قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الصديق والصداقة في الشعر العربي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي ياسين
الصديق، كلمة كم نتداولها؟ ولكم نفتقدها؟ وكم نبخس حقها دون ان ندري؟! ودون أن نعرف أي معنى تحمل؟ فقد يخطر ببال الكثير المعنى الاجتماعي المتداول لهذه الكلمة وما يحمل من عواطف ايجابية بسيطة ولكن في الحقيقة هو اكبر من ذلك بكثير وأعمق وأوسع، فالصداقة هي قضية ومسؤولية و واجب وليس مجرد عواطف، فالصديق هو الروح المحببة في السراء والقوة المساندة في الضراء وهو المصاحب في الافراح والاتراح.
الصداقة عند علي بن أبي طالب (ع)
والصداقة هي التلازم والتكاتف والتشارك و اروع معنى لهذه الكلمة يقدمه لنا سيد البلغاء والمتكلمين الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام بقوله: (أصدقاؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك. واعداؤك ثلاثة: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك) وهذه الكلمة على قصرها فأنها تبين المعنى الحقيقي للصديق بوضوح فالصديق لا يمكن ان يمالئ عدو صديقه عليه، فروح الصداقة تأبى على الانسان ان يكون صديقا منافقاً وليس بوسع الانسان ان يحب الشيء ونقيضه، جاء في قوله تعالى: "ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه" فالإمام يرفع هذه الكلمة من معناها المادي الى معناها الروحي ويعطيها ابعاداً معنوية عظيمة ويرسم صورة الصديق بأسمى صورة وارقى معنى كما في قوله:
همومُ رجالٍ في أمورٍ كثيرةٍ
وهمي من الدنيا صديقٌ مساعدُ
يكون كروحٍ بين جسمين قسمت
فجسمهما جسمان والروحُ واحدُ
ان امير المؤمنين عليه السلام يرى ان الصديق الحق من يؤثر صديقه على نفسه ويذب عنه ويقيه بنفسه:
إنّ أخاك الحق من كان معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدّعك
شتت فيك شمله ليجمعك
ولنتأمل في هذا المعنى العظيم لهذه الكلمة ونقيسها على واقعنا المزري الذي انعدم فيه وفاء الاصدقاء فكم ضيع اناس صداقات لاسباب تافهة لايعدو بعضها الكبر والغرور والنميمة والحسد والامام عليه السلام يصف الصديق بصفات فاذا لم يحفظها ولم تكن عنده فلا فائدة ترجى منه:
اذا ما المرء لم يحفظ ثلاثا
فبعه ولو بكفٍ من رماد
وفاء للصديق وبذل مالٍ
وكتمان السرائر في الفؤاد
والامام (ع) يبين ما يلزم الصديق نحو صديقه بقوله:
أخوك الذي ان ابهضتك ملمةٌ
من الدهر لم يبرح لها الدهر راجما
وليس أخوك الذي ان تشعّبت
عليك أمورٌ ظلّ يلحاك لائما
وله (ع) أشعار في صفات الصديق وندرتها وكثرة غدر الاصدقاء، فما اكثر ما أبتلي به امير المؤمنين عليه السلام من هؤلاء المنافقين الذين غدروا به وجانبوا الحق فليس اكثر عذاباً للنفس الشريفة من غدر الصديق وممالأته لعدوه ونسيانه حق الصداقة. ونجد هذه المعاناة عند الشريف الرضي وهو حفيد أمير المؤمنين عليه السلام المتفرع من شجرته والذي تعرض لغدر وخيانة الاصدقاء، فنرى كمّا هائلاً من هذا المعنى في شعره وهي ظاهرة ليست عجيبة، فالشريف وما يتمتع به من نفس سامية وروح عالية وسجية شريفة من الطبيعي ان يخلق في الصدور الحسد والغيرة فتتدرج الكراهية بابشع صورها ثم الانتقام اللئيم، فنرى شعره قد امتلأ بهذه اللوعة:
اشكو النوائب ثم اشكر فعلها
لعظيم ما ألقى من الخلّانِ
واذا أمنت من الزمان فلا تكن
إلا على حذرٍ من الاخوانِ
وظلّت خيانات الاصدقاء تتوالى ونفاقهم يستمر فكانت هذه معاناته المستديمة:
فكم صاحب تدمى عليّ بنانه
ويُظهران العزّ لثم بناني
يضم حشا البغضاء عند تغيّبي
ويجلو جبين الود حين يراني
وغدر الصديق جرح لا يندمل، دائم النزف فيأتي صوت الشريف الرضي أنينا حزينا مفجوعا:
لها الله دهراً خانني فيه أهله
واحشمني حتى احتشمت الاعاديا
فلست أرى إلا عدواً مكاشفاً
ولست أرى إلا صديقاً مداحيا
وكان الشريف يرى ان كل فاجعة أيسر من انعدام الصديق لان الصداقة تعني كل شيء:
توقعي ان يقال قد ضعنا
ما انت لي منزلا ولا سكنا
يا دار قل الصديق فيك فما
احسن وداً ولا أرى سكنا
ومما يزيد في جرحه ان من ينكأه كان من أقرب الناس اليه:
الا قطع الناس حبل الوفاء
و أولع بالغدر خلانيه
وصرت اعدد في ذا الزمان
صديقي اول أعدائيه
أضرُّ الانام لي الاقربون
واعدى الورى لي جيرانيه
ورغم هذه الخيانات، فقد كان الشريف يحمل بين جوانحه روح الصداقة الحقّة وقد ملأت قلبه وعقله ودمه:
