يسّر ربنا القرآن إذ جعله عربياً مبيناً، وأنزله في أرفع الأساليب البلاغية والنفسية والعقلية فإذا به الحكمة البالغة، والقصص القرآني التي تبلغ (?? %) من عموم آياته تقريباً هي من أبرز معالم منهجه في تيسير التذكرة، لذلك تجد الآية الكريمة "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر/ 17) تتكرر في هذه السورة بعد كل قصة مباشرة، وهي قصص واقعية بتفاصيلها التي تعرَّض لها القرآن"4.
ومن ناحية تطبيقية نجد أن تفسير من هدى القرآن الكريم استفاد في مجاله الرسالي من القصص القرآني بشكل كبير، فالآيات التي تتكلم عن الأنبياء كموسى وعيسى وإبراهيم ونوح وصالح وغيرهم، يجريها على أمر القيادة الربانية التي تأتي بعد الأنبياء من ناحية تسلسلية كالأئمة وكالعلماء بالكتاب القائمين به والشاهدين عليه، وهكذا في سائر الأحداث التي جرت على الأنبياء والرسل، وسوف نعرض ذلك بشيء من التفصيل في هذا البحث.
ويتبع ذلك المنهج أسلوب القرآن الكريم أسلوب الحديث عن النبي (ص) مثلاً ولكنه لا يقصد النبي خاصّة، وإنما يعني المتلقي على مر الزمن، خصوصاً ما يأتي في مورد العتاب، فهو منفي عن مقام النبوة، فقد جاء عن ابى عبد الله عليه السلام قال: "نزل القرآن باياك اعني واسمعي يا جارة"5.
هل المسؤولية لقوم دون آخرين؟
نسوق هنا دعماً لجملة الأفكار المنهجية التي عرضناها سابقاً، مثالاً تطبيقياً من إمام معصوم، يحتوي على الجانب الشمولي والحيوي للقرآن الكريم بشيء من التفصيل، ولأن الرواية طويلة ومفصلة، فإننا نأتي بالمقاطع التي تخدم سياق البحث منها، وسوف نعلق على موضع الحاجة في آخرها.
علي بن إبراهيم6، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم أم هو مباح لكل من وحّد الله عز وجل وآمن برسوله (صلى الله عليه وآله) ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عز وجل و إلى طاعته وأن يجاهد في سبيله؟ فقال: ذلك لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم بذلك إلا من كان منهم، قلت: من أولئك؟ قال: من قام بشرائط الله عز وجل في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل ومن لم يكن قائما بشرائط الله عز وجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد، ولا الدعاء إلى الله حتى يحكم في نفسه ما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد. قلت: فبين لي يرحمك الله..
قال: إن الله تبارك وتعالى أخبر نبيه في كتابه، الدعاء إليه ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضا ويستدل بعضها على بعض فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتباع أمره فبدأ بنفسه فقال: "وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس/ 25).. ثم ثنى برسوله فقال: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل/ 125) يعني بالقرآن ولم يكن داعياً إلى الله عز وجل من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر به في كتابه والذي أمر أن لا يدعى إلا به، وقال: في نبيه) صلى الله عليه وآله(: "َإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الشورى/ 52) يقول: تدعو، ثم ثلث بالدعاء إليه بكتابه أيضا تبارك وتعالى: "إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" أي يدعو "وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الاسرء/ 9)، ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران/ 104) ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي وأنها من ذرية إبراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط الذين وجبت لهم الدعوة، دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا الذين وصفناهم قبل هذا في صفة أمة إبراهيم (عليه السلام) الذين عناهم الله تبارك وتعالى في قوله: "أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف/ 108)، يعني أول من اتبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء به من عند الله عز وجل من الأمة التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط ولم يلبس أيمانه بظلم وهو الشرك.. ثم ذكر أتباع نبيه (صلى الله عليه وآله) وأتباع هذه الأمة التي وصفها في كتابه، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلها داعية إليه وأذن لها في الدعاء وإليه فقال: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (الانفال/ 64) ثم وصف أتباع نبيه (صلى الله عليه وآله) من المؤمنين فقال عز وجل: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ) (الفتح/ 29)، وقال: "يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ" (التحريم/ 8)، يعني أولئك المؤمنين، وقال: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" (المؤمنون/1)، ثم حلاهم ووصفهم كيلا يطمع في اللحاق بهم إلا من كان منهم فقال فيما حلاهم به ووصفهم: "الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ - إلى قوله - أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون/ 2-11)، وقال في صفتهم وحليتهم أيضا: "الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً" (الفرقان/ 68-69)، ثم أخبر أنه اشترى من هؤلاء المؤمنين ومن كان على مثل صفتهم "أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ" (التوبة/ 111)، ثم ذكر وفاءهم له بعهده ومبايعته فقال: "وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" فلما نزلت هذه الآية: "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ" ... فلما نزلت هذه الآية: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" (الحج/ 39) في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم أحل لهم جهادهم بظلمهم إياهم واذن لهم في القتال.
