قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

دلالة النهر في النص
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة جاسم عاصي
شكلت موجودات الطبيعة، عمومياتها وجزئياتها، عناصر مهمة في العمل الابداعي إذ نجد أن تلك العناصر بخصوصياتها الجمالية، خير رافد يضفي على عملية الإبداع ديمومة اتصالها بجماليات المكان والبيئة وخصوصياتها وكان للرواية والقصة مثل هذا التماس المباشر والمستمر لا بسبب سعة المساحة القادرة على الوصول بها الى حد الرمز والدلالة بل لإمكانيتهما في التعبير عن حالات نفسية واجتماعية وسياسية بعيدة الغور والتأثير في تحول المجتمع واستمرار حركته.
ويبدو أن النهر والبئر وبقية مصادر المياه كذلك عناصر الطبيعة كالأشجار شكلت روافد غنية لإشباع حاجات المبدع للتعبير وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعالم الطفولة التي خلقت ألفة بين الشخصية والمكان – ونعني به النهر – فالكاتب يستنهض هذا الخفي من الأحاسيس والرؤى والمشاهدات المخزونة في عقله الباطن ويعطيها مؤشرات جديدة طقسية مرتبطة بالميثولوجيات والحكايات والشعيرات الأخرى التي استنبتها العقل البشري وسط بيئات مفعمة وغنية بالرموز الدالة استطاع المنتج أن يؤسس من خلالها مقولات ومعتقدات ارتبطت بالموروث الشعبي الذي زخرت به بيئة الريف والمدن ذات الطابع الريفي وحولت كل الأشياء الى رموز ومدلولات والى نوع من الحكايات المتوارثة عن الأجداد.
النهر ومصادر المياه كالأهوار والبحار والآبار كانت خير عون لكثير من الكتاب حيث وظفوها كدلالات على حركة الحياة ونمو وتطور الفعاليات. ولعل – حنا مينة – واحد من المبدعين العرب الذين اهتموا بالبحر وأسقطوا أفكارهم عليه واستمروا في تأكيد دلالاته وهنا لا بد من ذكر قصيدة ميخائيل نعيمة الموسومة – النهر المتجمد – وكذلك رواية سد هارتا لهرمان هسه ودلالة النهر فيها وقد شمل هذا أعمال كثير من الكتاب: شولوخوف – همنغواي – أوكارا وغيرهم فهؤلاء حولوا هذا الرافد الطبيعي الى طاقة للتعبير عن الأفكار والهواجس ومنحوه دلالات خاصة استجابت للكوامن النفسية ولأحلام الطفولة المختزنة.
والذي يهمنا في هذا البحث هو مدى ما كان للرواية والقصة من علاقة بهذا المضمار واعتقد أن بعض الأعمال باستخدامها النهر لا تمثل نمطاً واضحاً ومتبلوراً ثم دالاً بقدر ما مثلت ظاهرة وردت سريعة دون تركيز يمنحها موقعاً يعبر عما هو مخبأ أو ضامر ونعني به الدلالة بينما نجد للنهر وضمن ما درسنا من نصوص دلالات متعددة لكنها تنحصر في الظواهر النفسية والاجتماعية والسياسية وهي بالتالي تؤرخ – أي الأنهار كأماكن – حياة الشخصيات وتمنحها قدرة على التأثير والخلق والوجود الفاعل في الواقع وهو بالتالي منعطف لإدراك الأشياء والظواهر الخفية وبذلك يكون هذا الإرتباط إرتباطاً حياتياً يؤشر الصيرورة عند الشخصيات.
ولحركة النهر وقوة جريانه دلالات تعبر عن الزمن خاصة الزمن الصعب أي إن بعض النماذج تقيس زمنها من خلال حركته سواء كانت سريعة أم بطيئة وهو بهذه المستويات يؤشر دواخلهم أي إيقاع الزمن وثقله على نفوسهم وتشكيلهم السايكولوجي.
لقد انصاعت الشخصيات الى ما تشكل من هذا المصدر من معتقدات وطقوس هي نوع من التسلط الذي أسس بنيتها الفكرية ووعيها الاجتماعي والسياسي كما أنه المصدر لاكتمال انسانيتها وارتباط قوي بعالم الطفولة أي النشأة الأولى للإنسان لذا فإننا استندنا الى أكثر من منهج في دراسة هذه النماذج الروائية والقصصية.
