قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
من الصفحات المطوية في تاريخ كربلاء المقدسة. .
المرجع الشيرازي الراحل يعرض النظام الاسلامي المتكامل على أحمد حسن البكر
*حسين هاشم آل طعمة
قام الإمام الحسين عليه السلام بثورته المقدسة على ارض كربلاء ضد حكم الظالمين والمنحرفين ممن حكموا أمة الاسلام بقوة النار والحديد والدينار، ليكشف للعالم وللاجيال حقيقة الاسلام وايضاً حقيقة الحكام الذين يحكمون باسم هذا الدين الحنيف.
واذا وقفنا اليوم على مسافة نحو اربعة عشر قرناً من واقعة الطف، فهذا لايعني ان القضية طويت في صفحات التاريخ، إنما المسيرة متواصلة وجذوة الثورة الحسينية متقدة بوجه الظلم والانحراف والطغيان، ويمكن ملاحظة هذا التواصل بوضوح في رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ومن هؤلاء المعاصرين سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) الذي لمع اسمه وذاع صيته دون رغبة منه في كربلاء المقدسة في عقد الستينات من القرن الماضي. كان المرجع الراحل يتخذ من مقبرة والده المرجع الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي في حرم الامام الحسين عليه السلام، مقراً لاستقبال مختلف الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية من داخل العراق وخارجه. وفي هذا المكان جرت محاورات تاريخية مع مسؤولين كبار في الدولة العراقية في ذلك العهد، أوردها سماحته في كتابه (وتلك الايام)، وفيها أثبت سماحته وبكل قوة حقانية النظام الاسلامي في الحياة وانه الاصلح والافضل بحكم العقل والتجربة، رادّاً على كل التخرصات والمحاولات البائسة لوصف الاسلام بانه محدود بجدران المساجد وأماكن العبادة.
من جملة من استقبلهم في هذا المكان التاريخي (احمد حسن البكر) بعد فترة قصيرة من الانقلاب الذي قاده البعثيون على عبد الكريم قاسم عام 1963، وكان حينها يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية عبد السلام عارف، وحضر اللقاء من اتباع المرجع الراحل عدد من علماء الدين والوجهاء من امثال آية الله الخطيب السيد مرتضى القزويني والسيد سعيد الزينبي وثلّة من العلماء والفضلاء والمثقفين وكان عددهم يربو على الاربعين شخصاً. فيما كان وفد البكر يضم حوالي عشرين شخصاً، وممن كان يرافقه وزير الاصلاح الزراعي ومدير الامن العام ومدير الشرطة العام وعدد من الوزراء.
يصف سماحة المرجع الشيرازي هذه الزيارة وهذا اللقاء التاريخي، بقوله: (... ولربما كانت رغبتهم في لقائنا ليسمعوا منّا ما نريد ان نقوله لينفذوا بعض ويتركوا البعض الآخر، فقد كنّا سابقاً نلتقي بوفد الحكومة في العهد الملكي وعهد الشيوعيين، وكنّا نطالبهم بتطبيق الشريعة، لذلك عُرفنا لدى الدوائر الحكومية اننا نحمل هموم الشعب نريد تطبيق الاسلام، ولربما كان الهدف من الزيارة هو الخداع والتضليل، أي اظهار الموافقة على مطالبنا وتبطين المخالفة لنا. ولربما كان الهدف هو تقليد الحكومات التي تدعي انها جماهيرية ومنبثقة من الشعب).
يروي سماحة المرجع الشيرازي (قدس سره) ما جاء في ذلك اللقاء:
جاء البكر إلينا، وبعد مقدمة قصيرة قال: لماذا كنتم تخالفون العهدين السابقين؟
قلت: في الواقع مطالبنا من الحكومات السابقة بالتحديد هي: أن يكون نظام الحكم في العراق اسلامياً، نظراً الى ان الشعب العراقي يدين بالاسلام، فلابد ان تصبح قوانينه وأحكامه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما اشبه اسلامية.
وأوضح سماحته بالقول: اذا كانت الحكومات قد عملت بهذه النصيحة، لكانت قد كسبت محبة الناس، وضمنت لنفسها البقاء والاستمرار في الحكم. والحكومات التي تكون عكس تيار الشعب تكون محكومة بالزوال والفناء. واضاف ايضاً: بان الشعب يشبه النهر الجاري، والحكومة بقعة صغيرة طافية فوق النهر، فاذا اخذ قسم من ماء النهر لونا خاصا، فانه سيضمحل هذا اللون بعد فترة وجيزة من الزمن، فالنهر لايأخذ لون البقعة حتى لو غطت سطحه. ثم نصح المرجع الراحل في حديثه للبكر بان (عليكم ان تعملوا جاهدين من اجل ان تصبحوا شعبيين، تحكمون قلوب الناس حتى يحبكم الناس ويساندوكم في اعمالكم وبرامجكم). ثم ضمّن حديثه تحذيراً مبطناً بان (الناس ليسوا مجموعة من العبيد والإماء حتى تتحكموا في رقابهم)!