فقلت: فهذه نزلت في المهاجرين بظلم مشركي أهل مكة لهم فما بالهم في قتالهم كسرى وقيصر ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟ فقال: لو كان إنما اذن لهم في قتال من ظلمهم من أهل مكة فقط لم يكن لهم إلى قتال جموع كسرى وقيصر وغير أهل مكة من قبائل العرب سبيل لأن الذين ظلموهم غيرهم وإنما اذن لهم في قتال من ظلمهم من أهل مكة لاخراجهم إياهم من ديارهم وأموالهم بغير حق ولو كانت الآية إنما عنت المهاجرين الذين ظلمهم أهل مكة كانت الآية مرتفعة الفرض عمن بعدهم إذ لم يبق من الظالمين والمظلومين أحد، وليس كما ظننت ولا كما ذكرت ولكن المهاجرين ظلموا من جهتين: ظلمهم أهل مكة بإخراجهم من ديارهم وأموالهم فقاتلوهم بإذن الله لهم في ذلك، وظلمهم كسرى وقيصر ومن كان دونهم من قبائل العرب والعجم بما كان في أيديهم مما كان المؤمنون أحق به منهم فقد قاتلوهم بإذن الله عز وجل لهم في ذلك وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان وإنما أذن الله عز وجل للمؤمنين الذين قاموا بما وصفها الله عز وجل من الشرائط التي شرطها الله على المؤمنين في الإيمان والجهاد ومن كان قائماً بتلك الشرائط فهو مؤمن وهو مظلوم ومأذون له في الجهاد بذلك المعنى... فمن كانت قد تمت فيه شرائط الله عز وجل التي وصف بها أهلها من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما أذن لهم في الجهاد لأن حكم الله عز وجل في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والأولون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء الفرائض عما يسأل عنه الأولون ويحاسبون عما به يحاسبون....
استخلاص منهجي من الرواية
نستخلص من الرواية الآنفة الذكر أمراً بالغ الأهمية، وهو يتصل بالمنحى المنهجي في فهم النص القرآني ومدى شمولية دعوة القرآن الكريم للأولين وللآخرين، فلم يأت لزمان دون زمان ولا لقوم دون قوم، وإنما هي شروط قد انطبقت على الأولين وكانوا هم أول مصداق لها وأول موضوع خارجي انطبقت عليه الآية، فإذا استحكمت الشروط في الآخرين في أي زمان قادم، فإن التوجيه يلحقهم، والمسؤولية تلزمهم.
فالذي نستجليه من الرواية، يصب في المنحى المنهجي الذي نحن بصدده، فإن الإمام استفاد من الآيات واستدل بها على الوقائع والمستحدثات في كل زمان وجعل إيحاءات الآيات مستوعبة للوقائع المستحدثة، وقد قال (وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان)، برغم أن الآيات التي استدل بها الإمام كانت مختلفة الوقائع..
من الجدير بالذكر هنا أن نشير إلى التفاتة مهمة في مسألة (أسباب النزول)، تلك المفردة التي تداول تسميتها وقصد بها الواقعة التي نزلت فيها الآية، فشاعت عند علماء التفسير وتداولوها في مباحث علوم القرآن باسم سبب النزول، وهنا يختلف السيد المدرسي في فهمه للواقعة الأولى التي كانت وعاء للآيات النازلة، فلا يسميها (سبباً) كما هو السائد، وذلك لأن السبب إنما يسمى سبب، لأنه هو الداعي لنزول الآية، فالواقعة هنا ستصبح سبباً، فسيكون لولاها لما نزلت الآية، وهذا خلاف الواقع، وإنما يسمي سماحته الواقعة مصداقاً من مصاديق الآية وتأويلاً تأولت فيها7.
هوامش:
1- بحوث تمهيدية في مقدمة تفسير من هدى القرآن الكريم ج1، ص36
2- بحار الأنوار، ج2 ص281
3-بحار الأنوار، ج89، ص24
4- من هدى القرآن، ج10، ص 93
5- تفسير العياشي، ج1، ص11
6- الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 - ص 13 – 18
7- انظر تفسير من هدى القرآن، في بداية تفسير سوة عبس، ج12/ ص29