قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الحرية.. جوهرة ثمينة لا تباع في الأسواق
*طاهر القزويني
كثر الحديث عن الحرية، كما كثُر المطالبون بهذه القيمة الانسانية الرفيعة، لكن المؤسف حقاً أن لانجد آثاراً حقيقية لهذه القيمة عند الناس مع تحقق تطورات نوعية كبيرة على الاصعدة السياسية والاجتماعية، كما حصل في العراق وبعدها في بلاد عربية عديدة. فهل الحرية بالضرورة مؤطرة في صورة القضبان الحديدية المحطمة والسلاسل المتقطعة؟ أم لها أبعاد أخرى؟
ان الحرية قبل ان تكون مطلباً رغباته المادية وهي من حقوقه، كأن لا يعتقل دون سبب، ولا تقيد حركته بشكل مفاجئ ولا يكمم فاه في مطالبة حقّة، فهي قضية معنوية تفصح عن الحالة البنوية للانسان وتكوينه، لذا قد نجد شخصاً حراً طليقاً يفعل ما يشاء ويذهب أينما اراد بسيارته الفارهة وأمواله الكثيرة، لكنه يتوقف عند الحاكم والسلطان بعد ان باع قلمه وموقفه وسمعته له. في مقابل هذا النموذج نجد محدودي الدخل ربما يكونوا مرتهنين بعجلة هذا التاجر او ذاك المدير وصاحب رأس المال، لكن تجد يده بيضاء بالعطاء لامتلاكه النفس الطيبة والقلب المرهف. هنا نعرف من هو الحر ومن هو العبد؟!
لقد اعتاد الطغاة أن يشتروا ذمم بعض الناس الذين يوالونهم، فمن كان عبداً لأهوائه وذاتيته، يكون طعمة سائغة للطغاة ويجعلونه مطيتهم في تحقيق الأهداف العليا. بينما نجد أن الشخص الآخر وعلى الرغم مما به من حاجة إلا إنه لا يتنازل عن عزته وكرامته من أجل حفنة من الأموال أو منصب إداري وغير ذلك.
فالحرية الفردية تنبع أول الأمر من ذات الإنسان ومن صميم إرادته، فإذا كان عزيزاً وكريم النفس فإنه لا أحد يستطيع أن يصادر حريته و يستعبده حتى وإن جربوا بحقه أنواع الأساليب القهرية، وقد لاحظنا في العراق كيف أن نظام صدام البائد حاول أن يركع فئة من الشباب المؤمن فلم يفلح في كسر عزتهم وكبريائهم، بينما كان كثير غيرهم على استعداد لبيع كل شيء من أجل كسب رضا السلطان.
المشكلة هنا ليست أن الحكومة تستخدم أساليب القهر والإذلال لتستعبد الناس، بل أن هناك من لديه الإستعداد لقبول العبودية بأقل الأثمان فهنا الإستعداد ذاتي وليس له علاقة بالظروف الخارجية. ونحن نجد في الثقافة الإسلامية أن هناك علاقة بين الانقياد للشهوات والأهواء وبين العبودية السياسية والإجتماعية، فكلما كان الفرد ضعيفاً أمام شهواته فإنه سيكون بنفس الضعف أمام العدو الخارجي، وهكذا يمكن تقسيم أعداء الانسان إلى قسمين: العدو الداخلي و العدو الخارجي. فإذا فشل المرء أمام عدوه الداخلي سيستسلم قطعاً أمام عدوه الخارجي، أما إذا كان صلباً أمام عدوه الداخلي فإنه سيكون بنفس مستوى الصلابة أمام عدوه الخارجي.
إذن؛ من أجل تقوية أنفسنا أمام أعدائنا الخارجيين يجب أن ننتصر على عدونا الداخلي، وكلما حققنا نجاحات حقيقية على هذا الصعيد، سنحقق نفس المقدار من النجاح على الصعيد الخارجي.
مثالاً على ذلك؛ في العراق وطيلة السنوات الماضية هناك من يسعى لأن يلقي بمسؤولية الإرهاب والخروقات الامنية على العدو الخارجي، كالقاعدة أو القوات المحتلة أو الاطراف الاقليمية وغيرها، ونحن لاننفي ذلك، ولكن أليس هؤلاء الاجانب أو الأعداء الخارجيون يستخدمون الأراضي العراقية؟ أليسوا هم يتعاملون مع عراقيين؟ أليسوا هم يجدون من يتعاون معهم ومن يمنحهم الشرعية؟ إذن؛ العدو هو في الداخل ويجب أن نضع حداً لهذا العدو الداخلي حتى نستطيع أن نمنع الأغراب عن التدخل في الشأن العراقي
ذلك السوري أو الجزائري أو السعودي الذي يأتي إلى العراق من أجل القيام بعمليات إنتحارية لايستطيع أن يقوم بهذه الأعمال إذا كان بمفرده، لابد من وجود عراقيين منحوه الأرض التي يسكن فيها، وهناك عراقي يعبره الحدود، وعراقي يجلب له الغذاء، وعراقي يجلب له الأسلحة، وعراقي يجلب له السيارة التي سيفجر نفسه فيها أمام المسجد أو الحسينية، هؤلاء كلهم عراقيون وهم أعداء الوطن والحرية والإنسانية، ويجب التصرف مع هؤلاء قبل التصرف مع الأعداء الذين اتوا من الخارج.
فهؤلاء لايريدون الحرية للعراق، ولايريدون أن يعيشوا أحراراً، هم باعوا أنفسهم لقوى أجنبية وإقليمية من أجل الإضرار بوطنهم ومقدساتهم وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء سنجد أن هؤلاء هم تربية الطاغية البائد الذي أراد أن يحول الشعب العراقي إلى مجموعة من العبيد لكنه لم يستطع إلا أن يغير فئة من الناس هؤلاء الذين ارتضوا أن يكونوا عبيداً وأذلاء على طول الخط.
وعلى الرغم من احتلال العراق من قبل القوى العظمى إلا إن هذا الاحتلال لم يكسر من عزة وكرامة هذا الشعب الأبي الذي لن يرتضي الضيم والعبودية، وقد جابه هذا الشعب الإحتلال بقوة إرادته وتمكن أن يفرض شروطه عليه، وقد وصف الإمام الصادق عليه السلام شخصية الإنسان الذي يقدر الحرية بأحسن وصف حيث يقول: (إن الحرّ حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً كما كان يوسف الصديق الأمين، لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر). - بحارالانوار ج71، ص96 -.
هذا أعظم وصف للإنسان الحر الذي لايتنازل عن كرامته وعزته في كل الظروف والأحوال، فهو حتى وإن كان في قيد الأسر فأنه يتصرف بشجاعة من دون إنكسار أو ضعف.