قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

أهل الكوفة بعد الواقعة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *ضياء باقر
ان المجتمع الاسلامي لم يتصف حق الوصف الا اذا وصل الى مراتب ودرجات تجعله مؤهلاً لحمل صفة الاسلام فالإسلام عقيدة راسخة في القلوب تنعكس على سلوكيات ذلك المجتمع وأهمها التضحية في سبيل الله والمبادئ التي يحملها قادته بعد معرفتهم معرفة حقيقية، وبمقدار ما تكون المعرفة واضحة، تكون الاستجابة سريعة باتباع قادة الاسلام الحقيقيين والتسليم والوفاء والتضحية في سبيل العقيدة، نقرأ في زيارة الامام ابي الفضل العباس(ع): (اشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة) وهي قمة الايمان الحقيقي والمتكامل الذي ينعكس على حامله، واذا اردنا ان نعرض المجتمع الكوفي في واقعة الطف كأنموذجاً ينبغي ان ندرسهم من خلال ردة فعلهم وسلوكهم و تسليمهم للدين، فهل كانوا كذلك؟
ان المجتمع الكوفي قد حُكِم ردهة من الزمن على يد قائد فذ هو الامام علي بن ابي طالب (ع) الذي اختار هذا المجتمع على المجتمع المدني في ذلك الوقت، وقد طرح دستوره عليهم وحكم فيهم وشرح لهم مفاهيم الدين، فربى جيلاً من العلماء والفقهاء و برزت شريحة من المجتمع تحمل ثقافة الإسلام، فعاش المجتمع العدالة والمساواة ولمسوا تواضع الامام(ع) وعلمه وتقواه وزهده وشجاعته، لكن بعد ان آل أمر الحكم بعد استشهاد الإمام علي (ع) الى معاوية (لعنه الله) وبعد عقد الهدنة بينه وبين الامام الحسن (ع) لمس أهل الكوفة الفارق الكبير بين عدل ومساواة وتقوى الامام علي، وبين سلوك ونهج ولاة معاوية وابنه يزيد، فالولاية الاموية لم يكن همها إلا السلطة على عكس الإمام (ع) الذي كان ينظر الى المجتمع قبل كرسي الحكم، فقد كان يهتم بالصغير قبل الكبير ويتجول في اسواق الكوفة آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر بل إن من تواضعه كان ينوب عن ميثم التمار (رضوان الله عليه) لبيع التمر بدلاً عنه.
اما الحكام الاميون فقد كان دأبهم التكبّر والطغيان وتجاهل القيم الاخلاقية والانسانية وكان هذا بادياً على سلوكهم وتصرفاتهم مع افراد المجتمع، من هنا جاءت صرخة المجتمع الكوفي منادياً بقدوم الامام الحسين (ع) اليه، وهنا يمكن القول بأن اهل الكوفة قد رفعوا الخطوة الاولى الصحيحة وهي معرفتهم بأهل الحكم الصحيح، حتى وصلت آلاف الرسائل الى الامام الحسين (ع) طالبين منه القدوم، ولكن هل استمروا على عهدهم للإمام؟ ولماذا حصل الذي حصل؟
إن اهل الكوفة كمجتمع ارادوا حكماً سياسياً عادلاً وعرفوا نموذج العدالة المتمثل بأهل بيت النبوة (ع) ولكنهم ارادوا من الحسين (ع) ان يقدم عليهم ويجلس على الكرسي ليحكم فيهم من دون ان يتعبوا أنفسهم أو يضحوا في سبيله إلا العدد القليل من الممحصين الذين فهموا الدين وكانوا مؤمنين وليس فقط مسلمين، وكانوا مع الإمام علي (ع) قلباً وقالباً، لكن الغالبية لم تصل الى المستوى المطلوب بحيث يفهم من ان الإمام الحسين (ع) إمام مفترض الطاعة كما لم يصل بعضهم الى مستوى التضحية في سبيل هذا الدين، والبعض الآخر عدّ أمر الحكم مسألة خلافية بين المتنافسين عليه، يرسو لمن تكون له الغلبة والقوة العسكرية فخذلوا مسلماً (ع) رسول الحسين والإمام كذلك، بعدم الإلتحاق لنصرة الحق بدافع (مالنا والدخول بين السلاطين)، والبعض الآخر عرف حقيقة الحسين (ع) وأهليته للحكم ولكن حبّ الدنيا كان أكبر من إيمانهم فهم كما يقول الإمام الحسين (ع): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يدورونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون).