هنا امتعض وزير الاصلاح الزراعي – يقول المرجع الشيرازي في كتابه- وقاطعني ظنّاً منه انه يحاول ان يتدارك الموقف، وقال: تعلمون ان السيد احمد حسن البكر هو رجل شعبي ومن علائم شعبيته مجيئه اليكم والتحدث معكم في هذا الموضوع، وجلوسه على الارض!! فقاطعته قائلاً: أسكت...! نحن نعرف حاكماً شعبياً هو الإمام علي عليه السلام الذي يجلس على الارض وينام عليها، وكان يجلس في مسجد الكوفة لقضاء حوائج الناس، وكان من على ذلك المكان يصدّر احكامه في القضاء والسياسة وما اشبه ذلك، وما زالت هناك دكة تسمى بدكة القضاء في مسجد الكوفة كان الامام علي عليه السلام يجلس عليها اثناء القضاء. ويحدثنا التاريخ – يواصل السيد المرجع حديثه اللاهب - ان الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام كان يتجول في الاسواق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان يقف في الطريق، ليحل مشاكل الناس، وعندما ينهي اعماله يذهب الى دكان ميثم التمار، يجلس عنده واحيانا عند غياب ميثم كان الإمام عليه السلام يبيع التمر مكانه وقبل الامام عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفعل ذلك، فقد كان رجلا شعبيا يعاشر الناس البسطاء ويجالسهم. ونحن نريد من حكومتنا ان تتصرف بهذه الكيفية، حتى تكسب قلوب الناس وعواطفهم، ويبقى ذكرهم في خير.
ولما ادرك احمد حسن البكر اني لم اترك فرصة لوزير الزراعة ليثر شبهاته، التفت اليه وقد بانت عليه ملامح الغضب وقال: اسكت...! حتى ينهى السيد حديثه وموضوعه.
يقول المرجع الراحل: (فطفقت اتكلم بملء فمي)، وراح يتحدث عن التكامل في النظام الاسلامي، وانه نظام يستند على رسالة السماء لا نقص فيها ولا خلل، وقال: (ان الاسلام ليس بحاجة الى من يكمله سواء كان ذلك مجلس قيادة الثورة او قوانين الشرق والغرب، فقوانين الاسلام ثابته ودائمة وهي نصوص واردة نحو: (حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة. وهناك قواعد عامة جعلها الاسلام للمسائل المتجددة والمتطورة، تنسجم هذه القواعد مع اختلاف الزمان والمكان).
وبعد حديث مسهب عن الاحكام الاسلامية المتجددة، اقترح المرجع الراحل للبكر بتشكيل (لجنة من علماء السنة والشيعة يقوم كل على اجتهاده ولاتباعه باستنباط الاحكام الجزئية من تلك القواعد الكلية وتقديمها للدولة كما تفعل اليوم بعض الحكومات الكبرى كبريطانيا مثلاً). وجاء بمثل من القضاء البريطاني الذي يستند في إصدار قرارته على العرف والعادة، حيث يجلس القضاة ويستنبطون احكامهم على أساس تلك القاعدتين، وقد كسب القضاء بذلك رضا الناس على الاغلب خلال فترات منصرمة من تاريخه، والسبب هو انه ينطلق نسبيا من المصلحة العامة وليس من المصلحة الخاصة، فالذي يخسر القضية لايخسرها بسبب عوامل ذاتية، والناس يعرفون ان القاضي لايظلم، وإنما يحكم على اساس العرف والعادة, كما يعرف الخاسر أنه خسر مصلحته الخاصة، لكنه ربح كثيراً بالنظر الى المصلحة العامة، فقد اخذوا منه الحق ليعطوه لاصحابه. و وجه سماحته الحديث الى البكر انكم لوانتهجتم هذا المنهج ستكسبون محبة الناس ورضاهم، وتوفقون في الدنيا بسبب دعوات الناس لكم...).