إن مخيلة الروائي والقاص تلعب الدور الأساس في تعميق تأثيرات مفردات الحياة وخلق دلالاتها الأمر الذي يتطلب من المبدع استيعاب الموروث الشعبي وحكايات الأسلاف سواء كانت النظرة هذه على المستوى المحلي أم العالمي ثم النظرة الفاحصة والواعية الى حركة الحياة وتطورها وحاول بعضهم أسطرة الواقع وتأليف مفرداته على نحو متخيل اعتماداً على الحكاية والموروث الشعبي ومحاولة إكسائها بنمط أسطوري وحكئي مخلّق.
لقد نجح الكتّاب الذين تناول البحث آثارهم في توظيف النهر بإتجاه دلالات متنوعة بحيث كان للتعبير عن الحالات التي تناولوها طاقة خاصة ومتميزة شحذت المتخيّلة الإبداعية من أجل التوغل في الجزء الغامض من النفس البشرية عبر نمط ابتكار الحكاية واستخدامها استخداماً بارعاً.
لقد شمل البحث دراسة الأهم من النصوص والاكثر رصانة في الاستخدام والتوظيف مما دفعنا الى تقريب أوجه اهتماماتها باستقراء خصائصها وتصنيف اتجاهاتها بعيداً عن سلطة وجهات النظر الأخرى وأخص بالذكر منهم ميشيل بوتور.
وعبر ما يلي من قراءة يمكن حصر وإجمال الخصائص تلك بما يأتي:
1- محاولات و اضحة لأسطرة الواقع وذلك بالعمل على دمج ما هو متخيّل بما هو موروث عبر منطق ميثولوجي مع ما يمثل الواقع ثم الاستفادة مما هو دال في المعتقد في قيمة الأنهار وقدسية الماء وهذا الإتجاه أستحضر طاقة المياه خاصة الأنهار عبر جريانها لكي يعبر عن حالات انسانية كبيرة خاصة في أزمات الحروب.
2- استنهاض ما ضمر أو خُبئ من أحلام الطفولة والتشكل وربط حركتها ونموها بالأنهار واعتبارها دلالات أشرت وأرخت للشخصية ورسمت حياتها وشهدت انكساراتها وانتصاراتها.
3- كان للأنهار والمياه دلالات ترمز الى الإخصاب وهنا يتحدد هذا المنحى مرة في اخصاب الحياة من بعد جدب كالأمطار وتدفق الماء من الآبار أو دفقه في الأنهار وفي هذا ارتبط مع دائرة الحيازة هذا بالاقتراب من مجاري الأنهار وضفافها أو الخوض في مياهها.
4- شهدت الأنهار صراعات الانسان سواء كان هذا الصراع مع الطبيعة من أجل توفير لقمة العيش وإعادة التوازن في الحياة أم صراعه مع الآخرين المناهضين له في الموقف خاصة الصراع الطبقي ورفض ظاهرة الاستغلال والاستلاب.
5- محاولة جعل مياه النهر الحاضنة التي تشهد حالة صراع الانسان وفي هذا نرى أن المخيلة تلعب دوراً في تفعيل السرد والوصف وبالتالي تؤدي الى إحالة النص الى حافة الإسطورة.
6- يشكل النهر في بعض النصوص كذاكرة تستنهض كل ما هو خفي أمام النموذج وبهذا التذكر تمكن السارد من إعادة القيمة الكبيرة أو الحلقة المفقودة التي بحث عنها وهذا له علاقة شكّل تاريخاً للشخصية.
7- بعض النصوص استفادت من الأنهار من أجل عكس ما هو ساكن في الحياة وتجسيد ما هو قبيح فيها مقابل تجدد الحياة عبر حركة مياه النهر وجريانها ودوام تجدد الماء وفي هذا استخدمت شتى المرموزات للتعبير عن مثل هذه الافتراضات.
8- إبراز حدة التناقض والتمايز داخل المنظومة الاجتماعية وللنهر في هذا دور هو دور الشاهد.