قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

رقية بنت الحسين .. الثائرة بالدموع
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة من يتجول بين أزقة الشام القديمة والقريبة من (الجامع الاموي) تسافر به الذاكرة إلى الزمن البعيد، فيكاد تلغى المسافات والعصور وتطوى سجلات الزمن وتُقلب أوراق التاريخ. ان الآجر الذي بنيت به البيوت القديمة هناك، ما تزال تحتفظ بآثار الماضي العتيق وتنبعث منه رائحة السنين المحروقة، وحكايات طويلة عاشها أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله مع جبابرة العصر الأموي وبطشهم وسفكهم للدماء وايضاً كذبهم وتزويرهم للحقائق.
وبين تلكم الازقة يرقد بسلام جثمان طاهر لروح مطمئنة، تشكل أحد الرموز المعطاءة التي خرجتها مدرسة الطف، ورغم بعد السنين ومرور العصور والدهور، فان ذكرى تلك الرموز تلهب المشاعر كلما أقتربنا من شهري محرم وصفر، حكمةٌ ارادها الله سبحانه بأن تكون نبراساً خالداً لبني البشر. انه مرقد السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام) التي تحمل إحدى الوقائع المؤلمة في نهضة الامام الحسين عليه السلام. ربما هي رديفة لقصة الرضيع الذبيح عطشاناً في حجر أبيه، لكن (رقية) حكاية خاصة لسانها الدموع الساخنة وبراءة الطفولة أمام سلطان ظالم وقاسي القلب.
ربما نتمكن من تلخيص قصة رقية سلام الله عليها – اليتيمة الصغيرة- بكلمات: يقظه مفزعة من النوم مصحوبه ببكاء، ثم المطالبة بالأب المقتول، ثم تسكين المشاعر والتهدئة. من اجل عودة الامور الى طبيعتها لا نحتاج سوى الى دقائق من التصرف الحكيم مع تفهّم عميق للمشاعر وجبر للخاطر واساليب اخرى للتهدئة. لكن الذي حصل نقيض المشاعر الانسانية تماماً وعكس الحكمة والعقل والعاطفة. طفلة صغيرة فقدت أباها وهي لا تعي من الحياة الكثير، ثم تطالب به ليحنو عليها ويزيل ما أثقله الظالمون من الضرب والاعتداء والقسوة خلال مسيرة السبي، فيؤتى لها برأسه المدمى بضرب السيوف ويوضع امامها لعلها تسكت وتقنع حسب منهج وتربية يزيد بن معاوية – لعنة الله عليهما- ، ولتكون هذه المناسبة الأليمة وهذا الموقف المثير درساً للآباء والامهات وكل المربين، وهم يتعاملون مع الصغار لاسيما الايتام منهم.
المولد والإسم الجميل
يبدو من مجمل التواريخ أن السيدة رقية عليها السلام ولدت ما بين عام (57 هـ و58 هـ) في مدينة جدها رسول الله، و وفاتها في (5 صفر 61 هـ) في خربة الشام. بمعنى انها سلام الله عليها توفيت في ذلك الموقف المؤلم وهي بين الثالثة والرابعة من العمر.
وقد ورد ذكرها في كتب أرباب المقاتل في واقعة كربلاء: حيث ناداها الإمام الحسين عليه السلام ونطق بإسمها في أكثر من موضع وحادثة، وخصوصاً في الساعات الأخيرة من عمره الشريف عندما أراد أن يودّع أهله وعياله نادى بأعلى صوته: (يا أختاه! يا أم كلثوم، وأنت يا زينب، وأنتِ يا رقية، وأنتِ يا فاطمة، وأنتِ يا رباب، أنظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليّ جيباً، ولا تخمشن عليّ وجهاً، ولا تقلن عليّ هجراً).
أما عن (رُقية) في اللغة، فهو تصغير (راقية) بمعنى المرتفعة والسامية، والتصغير هنا جاء للتحبيب.
المرقد الشريف
يقع المرقد في (حي العمارة) خلف المسجد الاموي بدمشق إلى جانب باب الفراديس الذي يقع بسوق العمارة قرب مسجد مقام رأس الحسين (ع).
ويعود تأسيس مرقدها المبارك إلى سنة 526هـ، واول من بنى على قبرها السلاطين البويهيون. ومن ثم توالت على المرقد عمارات متتالية وفي سنة 1125هـ جدد بناء الضريح وبعدها عمر قبرها في زمن العثمانيين وفي سنة 1323 هـ جدد بناؤه على يد الميرزا علي اصغر خان امين السلطان ناصر الدين شاه، وفي سنة 1399 عمد الى توسعة المرقد، وفي سنة 1408هـ بدل الضريح الذي وضع على القبر في عهد امين السلطان بضريح آخر، تم صنعه على يد اربعين شخصا من الفنانين البارعين وهو في غاية الجمال والروعة.
أما في الوقت الحاضر فقد تمت توسعة المرقد ليشمل المرقد والضريح وايوانات عديدة للصلاة وتبلغ مساحة البناء الجديد حاليا نحو 4000 متر مربع، ومنه 600 متر مربع صحن وفضاء واسع وبقية البناء يؤلف الرواق والحرم والمسجد المجاور للضريح، وتعلو المرقد قبة مضلعة و وضع على القبر صخرة من الموزائيك ذات العاج والمرمر، وضريح جميل مذهب وبحجم صغير فائق الجمال والروعة في أدائه الفني، ويطوف حوله على مدار السنة وعلى مر الاجيال المسلمون من كل الطوائف، يلتمسون من هذه اليتيمة المظلومة حوائجهم بجاهها ومنزلتها عند الله تعالى، وهنالك قصص عديدة متواترة ومنشورة عن شفاء المرضى لاسيما الاطفال منهم وقضاء الحوائج.
ان وجود هذا الضريح الصغير لهذه الطفلة وفي عاصمة الدولة الاموية لهي صرخة مدوية على امتداد التاريخ والاجيال وفي عمق الانسانية، بان يعتبر الانسان ويأخذ حذره من الانزلاق في مهاوي الظلم والطغيان حتى لا يسوقه المصير الى ما آل اليه يزيد الذي ظنّ انه المنتصر فانتصرت عليه دموع رقية.
ومن روائع ما نُظم من الشعر بحق هذه الطفلة المظلومة، ما اختطه يراع الشاعر الراحل السيد مصطفى جمال الدين، ولجمال شعره ودلالاته الكبيرة كتبت الابيات بماء الذهب على ضريحها المبارك:
شطــــــــــــــــــر
في الشام في مثوى يزيد مرقد
رقدت به بنت الحسين فاصبحت
كانت سبيّة دولة تبني على
هيا استفيقي يا دمشق وايقظي
و أريه كيف تربعت في عرشه
سيظل ذكرك يا رقيةَ عبرةً
يذكو به عطر الأذان ويزدهي
وبه يطوف فم الخلود مؤرخاً
ـــــــــــــ
عجـــز
يُنبيك كيف دمُ الشهادة يخلدُ
حتى حجارة ركنه تتوقد
جثث الضحايا مجدها وتشيدُ
وغداً على وضر القمامة يرقدُ
تلك الدماء يضوع منها المشهدُ
للظالمين مدى الزمان يخلدُ
بجلال مفرقة النبي محمدُ
بالشام قبر رقيةِ يتجددُ