يقول سماحة المرجع الراحل: (بعد ان استرسلت في طرح هذه الافكار قال لي احمد حسن البكر في نهاية اللقاء باني سأطبق كل ماقلته حرفياً، ولكنه لم يطبق شيئا مما قلته له بل على فعل العكس تماماً)! ويوضح سماحته السبب في ذلك بانه (ديدن الجبابرة، إذ سرعان ما انتهج حزب البعث العفلقي طريقاً معاكسا للإسلام ولمصلحة الشعب، فتحول الى حزب مبغوض ومنبوذ من قبل الناس لان هدفه كان إذلال الشعب واخضاع العراق للسيادة الغربية وخنق الحريات وقتل الكفاءات في هذا البلد العريق).
هذا ما كان من حديث المرجع الراحل، أما ما قاله البكر فيذكره سماحة المرجع الراحل بانه (حدثنا عن مبادئ حزبه، حيث ابتدأ كلامه: ان مبادئنا مستقاة من الاسلام! مثل الحرية والاشتراكية والامة الواحدة. ..)! فستوقفه المرجع الراحل بان (هناك اشكالات في كلامك... أولاً: هل ان هذه الشعارات مطابقة تماما للاسلام؟ ثانياً: هل انكم ستطبقون ماترفعون من شعارات؟)، ثم راح السيد المرجع الراحل يبين مفهوم الحرية في الاسلام وما يفهمه الغرب من الحرية، وأوضح بان (في الاسلام محاسن الاشتراكية كاعطاء الغني من ماله الى الفقراء، يقول الامام علي عليه السلام: (ان الله فرض في أموال الاغنياء اقوات الفقراء فما جاع فقير الا بما متع غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك)، ولكن ليس في الاسلام من مساوئ الاشتراكية شيء. وكذلك في الاسلام محاسن الرأسمالية يقول الله سبحانه تعالى: (فلكم رؤوس أموالكم)! اما شعار (الامة العربية الواحدة) الذي تنادون به – يقول المرجع الراحل- : فهو يختلف عن لفظ (الامة) الذي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالقرآن قصد بـ(الامة) الامة الاسلامية التي تذوب فيها الحواجز المادية من لغة ومال وجاه و اصول عرقية او قومية، بينما تقوم دعوتك حول الامة العربية على أساس اللغة فلا تعدّون الفارسي والكردي ـ مثلا ـ جزءاً من أمتكم وهذا مخالف للدين الاسلامي الحنيف وانه يمزق المسلمين وهو محرم في الشريعة الاسلامية). و واصل سماحته حديثه مؤكداً بكل شجاعة: بان (شعاراتكم لاتتفق والمعايير الاسلامية مائة بالمائة، وانكم في التطبيق ستكتشفون ان هذه الشعارات ليست إلا مجرد كلمات وألفاظ وإنكم لستم على استعداد لتطبيقها فلا وجود للحرية ولا وجود للاشتراكية ولا وجود للأمة العربية).
وهكذا ألقى المرجع الشيرازي الراحل حجته البالغة على البكر وعلى نظام الحكم الذي يعمل فيه، موضحاً له ان غير متطابق مع الواقع العراقي. علماً ان البكر كان حديث العهد بالحكم والسياسة، فقد كان عسكرياً وعضواً في حزب البعث، وقد اتخذه عارف نائباً له ترضية للبعثيين الذين انقلب عليهم وعلى البكر ايضاً في تشرين الاول من العام نفسه (1963).
والمتأمل لكلام سماحة السيد المرجع الراحل (قدس سره) مع البكر يجده وبكل وضوح قد وضع النقاط على الحروف واعطى للبكر وحكومته درساً في التعامل الصحيح مع الشعب. والامر المهم الآخر الذي نستفيده من هذا الحدث التاريخي، ان المرجع الراحل لم يكن يطلب الاثارات ولم يكن يبحث عن دور بالمرة، إنما يبغي الاصلاح والحفاظ على هوية المجتمع وعقيدته. وهذا واضح من نصائحه للبكر ولنظام حكمه. وهو في ذلك ينطلق من مدرسة الامام الحسين عليه السلام وتحديداً من مرقده الطاهر، فقد جرى هذا الحوار التاريخي على مقربة من المرقد الطاهر. ونجزم بالقول؛ ان حصول هذا اللقاء لم يكن صدفة، إنما هنالك ارادة ربانية في الأمر. فالبكر لم يكن يؤمن بشخصية الامام الحسين عليه السلام، بينما كان يحترم ويشيد بشخصية العباس عليه السلام، وعندما سُئل عن ذلك أجاب بمنطق الجاهلية التي كانت قبل ظهور الاسلام، حيث قال: (ان الحسين خارج على امام زمانه، بينما العباس قاتل منتصراً للاخوة والنخوة العربية)!