نعم... إن ساحة المواجهة بين الإمام الحسين (ع) وعمر بن سعد و أتباعه المدعومين من دولة يزيد الأموية لهي أكبر بلاء يتبين منها المؤمن الحقيقي عن غيره من الذين لا يهمهم إلا الدنيا، ولذلك خرج نموذج من أهل الكوفة كان يمثل قمة الإيمان كحبيب بن مظاهر الأسدي ومسلم بن عوسجة (رضوان الله عليهما)، بينما إنحرف عن إتباع الإمام الحسين (ع) الكثير وأصطف خلف جيش عمر بن سعد لأنهم أدركوا أن الأمر سيؤول بالإمام الحسين (ع) الى الهزيمة العسكرية والخسارة المادية، إذن فالدوافع لدى جيش بن سعد كانت بين ملك الري والدراهم والدنانير والجوائز والمغانم و.... وهي نفس الثغرة التي اخترقها معاوية خلال عهد الإمام علي وإبنه الحسن (عليهما السلام)، بينما الأئمة الأطهار هم ليسوا بأقل ثراءً من غيرهم وكان بإمكانهم استمالة الناس بالأموال والجوائز، لكن هذا يتعارض ونهج الأنبياء ورسالة السماء التي طالما تؤكد على الهدف المقدس وهو سمو النفس الإنسانية وبناء الذات معنوياً، وليس الاقتصار على المادة، وشدّ الانسان بالأرض فيما هو مخلوق أساساً للآخرة.
* الحر إنموذجاَ من ساحة الطف
والسؤال هنا: لماذا خرج الحر من جيش عمر بن سعد وإلتحق بجيش الإمام الحسين (ع)؟
إن الحر لم يكن فقط عارفاًً بالإمام الحسين (ع) وقدره ومنزلته، إذ معظم الجيش الأموي وعلى رأسه عمر بن سعد يعرف الإمام حق المعرفة، لكن المشكلة والعقدة في الولاء، فالأخير كان يرى بنظرته السوداوية أن يزيداً أولى بالأمر من الإمام، وعندما أوقف الحر الإمام لم يعلم بقرار الحرب ضده، وعندما سمع خطب الإمام والكلمات اللاهبة التي أطلقها على أهل الكوفة سأل الحر ابن سعد عن رأيه بما يسمعه من الإمام، فقال بكل صلافة: لو كان الأمر بيدي لقبلت، لكن أميرك إبن زياد يأبى ذلك!!
وهنا كان الموقف التاريخي للحر وهو يجد نفسه على مفترق طرق إما يقاتل ابن بنت رسول الله ويكسب المعركة ضد الحق مادياً أو أن يخسر المعركة لنصرة الحق ليكسبها معنوياً، وفي هذا الموقف يقول بعض العلماء إن الانسان إذا وقف أمام خيارين أو طريقين أحدهما لله والآخر للدنيا، فهو لا يختر طريق الله إلا وهو في حالة من الإيمان العميق، ومن هنا نعلم الفرق بين الحر (رض) وغيره من قادة الدولة اليزيدية فالحر لم يكن على إنحراف في العقيدة والسلوك في حياته بل كان ذا إيمان راسخ استطاع أن يميز الحق عن الباطل أولاً ونصرة الحق ثانياً.
ومن هنا نفهم أن ما قامت به العقيلة زينب (ع) بعد سبيها وأخذ نساء أهل البيت (ع) الى الكوفة، من تقريع وتوبيخ لأهل الكوفة من منطلق عاطفي فهي لم تكلم اليهود حتى يدخلوا الإسلام إنما كان هدفها فضح هذا المظهر المزيف من الدين الذي ظهر به بنوا أمية وأوضحت في خطبتها من هو الإمام الحسين (ع) وأي جريمة ارتكبوها، وأكدت خطبتها بمعجزات إلهية حصلت بقولها (أ عجبتم إن بكت السماء دماً) واستمرت في اسلوبها الوجداني الراقي الذي جعل المجتمع الكوفي منكوسي الرؤوس لايقوون على التفوه بكلمة وأخذ بعضهم بالبكاء والندم، وقد كان هذا الأمر دافعاً كبيراً لأهل الكوفة لأن يعيشوا صحوة الضمير، لاسيما وأنهم اكتشفوا السراب وليس الجوائز وايقنوا إنهم كانوا دمىً بيد الدولة الأموية التي لم يلمسوا منها أي خير دنيوي ولا أخروي وهذا ما شجع على ظهور كثير من حركات التمرد والثورة على بني أمية، وظهور كثير من الحركات كثورة التوابين وثورة المختار (رضوان الله عليه).
وبعد كل ذلك نفهم إن الدين الاسلامي يتمثل في أمرين اساسيين:
الأول: الإيمان الكامل بمفاهيم وقيم الدين الاسلامي الحنيف ومعرفة قادته الربانيين الذين نصبوا من قبل الله تعالى لا بالوراثة أو باختيار الأمة، وذلك بإتباع النبي وأهل بيته (ع) وأخذ العلم منهم خاصة.
الأمر الثاني: الاستعداد للتضحية في سبيل هذا الدين وذلك برفع المؤمن درجات إيمانه بحيث يكون مؤهلاً لخدمة العقيدة و الدين متى ما طلب قادته والنصرة في سبيله وهذه التضحية لم تقتصر على وجود الشجاعة فقط بل على وجود الأهلية بإيمان يطغى على حب الدنيا فيصغر كل شيء في سبيل الدين من أهل ومسكن ومال ومنصب و….
وهذا الأمر نعيشه اليوم بانتظارنا الإمام المهدي (عج) فينبغي أن نكون على استعداد في سبيل نصرته ومعرفة رايته الحقة والانضواء تحت لوائها والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة رايته، راية الحق ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.