قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

أثر التشيع في شعر المتنبي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *منذر الخفاجي
لو جاءت كل أُمة بشاعرها لجاءت العرب بالمتنبي..، هذه حقيقة يكشفها شعره الذي ما فتئ يشغلها حتى الآن. فلم تعرف العرب شاعرا أعرف بلغتها وأعلم بتاريخها وألمّ بثقافتها منه، وكأنه قد قرر هذه الحقيقة قبل اكثر من عشرة قرون بقوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ
والحديث عن المتنبي حديث طويلٌ متعدد الجوانب، متشعب الاغراض، متنوع الموارد خاض فيه الدارسون على مدى قرون طويلة ولا يدعي احد أنه أحاط إحاطة شاملة بهذا الشاعر الفذ، وقد سلّم له الاولون من علماء اللغة والشعراء كما دان له المتأخرون بأعلميته. فهذا الحاتمي يقول في (الصبح المنبي) ص141: (انت ابو عذرتها - اي اللغة - وأولى الناس بها، وأعرفهم باشتقاقاتها والاكلم على افانينها وما أحد اولى بأن يسأل عن غريبها منك). ويخص الثعالبي شاعرنا بدراسة مستفيضة في (يتيمة الدهر) وقال عنه ابن وكيع في المنصف: (اما اللغة فكان فيها إماما لم تضرب العرب بعصا إلاّ وعنده منها خبر، واما الشعر فانه لسان الزمان لاينطق أو يستأذنه، واما النحو فهو على مذهبه في النحو نحوي). وحتى خصومه من الشعراء والنقاد ايضا اعترفوا بشاعريته عليهم وفضله. وتطول قائمة الاحاديث.
وبالرجوع الى الجذور الاولى لحياة المتنبي تتضح العوامل المهمة التي ساعدت في تكوين ثقافة هذا الشاعر وشاعريته ومدى تفاعله معها واستجابته لها نفسيا وذهنيا. يقول ابن الانباري في (نزهة الالباء) ص204: (ولد المتنبي في اسرة شيعية) وعن بواكير نشأته العلمية ينقل لنا محمد بن جعفر النجار المتوفى سنة 402هـ في (تاريخ الكوفة) وهو اقرب المؤرخين الى عصر المتنبي: (ان المتنبي إلتحق بمدرسة اشراف الكوفة وتعلم الدروس العلوية شعرا ولغة وإعرابا). وقد أيد رواية ابن النجار ابو الحسن محمد بن يحيى العلوي وهو ممن جاورالشاعر في الكوفة وتوفي سنة 390هـ والمعروف ان المتنبي ولد سنة 303هـ وتوفي سنة 354هـ وعلى هذا الاساس فان نشأة الشاعر بالمدارس العلوية امر مفروغ منه كما جاء على لسان معاصريه ابن النجار وابو يحيى العلوي كما اتفقت كل الحقائق والمصادر التاريخية على مساندة هذا القول فالكوفة كانت وعلى مدى قرون طويلة مهداً للتشيع ومعقلا لشيعة علي واولاده عليهم السلام. تقول هدى الارناؤوطي في كتابها (ثقافة المتنبي واثرها في شعره) ص23: (وفي ظل هذا النظام الاجتماعي الذي يتسم بالخصوصية وهذه الحياة المذهبية التي سيطرت عليها روح التشيع الى حد كبير فأن تخصيص الشيعة لمثل هذه المدارس التي التحق بها المتنبي يبدو أمرا معقولا). ويعزز بلاشير هذا الرأي كما نقله طه حسين في كتابه (مع المتنبي) ص43 بقوله: (وكان بما عرف عنه من ميل الى علوم الشيعة الذي خلفته الوراثة والنشأة الاولى في مدرسة العلويين قادراً على الموازنة بين مايعتقده وبين الاتجاهات المذهبية الاخرى). واضافة الى ذلك فان المتنبي لم يتأثر بعد الكوفة وبوسط ادبي اكثر من بلاط بني حمدان حيث قضى فيه الشاعر نحو ثماني سنين وبنو حمدان كما هو معروف شيعة اثنا عشرية واستدل مصطفى الشكعة في كتابه (الشعر في بلاط بني حمدان) ص301 بابيات ابي فراس الحمداني وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني على ذلك:
شافعي احمد النبي ومولا
ي علي والبنت والسبطان
وعلي وباقر العلم والصا
دق ثم الامين ذو التبيان
وعلي ومحمد بن علي
وعلي والعسكري والداني
والامام المهدي في يوم لاين
فع إلاّ غفران ذي الغفران
ولما كان ابو فراس ابن عم سيف الدولة وقد تربى على يديه فقد عُدّ مذهبه مذهباً للدولة ونجد. الكثير من امثال هذه الابيات في شعر ابي فراس كما كان البلاط الحمداني يضم كبار الشعراء والادباء الشيعة الذي التحق بهم المتنبي، فأضافة الى ابي فراس فقد كان البلاط يضم الصنوبري والنامي والناشئ الصغير والسري الرفاء وابو الفرج الببغاء والوأواء الدمشقي وكشاجم ومن العلماء ابو علي الفارسي والتنوخي والشمشاطي وابن خالوية وغيرهم، وكانت هذه الامارة - بني حمدان - تنافس بغداد عاصمة الخلافة على الرغم من حداثتها في ذلك الوقت كما يقول طه حسين، إذن فقد ولد المتنبي في الكوفة في اسرة شيعية وجهته توجيها شيعيا والحقته بمدرسة اشراف العلويين وتلقى مبادئ علوم الشيعة فيها ثم انتقل الى بيئة الحمدانيين وهم شيعة وخالط علماءها وشعراءها، وعلى الرغم من ان ديوان المتنبي قد خلا من الشعر الشيعي الذي يتضمن مآثر اهل البيت وفضائلهم ورثائهم وقدح مناوئيهم وغاصبيهم حقهم، كما هي عادة الشعراء الشيعة وكما تضمنته دواوينهم من ذلك، إلا اننا نجد بصمات واضحة تدل على ولاء المتنبي وتشيعه واعترافه بأفضلية اهل البيت على غيرهم وقد أحس معاصروه بهذا الامر في عدم تعرضه لقضيه أهل البيت فسأله بعضهم: (لِمَ لم تذكر عليا)؟ فقال في ذلك بيتين نقلهما الواحدي في (شرح ديوان المتنبي) ص (856) تمثل بالحقيقة بطاقة التعريف الشيعية للمتنبي:
وتركت مدحي للوصي تعمداً
إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
واذا استقل الشيء قام بنفسه
وصفاء ضوء الشمس يذهب باطلا
وتبدو روح التشيع هنا طافحة فأضفاء لقب الوصي على اسم الامام علي بن ابي طالب عليه السلام هي مما عُرف عن الشيعة، وكونه عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله ثم ان البيتين فيهما دلالة على عظم قدر الممدوح وانه مما يعجز عن ايفاء حقه اعظم الشعراء، كما نجد بين ثنايا قصائده هذا الحس الشيعي الذي يفيض في صدر الشاعر الولائي بمدح اهل البيت عليهم السلام وذكر فضلهم كما ورد في مدحه لطاهر بن الحسين العلوي بقوله:
الطيب مما غنيت عنه
كفى بقرب الامير طيبا
يبني به ربنا المعالي
كما بكم يغفر الذنوبا
وفي الشطر الاخير يشير المتنبي الى مبدأ الشفاعة الذي اختص به النبي صلى الله عليه وآله واهل بيته الاطهار عليهم السلام وهي من مبادئ الشيعة وفي موضع آخر يشبه اهل البيت عليهم السلام بأنهم من معجزات الرسول وآية لتصديقه وتحقيقا لقوله تعالى: "ان شانئك هو الابتر" ردا على المشركين الذين قالوا (ان محمداً ابتر ولا عقب له)! فيقول:
نصرت عليا يا ابنه ببواتر
من الفعل لافلٌ لها في المضارب
وأبهر آيات التهامي انه
أبوك وأجدى مالكم من مناقب
فقد مدح العلويين بانتسابهم الى الرسول الاكرم وجعل ذلك احدى مناقبهم الكثيرة. و روى ابن فورجة في (شرح مشكلات ديوان المتنبي) ص163 البيت برواية يقول فيها:
(يعني ان اباك علي بن ابي طالب كان آية من آيات الرسول)، ويقول في نفس القصيدة يصف ابناء فاطمة بقوله:
كذا الفاطميون الندى في بنانهم
أعزّ امّحاء من خطوط الرواجب
والرواجب مفاصل الاصابع كما نراه يشيد بالمميزات التي يمتاز بها العلويون والصفات الموروثة عن آبائهم من مكارم الاخلاق فيقول:
اذا علويٌ لم يكين مثل طاهر
فما هو إلا حد حجةٌ للنواصب
هو ابن رسول الله وابن وصيه
وشبههما شبهت بعد التجارب
فحييت خير ابن لخير أبٍ بها
لا شرف بيت من لؤي بن غالب
والشاعر عندما يريد ان يصف ممدوحه فأنه يشبهه بالمثل الاعلى الذي يراه بغض النظر عن الفارق الكبير بين الممدوح وذلك المثل الاعلى فهذا هو ديدن الشعراء وخاصة المتنبي عندما مدح سيف الدولة بعد انتصاره على الاخشيديين بقيادة محمد بن طغج فشبه تلك المعركة بصفين فقال:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له
خير الخلائق والانام سمي
انظر الى صفين حين دخلتها
فانحاز عنك العسكر الغربي
فكأنه جيش ابن هند رعته
حتى كأنك ياعلي عليّ
كما لم يخلُ شعره من كرهٍ لخلافة بني العباس أو (دولة الحزم) كما يسميها بقوله:
لأتركن وجوه الخيل ساهمة
والحرب أقوم من ساق على قدم
بكل منصلت ما زال منتظري
حتى ادلت له من دولة الخدم
وفي هذين البيتين نفس ثوري شيعي واضح ولعل فيما قدمناه يعطي صورة عن جذور ثقافة الشاعر والعوامل التي ساعدت على انمائها.
*المصادر
ـــــــــــــــ
1.شرح ديوان المتنبي ـ الواحدي
2.ديوان ابي فراس الحمداني ـ تحقيق سامي الدهان
3.الصبح المنبي عن حيثية المتنبي ـ البديعي ـ تحقيق محمد شتا د. مصطفى السقا
4.الشعر في بلاط الحمدانيين ـ مصطفى الشكعة
5. شرح مشكلات ديوان المتنبي ـ ابن فوجة
6.ثقافة المتنبي واثرها في شعره ـ هدى الارناؤوطي
7.مع المتنبي ـ طه حسين
8. حياة الشعر في الكوفة الى نهاية القرن الثاني الهجري ـ يوسف خليف
9.شرح ديوان المتنبي ـ العكبري / تحقيق عبد الحفيظ شلبي وابراهيم الابياري ومصطفى السقا
10.الامثال السائرة من شعر المتنبي ـ الصاحب بن عباد. تحقيق محمد حسن آل ياسين