على انني تحفة للصديق
يروح بنجوايَ أو يغتدي
واني ليأنس بي الزائرون
أنيس النواظر بالأثمد
وهذه هي حسرته التي أمتدت طوال حياته:
كفى حزناً أني صديق وصادق
ومالي من بين الأنام صديقُ
فكيف أريغ الابعدين لخلةٍ
وهذا قريب غادرٌ وشقيقُ
بين الأمل والرجاء
والصداقة في شعر الشريف الرضي تحتاج الى دراسة مطولة ولعل في النماذج التي قدمناها تعطي صورة واضحة عن معاناته تجاه هذه القضية. ونجد محنة الصداقة أخف وطأً بكثير عند أبي تمام رغم قوله:
من لي بإنسانٍ اذا أغضبته
وجهلتُ كان الحلم رد جوابه
واذا طربت الى المدام شربت من
اخلاقه وسكرتُ من آدابه
وتراه يصغي للحديث بقلبه
وبسمعه ولعله أدرى به
فقد حُظي أبو تمام بهذا الصديق ولكنه لسوء حظه ابعده الموت عنه فقال يرثيه:
وقلت: (أخي) قالوا: (أخ من قرابةٍ)؟
فقلت: نعم ان الشكول أقاربُ
نسيبي في عزمي ورأيي ومذهبي
وان باعدتنا في الاصول المناسبُ
مضى صاحبي واستخلف البثّ والأسى
عليّ فلي من ذا وهذاك صاحبُ
عجبت لصبري بعده وهو ميت
وقد كنت ابكيه دماً وهو غائبُ
ويتقبل بشار بن برد الصديق على علّاته وربما لعجزه عن ايجاد الصديق المناسب:
اذا كنت في كل الامور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لاتعاتبه
وان انت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فعش واحداً أو صِل اخاك فانه
مقارف ذنب مرة ومجانبه
وكذلك (ديك الجنّ) فانه يرى ان العمر اقصر من معاتبة الصديق:
خُذ من صديقك ما صفا
ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معاتبة الصديق على الغير
ولا يأبه دعبل الخزاعي بالصديق الذي لايحفظ الود فلا يبكي عليه ولا يتحسر:
كم من أخي ثقةٍ قد كنت آمله
هبت عليه رياح الغدر فانتقضا
اهملته حين لم املك مقادته
ثم انقبضت بودي عنه وانقبضا
وقلت للنفس: عديه فتى نزحت
به النوى أو من القرن الذي انقرضا
فما بكيت عليه حين فارقني
ولا وجدتُ له بين الحشا مضضا
وكعادته في أنفته نرى المتنبي يقدم حكمة بالغة، فأنه حين يفارق قوماً لا يقدرون مكانته فانهم قد خسروا فقدانه وليس العكس:
اذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ان لا تفارقهم فالراحلون همُ
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الانسان ما يصمُ
والناشئ الصغير يرى ان السكوت افضل عتاب للصديق عند هفوته وهجره:
اني ليهجرني الصديق تجنباً
فأريه ان لهجره اسبابا
واخاف ان عاتبته اغريته
فأرى له ترك العتاب عتابا
ويضيق بأبي فراس الحمداني صنيع الاصدقاء وقلّة وفائهم فيرى حتى ان قبيحهم غير قبيح:
لم أؤاخذك بالجفاء لأني
واثق منك بالوداد الصريحِ
فجميل العدو غير جميلٍ
وقبيح الصديق غير قبيحِ
اما الصاحب بن عباد فانه لا يرضى بالصديق إلا اذا كان على هواه:
الناس في اخلاقهم اصناف
وأقلهم فيه نهى وعفاف
لاتصحبن سوى التقي أخي الحجى
ان القرين الى القرين يضافُ
ويبدو ان اصدقاء الصاحب بن عباد كانوا على درجة من الذكاء والمكانة فيصف أحدهم:
واذا الصديق أدام شكري للتي
لم آتها إلا على التقدير
أيقنت ان العتب باطن أمره
فسكتُ محتشماً على التقصير
وهنالك شعراء عاشوا غربة اجتماعية قاهرة كانت نتائجها سلبية على حياتهم، فقد ألفوا انعدام الصديق واعتادوا خذلان الاخلاء فراحوا ينفسّون عن لواعجهم بهجاء الاصدقاء، يقول المفجع البصري:
لنا صديق قبيح الوجه متقبل
ليس في ودّه نفع ولا بركة
شبهة بنهار الصيف يوسعنا
طولاً ويمنع منا النوم والحركة
وأبتلي ابن الرومي كذلك بهذه الشاكلة من الاصدقاء فقال يصف احدهم:
لنا صديق وله لحية
طويلة ليس لها فائدة
كأنها بعض الليالي الشتا
طويلة مظلمة بادرة
ونختم اقوال الشعراء في الصديق والصداقة بأغرب قول في هذا المعنى وهو لصفي الدين الحلي وهو وان يكن فيه غلو واضح إلا انه يلامس الحقيقة في بعض جوانبها فيقول:
ثلاثة اصولها لم تعرفِ
الغول والعنقاء والخلّ الوفي
*المصادر
ــــــــــــ
1ـ شرح نهج البلاغة ـ ابن ابي الحديد
2ـ عبقرية الشريف الرضي ـ زكي مبارك
3ـ الاغاني ـ ابو الفرج الاصفهاني ج4
4ـ الأمالي – ا لشريف المرتضى
5- الكشكول ـ البهائي
6ـ نزهة الجليس – نور الدين المكي
7- ديوان أبي تمام
8- ديوان الشريف الرضي
9- ثقافة المتنبي – هدى الارنؤوطي
10- تاريخ الادب العربي ـ عمر فرّوخ
11ـ شعراء الطف ـ جواد شبّر
12- اليتيمة - الثعالبي